حرية – (14/3/2024)
أتذكرون عندما أطلقت شركة “ميتا” تلك الحملة المستقبلية في أكتوبر (تشرين الأول) 2021، حين استعرض مارك زوكربيرغ بشخصيته الافتراضية (أفاتار) قصره الافتراضي البراق والفخم؟ كانت الشركة حينها قد غيرت لتوها اسمها من فيسبوك [إلى ميتا]، وأدلى رئيس منصة التواصل الاجتماعي بخطاب استمر ساعة من الوقت شرح لنا فيه لما يعد الـ “ميتافيرس” بمستقبل مشرق ومثير. زوكربيرغ قال حينها وبينما كان يمر بجانب خزانة علقت فيها أزياء مختلفة لشخصيته الافتراضية، “سنتمكن من التعبير عن أنفسنا بطرق فرحة وبانغماس تام”.
ثم ظهر نائب رئيس الشؤون الدولية نيك كليغ والتواصل على الشاشة على نحو مثير للغرابة بعض الشيء، ليناقش إعدادات الخصوصية.
وأضاف زوكربيرغ بعدها أنه “يمكن للنسخة المقبلة من الإنترنت أن تحقق ذلك الشعور بالتواصل والحضور العميق، وهذا هو جوهر الـ ’ميتافيرس‘”.
ومهما كانت توقعات زوكربيرغ في عام 2021 بالنسبة إلى مستقبل الـ “ميتافيرس” إلا أنها بدت بعيدة جداً من الحياة اليومية للأشخاص العاديين، أو هكذا اعتقدنا.
لكن اعتباراً من نهاية عام 2023 تظهر الأبحاث أن “ميتافيرس” شهد نمواً كبيراً واجتذب إليه عدداً كبيراً من المستخدمين. وكشفت إحدى الدراسات بأن 66 في المئة من الأطفال في المملكة المتحدة جربوا الواقع المعزز أو الافتراضي، فيما يستخدم 25 في المئة منهم الواقع الافتراضي كل أسبوع، ففي يونيو (حزيران) وسعت “ميتا” دائرة مستهلكي منتجاتها عندما خفضت الحد الأدنى لسن المستخدمين المؤهلين دخول الـ “ميتافيرس” من 13 سنة إلى 10 سنوات، وفي هذه الأثناء أعلنت بعض شركات تطوير الواقع الافتراضي بالفعل زيادة مبيعاتها ست أضعاف منذ يوم عيد الميلاد عام 2023، ومع ارتفاع أعداد مستخدمي الـ “ميتافيرس” فإن الخطاب المتفائل الذي تستخدمه شركات التكنولوجيا يتناقض بشكل حاد مع الواقع الأكثر كآبة.
وفي الثاني من يناير (كانون الثاني) أفادت التقارير أن الشرطة البريطانية تحقق في اعتداء جنسي افتراضي تعرضت له الشخصية الافتراضية لإحدى الفتيات، وهي المرة الأولى التي تنظر فيها السلطات البريطانية في قضية من هذا النوع، ولا نملك كل تفاصيل الواقعة لكننا نعرف وحسب بأن عمر الفتاة كان أقل من 16 عاماً عند وقوع الحدث، وأنها كانت تلعب لعبة تنغمس من خلالها في العالم الافتراضي باستخدام نظارة وسماعة الواقع الافتراضي حين تعرضت شخصيتها الافتراضية للاغتصاب من عدة شخصيات أخرى، ومع أن النساء يحاولن دق ناقوس الخطر في شأن ثقافة الاغتصاب في الـ “ميتافيرس” وكراهية النساء التي غالباً ما يظهرها اللاعبون المجهولون الموجودون في هذا الفضاء، تعتبر هذه القضية سابقة من ناحية حصول تدخل قانوني بعد وقوع اعتداء جنسي في عالم مجسمات ثلاثية الأبعاد.
ويطلق مصطلح الـ “ميتافيرس” على كل تلك البيئات الافتراضية حيث تتفاعل الشخصيات الافتراضية للمستخدمين، ويمكن دخول هذا العالم عبر وضع جهاز فيه تقنية الواقع الافتراضي يثبت بالرأس ويسمح للإنسان من خلال شخصيته الافتراضية أن يتحرك ويتواصل ويتفاعل مع غيره من البشر بشكل افتراضي، ويمكن للمرء داخل الـ “ميتافيرس” أن يتبضع ويصيد السمك ويشارك في اجتماعات أو يشرب كأس جعة افتراضي أثناء حضور حفل موسيقي في ملعب، في حين أن هذه الحدود الجديدة توفر كثيراً من الاحتمالات المثيرة، إلا أن الخبراء يثيرون مخاوف في شأن الافتقار إلى التنظيم داخل عوالم الواقع الافتراضي هذه.
وحالياً هناك مساءلة محدودة للأفراد الذين ينتهكون سياسات مكافحة إساءة الاستخدام التي تحددها المنصات والتي غالباً ما تطبق بشكل فضفاض.
المعالجة النفسية والباحثة في شؤون الـ “ميتافيرس” نينا جاين باتيل التي تتخذ من لندن مقراً لها، كانت من أوائل الأشخاص البالغين الذين شاركوا علناً تجربة تعرض شخصياتهم الافتراضية لاعتداء جنسي، فقد دخلت السيدة إلى منصة “ميتا” الاجتماعية في الواقع الافتراضي “هورايزون وورلد” باستخدام جهاز “ميتا أوكولوس-2” من منزلها حين تعرضت شخصيتها الافتراضية “لاغتصاب جماعي” بحسب قولها، بعد مرور دقيقة على وجودها في الغرفة، وكما تخبرني باتيل “فلا أعتقد حتى أن دقيقة واحدة كانت قد مرت على وجودي فيها، وأخذت أربع شخصيات افتراضية لذكور تضايقني بالكلام، ثم تابعت بالاعتداء على شخصيتي الافتراضية”، وقد صرخ بها أحد الرجال وقال “لا تتظاهري بأن ذلك لم يرق لك”، فيما تابع آخر “اذهبي لتمارسي العادة السرية” مع أن باتيل طلبت منهم التوقف مرات عدة، وأضافت “انتقلت إلى مكان آخر في الغرفة لكن ذلك لم يثنهم عن مواصلة اعتدائهم، فقد قللوا من احترامي واعتدوا عليّ ولم يتوقفوا، بل استمروا وازدادوا عدائية”.
فيما لا يحدث إيلاج في الاغتصاب الافتراضي لأن الشخصيات الافتراضية لا تملك أي أعضاء تناسلية، ويمكن للمستخدمين أن يقوموا بمحاكاة لممارسة الجنس والجنس الفموي من خلال الوضعيات المثيرة التي تتخذها شخصياتهم الافتراضية، وإن أضفنا إلى ذلك استخدامهم لأصواتهم من أجل القيام بإيحاءات جنسية مزعجة فذلك يعني بأن الشخصيات الافتراضية قادرة على إقحام نفسها في مساحة الآخرين الشخصية من دون موافقتهم.
وفي ظل التقدم التكنولوجي في صناعة أجهزة سماعات ونظارات الواقع الافتراضي، إضافة إلى دمج أصوات اللمس وتعزيز الحواس فيها، قالت النساء اللواتي أبلغن عن التعرض لاعتداء جنسي في الـ “ميتافيرس” إن التجربة بدت حقيقية حتى من دون اللمس الجسدي المباشر.
“حتى لو وقع حدث على الإنترنت فهذه المشاعر ليست افتراضية، بل حقيقية وبالتالي يمكن أن يكون شعور المرء بالصدمة حقيقياً أيضاً”، كما تقول المعالجة النفسية الدكتورة داريا كوس (غيتي)
وأفادت عشرات النساء عن قصص مشابهة، وقالت باحثة من منظمة نشطاء تدعى SumOfUs إن شخصيتها الافتراضية تعرضت للاعتداء داخل منصة “هورايزون وورلدز”.
وجاء في التقرير الذي وضعته المنظمة عن الحادثة أنه “بعد مرور ساعة تقريباً على استخدامها المنصة، اقتيدت الباحثة إلى غرفة خاصة في حفلة، إذ اغتصبها مستخدم ظل يطلب منها أن تدير ظهرها كي يجامعها من الخلف ويتسنى للمستخدمين الموجودين خلف النافذة أن يشاهدوا ما يحدث، وفي هذه الأثناء أخذ مستخدم آخر موجود في الغرفة بالمشاهدة وتمرير زجاجة فودكا على الآخرين”.
وتفيد دراسات عدة أن فضاءات الـ “ميتافيرس” تفتقد إلى التنظيم والضبط من ناحية مراقبة الاعتداءات الجنسية وحماية الأطفال.
ووجد تقرير حديث وضعته الجمعية الوطنية لمنع القسوة ضد الأطفال (NSPCC) أن شركات التكنولوجيا “لا تعطي الأولوية لسلامة الأطفال على المنصات” التي تسجل اعتداءات جنسية ضدهم، وقال مساعد رئيس قسم سياسة سلامة الأطفال على الإنترنت في الجمعية ريتشارد كولارد لـ “اندبندنت” إن الاعتداءات الجنسية في العالم الافتراضي “تخلف آثاراً مدمرة على الأطفال”، وإنه في العالم الذي يتيح تجربة الانغماس ويعزز التجارب الحسية “يمكن الشعور بالأذى بشكل مماثل جداً لعالم الواقع”.
وعلى رغم ورود كثير من التقارير التي تثبت بأن بيئات عدة في الواقع الافتراضي تدعم إجمالاً ثقافة الاغتصاب، يشكك بعضهم في شرعية ما يمكن تصنيفه على أنه اغتصاب أو اعتداء في الـ “ميتافيرس”، ويبدو أن السؤال المطروح في هذه النقطة واضح، إن شعرت هؤلاء اللاعبات بضيق في مساحات الواقع الافتراضي، فلماذا لم ينزعن الجهاز عن رؤوسهن ويطفئن اللعبة تماماً؟
“في هذه الفضاءات اختلاط كبير بين البالغين والأطفال من دون أي إنفاذ حقيقي للقوانين” كما يقول كالوم هود، رئيس الأبحاث في مركز مكافحة الكراهية في الفضاء الافتراضي
حسناً، جوابي على ذلك هو أن لم تتمكن المرأة أو الفتاة من الجلوس في أكثر مكان آمن متاح لها، أي منزلها، كي تلعب لعبة تستمتع بها، فما الذي يخبرنا به هذا الأمر عن وجود كراهية النساء والاعتداء على هذه المنصات؟
الدكتورة فريتي ماكنتوش، باحثة ومن كبار المحاضرين في الواقع الافتراضي والواقع الممتد، (مصطلح يشمل الواقع الافتراضي والمعزز والمختلط) في جامعة غرب إنجلترا، وقد شاركت في إعداد تقارير مهمة عن الموضوع، ووضعت أحدها لمصلحة الجمعية الوطنية لمنع القسوة ضد الأطفال بعنوان “حماية الأطفال وتقنيات الانغماس”، إلى جانب تقرير لمصلحة هيئة الهندسة والتكنولوجيا بعنوان “الحماية في الـ ’ميتافيرس‘”. وتخبرني ماكنتوش أنه يجب التعامل بجدية مع الأثر النفسي للاعتداء الحاصل في الواقع الافتراضي، لأن هذه التجربة قد تثير مشاعر مماثلة لحادثة تحصل في العالم الحقيقي وغير الافتراضي، وهي تشرح هذه النقطة من خلال “عملية الاندماج” حين ترتبط الشخصية الافتراضية التي تمثلنا بشخصيتنا الحقيقية، وهو ما قد يعززه إما وجود شخصية افتراضية مشابهة للشخص شكلاً، أو استخدام هذا الشخص صوته الحقيقي لمخاطبة الآخرين في تلك العوالم الافتراضية.