حرية – (25/2/2024)
مع طرح مسلسل جديد من ست حلقات على “نتفليكس” يوثق بروز وانكفاء غريزيلدا بلانكو، نغوص في وقائع دوامة الذهان التي عاشتها “عرابة الكوكايين” من حفلات الجنس الجماعي إلى ارتكاب جرائم مدفوعة بجنون الارتياب أشعلت شرارة حرب الكوكايين في ميامي
“كلا، اسمي بيتي”، قالتها بالإسبانية بعد أن رفعت ناظريها بلامبالاة مدروسة عن الكتاب المقدس الذي تمسك به.
لكن جواز السفر الموضوع على المنضدة الصغيرة جنب سريرها، تحت غطاء رأس وبجانب مسدس عيار 38 أخبر قصة مختلفة: فاسمها لوكريشيا أدارميز. لكن حتى هذا الاسم مزيف، مثل الاسم المستعار الآخر الذي تفضله، أريشيل فينس – لوبيز.
عندما تمكن بوب بالومبو في النهاية من إدراك “الحرباء التي تغير مظهرها كما تشاء” بعد 11 عاماً من المطاردة، كانت اشتهرت بأسماء متعددة: السيدة الرمادية، والسمينة، والسمينة الصغيرة، والأرملة السوداء، والعرابة.
وفي لحظة الحقيقة تلك، عادت لتكون بيتي، اللقب الذي منحوها إياه في الماضي لوجود تشابه عفا عليه الزمن بينها وبين شخصية “بيتي بوب” Betty Boop الكرتونية، لو اعتبرنا أن الشخصية التي عرفت في ثلاثينيات القرن الماضي قضت عشرات السنين تعيش في دوامة ذهان بين حفلات جنس جماعي وجرائم مدفوعة بجنون الارتياب.
مثل كثيرين قبله، وقع بالومبو تحت سحر غمازات الذقن والخدين الشبيهة بالشخصية الكرتونية. فقبلها على خدها قبل أن يعرف عن نفسه، ويخبرها بأنه العميل الخاص في إدارة مكافحة المخدرات الذي سيتمكن في النهاية من الإطاحة بعرابة الكوكايين. خاطبها بالإسبانية فقال “أهلاً غريزيلدا”، وتابع “ها نحن نلتقي بعد طول انتظار”.
ويعود بالومبو المتقاعد حالياً بالذاكرة لواقعة اعتقالها عام 1985، فيقول للـ”اندبندنت”، “لم تقبلني، لا يسعني سوى أن أتخيل ما الذي كانت ترغب في فعله”.
أن تقتله، بحسب تخمينه. ومن دون ذرة ندم. إذ سبق لغريزيلدا بلانكو أن قتلت عشاقاً وأعداء على حد سواء. وهي تفضل التنفيذ بأيدي أحد القتلة المأجورين التابعين لها، البيستوليروز [المسلحون بالإسبانية]، الذين يقتربون على متن دراجات نارية ليطلقوا النار من مسافة قريبة وفق أسلوبها المفضل الذي عممته وزادت شعبيته، فقضت عدالة الشارع أن تغتال بهذه الطريقة، خارج محل جزارة في ميديين (كولومبيا)، عام 2012.
لكن لبرهة، بعد أن جرت من منزلها في كاليفورنيا، إيرفاين في مقاطعة أورانج يوم الـ17 من فبراير (شباط) – وكان عيد ميلادها في عطلة نهاية الأسبوع تلك – أظهرت لمحة ضعف تحت قناع الشجاعة.
وتذكر بالومبو أنها “كانت قاسية وعدائية، وهو سلوك كولومبي معتاد برأيي، لامبال، ولم تظهر أي مشاعر حقيقية، لكن عندما وضعناها داخل السيارة جلست في المقعد الخلفي جنبها واستلم العميل الثاني المقود. قدنا السيارة وصولاً إلى لوس أنجلوس وعندما اقتربنا من المحكمة ظهر عليها الاضطراب”.
وأكمل “وأعني بأن عليها الاضطراب وأمسكت بذراعي وشعرت بها ترتجف، ثم التفتت وتقيأت على كتفي. لم تتقيأ كثيراً بل أخرجت عصارة صفراء فحسب، لكنها فهمت بأن الوضع سيئ جداً. والوقت حان لكي تلتقي بمن يتهمونها”.
بعد مرور 37 سنة منذ ذلك الوقت، ازدادت مكانة بلانكو أهمية في تاريخ أباطرة المخدرات في كولومبيا، مما زاد من شهرتها إلى جانب معاصريها من كارتيل ميديين، بابلو إسكوبار وكارلوس ليدر.
وكما في حياتها، تحولت بلانكو في مماتها إلى حرباء. وجعلتها صورتها كملكة وسط الملوك تجسد في التلفزيون والأفلام السينمائية التي تجذب نجوماً أكبر ومشاهدين أكثر فأكثر.
عام مقتل بلانكو، أدت لوسيز فيلاسكيز دورها في المسلسل التلفزيوني الكولومبي، إسكوبار، رئيس الشر. بعدها، لعبت كاثرين-زيتا جونز هذا الدور في فيلم أنتجته محطة “لايفتايم” التلفزيونية عام 2017 بعنوان عرابة الكوكايين. والآن، تؤدي صوفيا فيرغارا دور البطولة في مسلسل “نتفليكس” “غريزيلدا”، الذي طرح على المنصة أخيراً. ومن المفترض أن تلعب جنيفر لوبيز دور البطولة في فيلم هوليوودي عن حياتها بعنوان “العرابة” The Godmother وما يزال قيد الإنجاز.
غريزيلدا بلانكو التي جسدت شخصيتها في التلفزيون والأفلام السينمائية كاثرين زيتا – جونز وصوفيا فيرجارا وجنيفر لوبيز
وقدمت محطة “لايفتايم” بلانكو على أنها “رائدة” فيما دعتها “نتفليكس” بـ”سيدة الأعمال الكولومبية الذكية والطموحة” بينما تمتدحها لوبيز وتقول إنها “بطلة مخالفة للأعراف”، مع أن أزواجها الثلاثة المقتولين وعائلات عشرات أو ربما مئات قضوا نزولاً عند نزوتها قد يكون لهم رأي مخالف.
وصرحت لوبيز عندما وافقت على لعب الدور عام 2019 “هي تمثل كل ما نبحث عنه في قص الحكايات والشخصيات الديناميكية – مشهورة بالسوء، وطموحة وماكرة ومخيفة”.
لكن واقع الحياة التي عاشتها بلانكو والجرائم التي ارتكبتها أقل تجميلاً من هذا الوصف. قبل فترة طويلة من اشتهارها في صفوف الجماهير المتحدثة بالإنكليزية عبر الوثائقي “رعاة البقر والكوكايين” Cocaine Cowboys وتكملته، “الاحتيال مع العرابة” Hustlin’ with the Godmother، بلغت حكاية بلانكو مصاف الأساطير في سجلات جهاز مكافحة الجريمة الأميركي.
وفي عام 1993، نشرت إدارة مكافحة المخدرات (دي إي آي) DEA مجلة داخلية بعنوان مكافحة المخدرات بمناسبة الذكرى الـ20 على تأسيس الإدارة من الرئيس السابق ريتشارد نيكسون لكي تخوض “الحرب الأبدية على المخدرات”.
وتتضمن هذه الوثيقة تسلسلاً لأهم المحطات في تاريخ الإدارة، من “شجرة العائلة” التي تعود جذورها لما قبل فترة حظر الكحول [في الولايات المتحدة]، إلى أبرز طرق تهريب المخدرات، ووصولاً إلى اغتيال العميل الخاص إنريكي “كيكي” كامارينا (الذي أدى دوره مايكل بينا في مسلسل “نتفليكس” “ناركوس: المكسيك” Narcos: Mexico).
عنصر إدارة مكافحة المخدرات إنريكي “كيكي” كامارينا، الذي عذب وقتل في المكسيك (إدارة مكافحة المخدرات في الولايات المتحدة)
وتحت الفصل المعنون “مارقون”، لائحة بأهم خمسة مارقين صادفتهم إدارة مكافحة المخدرات في أول 20 عاماً من عملها. وتصدرت بلانكو هذه اللائحة. إذ اعتبرت صيداً أثمن من مؤسس كارتيل ميديين، كارلوس ليدير. فيما لم يقتل إسكوبار سوى في ديسمبر (كانون الأول) من ذلك العام.
ووضعت إدارة مكافحة المخدرات بلانكو في المرتبة الأولى، قبل أكبر رؤوس الجريمة المحلية في المدن الأميركية: ليروي “نيكي” بارنز، زعيم أكبر عصابة مخدرات في نيويورك، وواين “أكبر” براي، رئيس منظمة تهريب في نيو جيرسي مع أذرعها المتفرعة إلى كل أرجاء البلاد، وعالم الكيمياء جورج ماركوارت المسؤول عن 126 وفاة بجرعات زائدة بسبب المخدر الذي صنعه كي يكون أكثر فعالية بـ400 مرة من الهيرويين النقي، وهو الفنتانيل الذي لم يكن معروفاً جداً عندها.
فما الذي جعل بلانكو شخصية مخيفة ذات هيبة، وجعل اعتقالها بهذه الأهمية، في وسط رجال حقبتها؟ بحسب تعبير إدارة مكافحة المخدرات نفسها عام 1993 “كانت غريزيلدا تهوى عمليات القتل. امتلأت شوارع ميامي بالجثث بسبب خلافاتها. أحاطت نفسها بفريق من الأتباع عرفوا باسم البيستوليروز (المسلحين). كان الواحد منهم يكسب حق الدخول إلى الفريق عبر قتل أحدهم واقتطاع جزء من جثته كدليل على فعلته. يحكى أن أحد أفراد البيستوليروز اغتال غريماً له بعدما اقترب منه على متن دراجته النارية وأطلق عليه النار على مسافة صفر”.
أصبحت هذه الطريقة علامة مميزة لكارتيل ميديين. ومثار التعجب اللافت في عملية اغتيالها.
“لم تكتف بقتل منافسيها وعشاقها المتمردين، بل استخدمت القتل سلاحاً لكي تلغي ديوناً لم ترغب في تسديدها. وقعت في يوليو (تموز) 1979 مجزرة دموية بشكل خاص في مركز تسوق في ميامي، عرفت لاحقاً باسم مجزرة دايدلاند”.
عندما بدأت الجثث تتكدس في ميامي، كان بالومبو قضى الجزء الأكبر من سبعينيات القرن الماضي وهو يحوم حول بلانكو. أفلتت من الاعتقال في كوينز، نيويورك، خلال “عملية بانشي” Operation Banshee عام 1974، وهي من أولى العمليات الكبرى التي نفذتها إدارة مكافحة المخدرات منذ تأسيسها قبل عام من ذلك، في 1973.
العميل الخاص في إدارة مكافحة المخدرات بوب بالومبو
ودين 12 كولومبياً بتهريب أكثر من 20 رطلاً (9 كيلوغرامات) من الكوكايين بقيمة 2.5 مليون دولار (أو ما يعادل اليوم 15 مليوناً إن احتسبنا التضخم) كل أسبوع، من عام 1972 وحتى 1974، في حاويات شحن وزوارق سريعة وحقائب وثياب وشماعة ملابس خشبية جوفاء من الداخل، وحتى قفص كلب فيه كلب حقيقي، وفقاً لتقرير نشرته “نيويورك تايمز” عام 1976 عن المحاكمة.
وعلق بالومبو بقوله “لم نرها يوماً. لم يسمع صوتها أبداً خلال التنصت على الهاتف إبان التحقيق. ولا في أي مكان آخر”.
وفرت بلانكو إلى كولومبيا، إذ حاولت إدارة مكافحة المخدرات أن تراقبها وتجعلها تنقلب على الكارتيلات الكولومبية. وأضاف بالومبو “لكن ذلك كان محض أمنيات وتخيلات لأنه لم يتحقق”.
وظلوا يتعقبونها في كولومبيا حتى عام 1977، قبل أن تبتلع أحياء المدينة كل أثر لها وتبقى لغزاً. وانتشرت إشاعات عن مقتلها بالرصاص في ميامي عام 1977 و1980 لكن لم يتسن لبالومبو أن يقترب منها إلا بعد 10 سنوات تقريباً من إدانتها للمرة الأولى خلال “عملية بانشي”.
في هذه الأثناء، معظم ما كان معروفاً (أقله خارج كولومبيا) عن بلانكو وبداية حياتها من مصدر ثان هو المخبرة التي عملت لصالح إدارة مكافحة المخدرات، ماريا غوتييريش، وكانت وكيلة سفر بلانكو ثم أصبحت صديقتها وشخصاً موثوقاً ومقرباً منها، كما محبوبتها من طرف واحد.
في الـ15 من فبراير 1943، فيما انهمك العالم في حربه على ألمانيا النازية، ولدت غريزيلدا بلانكو ريستريبو في قرطاجنة على الساحل الكاريبي في كولومبيا. بعد أن تخلى والدها عنها، اصطحبت بلانكو إلى ميديين وهي صغيرة السن وترعرعت في حي فقير حيث اعتادت والدتها، التي قيل إنها كانت مومساً ومدمنة كحول، على ضربها بوحشية.
بعد رميها في الشارع، التقت بزوجها الأول ومعلمها، كارلوس تروخييو، الذي كان سكيراً يشرب الكحول بإفراط ومزوراً على مستوى صغير. وشق الزوجان طريقهما إلى نيويورك بين منتصف ونهاية ستينيات القرن الماضي. وانتقلت بلانكو التي بلغت العشرينيات من عمرها عندها من النشل وتزوير الوثائق الثبوتية إلى “كميات صغيرة من الماريغوانا” (بحسب معلومات إدارة مكافحة المخدرات).
وقال بالومبو “دخلت في هذه الحياة منذ البداية. بعد مزاعم كون والدتها مومساً. والسرقة وتورطها بتزوير جوازات السفر والنشل، كانت الجريمة تحيط بها كل حياتها. لم يكن في حياتها أي شيء صحي وجيد. فتصبح على وشك، وأنا أقول على وشك ولا أردد هذا الكلام كثيراً، على وشك أن تشفق على شخص لم يحظ يوماً بفرصة حقيقية”.
خلال ستينيات القرن الماضي في نيويورك، لم يحظ الكوكايين بشعبية كبيرة عندما كان على شكل عجينة رديئة تسمى باسوكو أو “بازوكا”. لكن بعد تحويله ليأخذ شكل قطع أو صخور وازدياد شعبيته في أواخر ذلك العقد والسبعينيات التي تلته، تخلت “سيدة الأعمال الخلاقة” عن الماريغوانا واشترت شركة صناعة ملابس داخلية. وصنعت مخابئ سرية داخل حمالات الصدر والمشدات، ووظفت سعاة ينقلون الكوكايين الذي تستورده على شخصهم.
واستخدمت مصادر عدة للتوريد، وضغطت مثل كارلوس ليدر الذي عاصرته، باتجاه جمع الموارد وتشارك الأخطار مع مهربي مخدرات آخرين، وهكذا نشأ بالتالي كارتيل ميديين، ووضعت الأسس التي مهدت لأشهر زعمائه بابلو إسكوبار.
ويقول نجل بلانكو الأصغر وآخر من بقي على قيد الحياة من ذريتها، مايكل كورليوني بلانكو “كانت أمي داخل اللعبة منذ ستينيات القرن الماضي”. وأضاف “أعمال قذرة رائدة. أشياء لا يمكن تكرارها أبداً، لأنها كانت جنوناً تاماً”.
وأفصح كورليوني بلانكو، الذي سمي تيمناً بشخصية مايكل كورليوني من فيلم “العراب”، عن أمور كانت مجهولة في تاريخ والدته عبر مدونة صوتية (بودكاست) أذيعت عام 2019 بعنوان طاولة بيرنر المستديرة.
غريزيلدا وأبناؤها مايكل وأوزفالدو وأوبر وديكسون (إدارة مكافحة المخدرات)
بدأت بإحضار 100 بغل وعامل إلى سلسلة جبال الأنديز وجلب الصنف الكولومبي الذهبي من الماريغوانا إلى ميديين، وبعدها العالم.
وقال “وكان ذلك الحي هو الوحيد الذي يسكنه قتلة، كولومبيون – أفارقة، وعاهرات وتهريب وماريغوانا، وكانت سيدة تمسك بزمام الأمور. واسمها غريزيلدا بلانكو”.
بعد عودتها من نيويورك لكولومبيا في أعقاب “عملية بانشي” دخل الكوكايين البلوري (كراك) إلى المشهد وسرعان ما انتقلت بلانكو مجدداً إلى الولايات المتحدة وأغرقت ميامي بدفق مستمر من المخدر.
لننتقل بالوقت إلى مطلع ثمانينيات القرن الماضي، حين كان كورليوني بلانكو يترعرع في كاليفورنيا، ويختبئ في مورغان هيل، يعيش حياة خفية، ويدعي أنه فتى عادي يشاهد مسلسل كرتون هي – مان وليس آل باتشينو. كان إخوانه الثلاثة الأكبر منه سناً، أوبر وديكسون وأوزفالدو، يديرون أشغال العائلة من ميامي، وسان فرانسيسكو وبيفرلي هيلز.
وتذكر أنها “عندها كانت كياناً يأخذ شكل كارتيل ميديين، لكنها كانت الملكة. لم تضطر للإنصات إلى بابلو ولم تضطر إلى الرضوخ لأي أحد لأنها هي من منحهم طرق التوصيل الأولى”.
لم يسمع أحد صوت الحرباء ولا رأوها لما يقارب 10 سنوات. كانت قادرة أن تجعل وزنها يزيد أو ينقص 30 رطلاً (13.6 كيلوغرامات) أو أن تغير لون شعرها وتبدو ثرية أو منهكة، وتسحر الآخرين بمظهر الملكة الكولومبية أو تبدو كأية والدة أميركية في منتصف العمر من الضواحي.
لكن بحلول عام 1983، بدأت إدارة مكافحة المخدرات وأعداؤها بالإطباق عليها من خلال مزيج من الحظ ووجود مخبرين في صفوف جماعتها ولا سيما من خلال شابتين.
وقال بالومبو “العامل الذي تغير هو ميلها للعنف. ما عادت تهتم بالأعمال فعلياً كما يجب أو كما تستطيع ولا كما فعلت في الماضي”.
فجأة ومن حيث لا ندري، ورد مكتب إدارة مكافحة المخدرات في ميامي اتصال هاتفي من والدة قلقة من أن ابنتها ذات الجمال الأخاذ وصغيرة السن وناصعة البياض تواعد تاجر مخدرات يبدو أنه من أميركا اللاتينية وأنه يمتلك مال قارون: أوبر بلانكو.
كان ذلك أول ما يرد إدارة مكافحة المخدرات من معلومات عن بلانكو منذ السبعينيات وأول إشارة إلى أن أبناء بلانكو، الذين كانوا بعمر صغير أثناء “عملية بانشي” قبل 10 سنوات، شبوا ودخلوا مجال الأعمال. بعد ستة أشهر، حصلوا على معلومات جديدة بعد اعتقال جيرالدو غوميز، الكولومبي العازم على البقاء في الولايات المتحدة من أجل ابنه أميركي المولد.
بشكل تلقائي غير محسوب، ذكر بالومبو اسم بلانكو أمام غوميز الذي كان يواجه السجن 10 سنوات والترحيل. لكن غوميز لم يكن على معرفة بالعرابة فحسب، بل ربطته علاقات مودة بالعائلة منذ عمله في تصليح السيارات في كولومبيا، حين كان يصلح سياراتها ويزود دراجات أوزفالدو بلانكو النارية بشواحن تيربو. والأفضل أن قريبته كانت تواعد ديكسون بلانكو في ذلك الوقت في سان فرانسيسكو.
هكذا حصل بالومبو على خيط يتتبعه. ضم غوميز بعد ذلك إلى برنامج حماية الشهود، ولم يعرف عنه شيء منذ ذلك الحين. وتبعه آخرون لاحقاً، مثل ماكس ميرملشتاين، المهرب اليهودي الأميركي الذي يعتبر رائداً في خطوط إمداد الكوكايين من ميديين إلى ميامي. نجا الرجل في وقت لاحق من مكافأة 3 ملايين دولار التي وضعها الكارتيل لقاء رأسه، واختبأ تحت جناح برنامج حماية الشهود.
وقال بالومبو “كانت تزورها أشباح أشخاص من ماضيها وعانت الأمرين لكي تنام ليلاً. أخبرنا ماكس أنها اعتادت أحياناً على استقدام شابات تستخدمهن للنوم معها، وبعد ذلك هناك اللقاءات الجنسية مع بعض هؤلاء الشابات خلال حفلات الجنس الجماعية المجنونة التي استضافتها في ميامي”.
كما أخذ الأعداء أيضاً يطبقون عليها. قال بالومبو إن بلانكو تحولت إلى هدف بعدما قتلت أحد أقارب خورخي أوشوا، أحد مؤسسي كارتيل ميديين الآخرين.
وبعد فرارها من ميامي، اندمجت بلانكو لدرجة ممتازة في كاليفورنيا لدرجة أنها لم تسترع انتباه بالومبو نفسه للوهلة الأولى في ردهة فندق نيوبورت بيتش.
وتذكر اللحظة فقال “أول ما لمحتها، كان هندامها أشبه بما ترتديه أي سيدة أميركية في منتصف العمر، حريصة جداً على نفسها ومظهرها. وضعت على رأسها شعراً مستعاراً أشقر وكانت أظافرها مطلية وشكلها جميل جداً. كل ملامحها وتفاصيلها مرتبة جداً وأنيقة، وكذلك رداؤها، بدت أنيقة وذكية جداً”.
صور اعتقال غريزيلدا بلانكو (مكتب مأمور مقاطعة أورانج / شرطة ميامي-دايد)
وبعد شهرين من ذلك، “اختلفت كلياً”: مهملة في ملابسها، كأنها سرحت شعرها بخفاقة البيض وصبغته بشكل رديء وتظهر كأنها مجهدة إجمالاً.
ولفت بالومبو إلى أنها “حرباء تتغير كما تريد. مع مرور الوقت تفاقم جنون الارتياب لأنها اضطرت إلى مغادرة ميامي بسبب مطاردة القتلة المأجورين لها”.
إنما حتى بعدما أطبقت الدنيا عليها، كادت بلانكو أن تفلت من الملاحقة القضائية.
بعد أن بدأ حياته المهنية كمدع عام شاب في المقاطعة الجنوبية لنيويورك خلال “عملية بانشي”، وجد ستيفن شليسينجر نفسه في جنوب فلوريدا حين وصلت بلانكو للمحاكمة.
لم يملكوا أي “مخدرات على الطاولة” واستندت قضيته برمتها على المحادثات المسجلة بين بلانكو وأبنائها الثلاثة والمخبر، غوميز الذي قدم لإدارة مكافحة المخدرات لمحتها الأولى عن بلانكو في الولايات المتحدة.
وقالت شليسينجر للـ”اندبندنت”، “سارت القضية قدماً من دون أي غرام من الكوكايين أو أي فلس من أرباح المخدرات. كانت مجرد مؤامرة مخدرات إجمالاً والإثبات لا يتعدى هذه المحادثات. أعني أن الأمر برمته كان كلاماً بكلام”.
كل ما ملكوه هو محادثات مسجلة سيضطر العملاء المعنيون بالقضية وخبراء مصطلحات المخدرات أن يسردوها ويفسروها، أي إجمالاً أن يترجموا من الإسبانية والتعابير المخففة أمام هيئة المحلفين.
لم تكن قضية قوية. فكر شليسينجر في إضافة الإدانة من “عملية بانشي”، لكنه تخلى عن الفكرة لأن القضية قديمة جداً فيما تعذر العثور على الأدلة الحسية. لم تنظر المحاكمة الأولى لا في الماضي ولا في عمليات القتل. بل حدث كل ذلك لاحقاً.
حتى يومنا هذا، لا يعرف شليسينجر كيف لم تخرج حرة من المحاكمة.
وتذكر الأحداث قائلاً “كان أمامنا يومين من جلسات المحاكمة، قضيتها إجمالاً بالاستعراض، كنت أضيع الوقت وأراوغ. كنا نستعد لتشغيل التسجيلات وشرحها بأفضل طريقة ممكنة”.
وأكمل قائلاً “في صباح اليوم الثالث من المحاكمة، نهض محاميها من مقعده وقال من دون أية إشارة مسبقة لي ’سنوافق على الاتهام‘. لا فكرة لدي ما الذي كان الحافز أو المنطق”.
أثناء النطق بالحكم، وجه القاضي يوجين سبيلمان، الذي توفي مذاك، انتقادات قاسية ولاذعة لبلانكو وقال إنها الأسوأ منذ المجرمة الشهيرة ما بايكر، وفقاً لشليسينجر. أنزل سبيلمان في حقها أقسى العقوبات الممكنة، التي بلغت 35 عاماً في السجن بحسب ما يتذكر بالومبو.
وقعت بعض البلبلة في قاعة المحكمة. كان القاضي حاداً وقاسياً. أما بلانكو التي ارتدت الأسود وأمسكت بمسبحة وإنجيل، فلم تظهر عليها أي رد فعل. لكن الحضور الجالس خلف المدعى عليها شحب لونهم.
في هذه الأثناء، اعتقد شليسينجر وبالومبو بأنهما أتما مهمة عظيمة على أكمل وجه، وتوجها لتناول الغذاء الاحتفالي. فقد قبضا على الحرباء وحبساها في علبة.
وفيما بدآ يأكلان شطيرة الهامبرغر، أخذ جهاز الاستدعاء الذي يملكه شليسينجر بالرنين: القاضي يريد أن يراكما فوراً.
وقال “كان الوضع غير مريح وغريب جداً لأنني سرت باتجاه مكتبه ولم يكن في المكان أحد أبداً. دخلت ورأيته وحده في مكتبه، وقال لي إجمالاً ’حسناً يا ستيف، لقد أخطأت فقد أجريت محادثة. ووعدت بالحكم بـ10 أو 12 عاماً. ونسيت الموضوع ببساطة‘”.
على ما يبدو، كما قال شليسينجر، نسي القاضي المسن الصفقة التي عقدها وراء الكواليس بألا يحكم أن تقضي بلانكو فترة بالسجن أطول من أبنائها – أوبر وديكسون وأوزفالدو – الذين صدرت أحكام في حقهم قبل فترة وجيزة من بدء محاكمتها.
ويقول شليسينجر إنه طلب منه أن يوافق على تغيير الحكم اللفظي في ورقة الحكم الرسمي المكتوب، إذ أضاف القاضي أن الوضع “قد يصبح خطراً جداً” بالنسبة إلى محامي الدفاع عن بلانكو لو لم يفعلوا. علق محامي الدفاع روي بلاك لـ”اندبندنت” في رسالة إلكترونية بأنه لا يملك أي شيء يضيفه إلى السجل العام.
في نهاية المطاف، يقول شليسينجر إنهم وضعوا أمام خيار – إما القبول بالحكم أو العودة للمحاكمة.
وشرح “لم يكن ذلك مطروحاً. لم يكن حتى خيار. فالقضية غير قوية. ولا سيما ضدها هي. محادثات أبنائها كانت أوضح بقليل ومدينة أكثر، لكن تلك ضدها كانت فوضى متشابكة، ومجرد خليط كلامي”.
وتابع “شعرنا بغضب شديد من المسألة برمتها. لو نظرت إلينا كلنا، كانت القضية نموذجاً مثالياً عن حال القضاء في جنوب فلوريدا في مطلع ثمانينيات القرن الماضي”.
أثناء قضائها فترة الحكم، بنى المدعون العامون قضايا عدة قتل ضدها وظهر كأنها ستقضي بقية حياتها وراء القضبان، أو في الكرسي الكهربائي. لكنها عقدت صفقة أخرى بعد تورط سكرتيرات في مكتب المدعي العام في ميامي – دايد بفضيحة مكالمات هاتفية جنسية مع الشاهد الرئيس، والقاتل المأجور المفضل لدى بلانكو، جورخي “ريفي” أيالا.
وأقرت بثلاثة اتهامات قتل من الدرجة الثانية عام 1998 وخرجت من السجن بحلول 2004، حين رحلت إلى ميديين. عاشت ثمانية أعوام بعدها قبل اغتيالها عام 2012 – وهي فترة أطول بكثير مما كان أي أحد ليتوقع.
والنظرية الشائعة لتفسير هذا الموضوع هو أن أعداءها احتاجوا ثمانية أعوام للوصول إليها. وهي نظرية يعتقد شليسينجر أنها معقولة، لأن المفاجأة الوحيدة هي أنها لم تقتل في وقت أسبق. قتل ثلاثة من أبنائها الأربعة بعدما أنهوا فترة حكمهم بالسجن وعودتهم لكولومبيا.
لكن بعين المحقق القديم، لا يوافق بالومبو على هذا الرأي. بالنسبة إليه، من المستغرب أنها لم تدفع الثمن النهائي والأكبر مثلما فعلاً أبناؤها، فور عودتها لميديين، إذ عاشت حياة أمام الملأ في حي فخم. لو أراد أحدهم الانتقام لأحد من أحبائه، لم يكن الأمر ليستغرق ثمانية أعوام كي يجدها.
وأوضح “لم تختبئ أبداً. وقتلت داخل السوق، ومحل الجزارة، ووفقاً لمصادري، عاشت حياة محترمة جداً في وسط المجتمع. زعموا إنها كانت فاعلة خير مهمة مع المظلومين وهذا ربما سبب عدم التفات كثيرين لها”.
والسبب الآخر بحسب تخمينه هو أنه “في مجتمع المجرمين، ليس ما هو أسوأ من شخص يتحول إلى مخبر”.
بعد عقود الإفلات من قبضة إدارة مكافحة المخدرات، والاندماج في الخلفية ورفض عروض الانقلاب على الكارتيل وقضاء حكمها بالسجن، هل تتحول عرابة الكوكايين إلى شاهدة للدولة؟ تتبعوا التوقيت، كما يقول بالومبو.
قتلت بلانكو في الثالث من سبتمبر (أيلول) 2012 عن عمر يناهز 69 سنة. بقي من عائلتها نجلها الأصغر مايكل كورليوني بلانكو، المعروف كذلك باسم مايكل كورليوني سيبولفيدا على اسم أبيه داريو سيبولفيدا.
وقت اغتيال والدته، كان في الإقامة الجبرية بعد اعتقاله بتاريخ الـ12 من مايو (أيار) 2011 بتهمة ارتكاب جرمي الاتجار والتآمر للاتجار بالكوكايين، وفقاً لصحيفة “ميامي نيو تايمز”.
لم يجب بلانكو سيبولفيدا على طلبات عدة أرسلناها له للحصول على روايته هو من الأحداث.
لكن منذ وفاة والدته، قال بلانكو في مقابلات إنه ترك أعمال العائلة. وهو نجم سلسلة من تلفزيون الواقع تعرض على “في إتش” 1 بعنوان “فريق الكارتيل” Cartel Crew واستمرت ثلاث مواسم منذ 2019. ظهرت حفلة زفافه في حلقة عرضت عام 2021 والآن لديه أطفال عليه العناية بهم.
قبل انطلاق البرنامج، ظهر بلانكو سيبولفيدا في مدونة صوتية يقدمها نجم موسيقى الهيب هوب بيرن Bern، وتكلم عن التخلي عن تلك الحياة، وعدم العيش بخوف وإطلاق الأعمال التجارية مثل “بيور بلانكو” Pure Blanco، شركة الملابس الرياضية غير الرسمية التي سميت “ماركة أسلوب حياة أصحاب المليارات في الكارتيلات” في عالم الموضة والأفلام السينمائية والموسيقى والترخيص والقنب، مثل مجموعة “لا مادرينا وايك أن فايب” La Madrina Wake N Vape Collection كي “تتذوق طعم ثمانينيات القرن الماضي”.
وقال بلانكو “علمتني أمي كيف أكون حرباء”.