حرية – (21/2/2024)
حمزة مصطفى
يعرف الجميع أن الدولة العراقية بنيت على أسس مركزية حسب الوصفة البريطانية. نظام الحكم فيها الذي كان ملكيا أول الأمر والملك يملك ولايحكم تحول الى جمهوري عام 1958 بإرادة ثلة من الضباط الذين أطلقوا على أنفسهم “الضباط الأحرار”. هؤلاء الضباط الذين لانعرف بعد أكثر من ستة عقود على قيامهم بثورة أو إنقلاب 14 تموز لماذا هم أحرار دون سواهم, لكننا نعرف إنهم تأثروا بما حصل في مصر عام 1952 على يد جمال عبد الناصر و ضباطه الأحرار. لكن الفارق بين الفريقين ضباطنا الأحرار وضباط عبد الناصر أن الدولة المصرية بقيت كنظام حكم جمهوري من 1952 الى اليوم دولة مركزية يتغير فيها الرؤساء موتا “عبد الناصر” أو إغتيالا “أنور السادات” أو طردا “حسني مبارك” أو تداولا إنقلابيا للسلطة محكوم مرة بالية ديمقراطية مثلما حصل أثناء الربيع العربي عام 2011 ووصول الأخوان المسلمين الى الحكم ومن ثم إنقلاب عبد الفتاح السيسي علي أحمد مرسي. المحصلة إنه عبر كل هذه التحولات لم يتغير شكل النظام ولا مضمونه في مصر.
في العراق الأمر مختلف الى حد كبير. خلال فترة العهد الملكي كانت الدولة تدار مركزيا والمتصرف يدير اللواء عبر إرتباطه إداريا بوزير الداخلية قبل أن تأسس فيما بعد وزارة للحكم المحلي في سبعينات القرن الماضي تولت سياق العلاقة بشأن الألوية التي تحولت الى محافظات والمتصرفين صاروا محافظين. الآباء البريطانيون المؤسسون وفي مقدمتهم الأم المؤسسة مس بيل وزميلها برسي كوكس وسواهم لم يأخذوا بعين الإعتبار أن العراق بلد تعددي,أو ربما يعرفون ولكن غلسوا أو لم يهتموا بذلك. كان تركيزهم على شيوخ العشائر وعلى رجالات الدولة من زعامات مكرسة أصلا, إما من بقايا الإمبراطورية العثمانية أو العوائل البرجوازية والإرستقراطية التي لم تكن تعرف في الغالب الدنيا “شرقت أو غربت”. بعد عام 1968 ووصول البعثيين الى الحكم حيث إستمروا 35 عاما كان من بين مابدا إنه تحول مهم على صعيد العلاقة بين الدولة المركزية وبين القومية الثانية في البلاد وهي القومية الكردية بعد سنوات من بدء الإقتتال بين الأكراد والدولة بدءا من عهد عبد الكريم قاسم وماتلاه وهي إيجاد صيغة للتفاهم بشأن الحقوق الكردية التي لم تكن تتعدى آنذاك الحقوق الثقافية في الغال. ومع أن هناك حلولا كانت قد طرحت بهدف إيجاد حل للقضية الكردية وفي المقدمة منها ماسمي ببيان رئيس الوزراء الأسبق عبد الرحمن البزاز خلال فترة حكم عبد الرحمن عارف وهو ماعرف ببيان حزيران عام 1966, فإن بيان 11 آذار عام 1970 الذي تم الاتفاق عليه بين صدام حسين والملا مصطفى البارزاني بدا وكإنه صيغة متقدمة بشأن الإعتراف بحقوق الكرد من قبل بغداد.
لم يتحقق الحكم الذاتي المنشود طبقا لما كانت تتمناه الحركة الكردية لكنه تحقق بإرادة العقلية المركزية للدولة آنذاك بحيث بات الكردي طه محي الدين معروف كنائب شكلي لرئيس الجمهورية محل تندر في مختلف الأوساط سواء كانت كردية أو غير كردية. المتغير الأهم والحاسم حصل بعد عام 2003 عندما إحتلت الولايات المتحدة الأميركية العراق. لا اريد الدخول في هذه الصفحة لكن أريد البقاء في قضية المركزية واللامركزية. من أبرز تجليات التحرير أولا والإحتلال ثانيا إنه فتح الباب مشرعا ليس أمام الفيدرالية أو الأقاليم بل أمام كل صيغ واشكال اللامركزية في الحكم حتى على مستوى المحافظة والقضاء والناحية وربما القرية. هذا أدى الى تعددية الأعلام والأناشيد والتي بدأت تحتل “التكتك” وباقي مواقع التواصل والسوشيال ميديا مثلما نشاهدها في تسويق الزعماء بدءا مما يبدو زعيما تاريخيا الى عضو مجلس محافظة يمشي وتحاط به جموع من الهاتفين المصفقين مع أغنية “تكسر الظهر” وكإنه فاتح جديد للقسطنطينية. وحيث أن الدستور العراقي الذي كتب عام 2005 في ذورة نشوة المعارضة العراقية وصلاتها الوثقى مع الأخوة الأعزاء دونالد رامسفيد وكوندليزا رايس, وجو بايدن الذي كان يزور العراق مرتين في الشهر حتى بلغت زياراته 28 مرة بالإضافة الى صديقهم التاريخي زلماي خليل زادة قد منح الجميع مايريدون ومايضيفون ومايحذفون من مواد بحيث بدت الفيدرالية أو الأقاليم فتح الفتوح, بل الإنجاز الأهم. الكرد الذين يدافعون عن حقهم في تقرير المصير تعاملوا بواقعية مع بدا منجزا عندما تم الإعلان رسميا عن إقليم كردستان القائم كأمر واقع منذ عام 1991 بينما تراجع العرب “سنة وشيعة” على ما رفضه بعضهم عبر عدم التصويت على الدستور وقبله بعضهم الذي صوت بالعراضات على الدستور. اليوم نعيش لحظة فارقة في قلب الموازين والمقاييس والتصفيق والتصفيق المضاد والرفض والرفض المضاد. من هلل للأقلمة أيام ذاك يخاف منها اليوم, ومن رفضها بالأمس يرى إنها بمثابة حلا اليوم.كلا الفريقين غلطان بالنمرة على “كولة” الشحرورة صباح. فلا الفيدرالية بحد ذاتها حلا ولا المركزية. الحل في الحكم الرشيد.