حرية – (17/3/2024)
من المؤكد أن في مقدورنا اليوم فقط، وبعد أكثر من نصف قرن على ظهور الفيلم الأميركي “ليلة الجنرالات” (1965) أن نتحدث عن هذا الفيلم باعتباره رائداً في مجال كان لا يزال يعيش إرهاصاته الأولى، دون أن ننظر إليه بوصفه تحفة سينمائية. ففي نهاية الأمر لم يكن مخرجه الأوكراني الأصل أناتول ليتفاك مخرجاً من الصف الأول في هوليوود، ولم يلعب فيه نجوم كبار من الذين كانت أسماؤهم تجتذب جمهوراً غفيراً حتى وإن كان صاحبا الدورين الأولين في الفيلم قد حققا قبل ذلك بسنوات قليلة قفزة هائلة في تربع عرش نوع معين من النجومية عبر الفيلم الذي انطلق أسطورياً وتنامت أسطوريته يوماً بعد يوم، “لورانس العرب” لديفيد لين. ونتحدث هنا طبعاً عن بيتر أوتول وعمر الشريف. وهما على أية حال لم يخفيا امتعاضهما منذ عرض “ليلة الجنرالات” إزاء إجبار المنتج سام سبيغل لهما على لعب ذينك الدورين الرئيسين في الفيلم الجديد. وكانا مجبرين على ذلك على أية حال، بالنظر إلى أن سبيغل كان قد ربطهما مقابل دوريهما في فيلم ديفيد لين بعقد لا يمكنهما التملص منه. والحقيقة أن في إمكاننا استكمال هذا الجانب من الحكاية بالقول إنه كما أرغم سبيغل أوتول والشريف على اللعب في “ليلة الجنرالات” كان هو قد وجد نفسه مرغماً على الرضوخ للتعاقد مع ليتفاك لإخراج هذا الفيلم، وذلك بكل بساطة لأن ليتفاك كان قد اشترى حقوق الرواية التي اقتبس الفيلم منها، وقرر منذ البداية أن يشرك معه في كتابة السيناريو لها عدداً من الأسماء الأدبية الكبرى مثل غور فيدال وجيمس هادلي تشيس. ومن هنا اكتملت الدائرة ووجد أن من يعملون في “ليلة الجنرالات” هم عدد من مبدعين متنافرين. ولكن ليفعلوا ماذا؟
موضوع جديد على رغم المخرج
ليحققوا واحداً من أول الأفلام التي شاءت لنفسها أن تسير في موضوعها التاريخي المتحدث – للمرة الألف في ذلك الحين – عن فصل من فصول الحرب العالمية الثانية، ولكن من منظور في غاية الجدة والجدية لم يسبق للسينما أن دنت منه يتعلق بالتماشي بين الممارسات النازية وبين المواضيع المتعلقة بالتحليل النفسي. صحيح أن الدراسات الفكرية العميقة كانت قد تبسطت في الحديث عن تلك العلاقة، ولكن ليس على الشاشة. وفي هذا المجال بالذات بدا الفيلم رائداً لنخبويي السينما ونخبويي الدراسات الفكرية، ولكن ليس للعموم. “العموم” سيكتشفون ذلك لاحقاً تدريجاً، ولكن ليس تماماً من خلال “ليلة الجنرالات” في وقت كان فيه هذا الفيلم قد بات شبه منسي على رغم تحقيقه إقبالاً جماهيرياً عريضاً، بل من خلال خوض سينمائيين أهم من ليتفاك ذلك الموضع في أفلام حملت توقيعات لوكينو فيسكونتي (في “الملعونين”) وبرناردو برتولوتشي (في “الممتثل”)، وليليانا كافاني (في “الحارس الليلي”)، ولم يكن صدفة أن يكون الثلاثة إيطاليين تناولوا الفاشية والنازية معاً في أفلامهم. واللافت هنا أن أياً من أولئك الثلاثة لم يشر بكلمة إلى ليتفاك وفيلمه في معرض تصريحاتهم الصحافية أو مناقشاتهم حول تلك الأفلام، تماماً كما أن ليتفاك نفسه لم يذكر شيئاً عن الرائد الكبير لدراسة علاقة النازية بالتحليل النفسي وليام رايخ، أحد الفلاسفة من أقطاب مدرسة فرانكفورت للعلوم الاجتماعية الذي لن يخفي كاتب الرواية الألماني هانز هلموت كيرست كون أفكار رايخ كانت في خلفية الجانب التحليلي في روايته.
أناتول ليتفاك (1902 – 1974)
من الدعاية إلى التحليل
ونعود هنا إلى “ليلة الجنرالات” نفسه لنقول على أية حال إن مخرجه المولود في كييف، والذي هرب من موطنه الأوكراني في الأسابيع الأولى للغزو النازي لها، حيث توجه إلى بريطانيا ومنها إلى فرنسا قبل أن يتوجه إلى الولايات المتحدة، حيث سيعيش فيها ويصبح من ممارسي الإخراج السينمائي ويشتهر أول الأمر بفيلمه التاريخي “مايرلنغ” وكان يعتبر “ليلة الجنرالات” ديناً يجدر به أن يؤديه لبلده الأصلي ما حدا به يومها إلى شراء حقوق الرواية ما إن صدرت. غير أنه مع ذلك لم يكن همه في نهاية الأمر أن يسيس الموضوع. بل ربما كان يريد هنا مواصلة سيره على خطى ألفريد هتشكوك في سينما التشويق كما سبق له أن فعل في فيلم سابق له هو “أغلق السماعة من فضلك… الرقم خطأ”. ومن هنا نجده في “ليلة الجنرالات” يبذل قصارى جهده لإبعاد الفيلم عن… السياسة! ولعله أحس بنجاحه في ذلك إلى درجة أنه راح يصر على أنه حقق فيلماً بوليسياً حافلاً بالمغامرات لا فيلماً تاريخياً، على رغم أنه في مرحلة سبقت وتلت الحرب العالمية الثانية وشغلت أولى سنوات إقامته في هوليوود حقق عديداً من الأفلام الدعائية المناوئة للنازية في صورة مقاولات كان هو من أوائل غير المقتنعين بها وسيبقى أشهرها فيلمه الذي حققه عام 1939، “اعترافات جاسوس نازي”، والذي مهد لتكليف هوليوود وأجهزة الدعاية الأميركية له بتحقيق أفلام عديدة من نفس النوع. وكان ليتفاك قد كف عن اعتبار تلك الأفلام جزءاً من تاريخه السينمائي الحقيقي حين سيبدل رأيه بعد زمن طويل، ومنذ “ليلة الجنرالات”، ما إن راح النقاد والمؤرخون يفعلون ذلك. بل إنه لم يتوانَ في السنوات الأخيرة من حياته، وحين صارت سينما التحليل النفسي على ضوء السينما السياسية، رائجة ويكن لها احتراماً كبيراً حتى استعاد الحديث ليس فقط عن “ليلة الجنرالات” بل عن كل تلك الأفلام الدعائية حتى، معلناً أنه الرائد الحقيقي للسينما النفسية ذات الأبعاد السياسية. ومع ذلك كان قد فات الأوان، إذ كان فيلمه قد راح يعيش في ذلك الحين حياته الخاصة بصرف النظر عن هوية مخرجه!
اختلاط الأنواع السينمائية
مهما يكن من أمر لا بد هنا من وقفة إنصاف إزاء “ليلة الجنرات”. فهو في نهاية الأمر فيلم تاريخي وفيلم تحقيق بوليسي وفيلم تشويق، ناهيك بكونه فيلماً ينتمي بقوة إلى عالم التحليل النفسي. أما من الناحية التاريخية فلا بد من الإشارة هنا أن هذا الفيلم، وإن كان ينهل من بعض الأحداث التاريخية الحقيقية، مثل انتفاضة فارصوفيا، ومؤامرة الأعيان والجنرالات الألمان لاغتيال هتلر – وهما حدثان ضخمان من أحداث الحرب العالمية الثانية أبدع رومان بولانسكي في تصوير أولاهما في فيلمه “عازف البياو” كما أبدع بريان سينغر في سرد حكاية ثانيهما في “فالكيري” – فإنه في عمقه فيلم روائي يبني كثيراً مما هو متخيل على أساس تلك الأحداث التاريخية الحقيقية، وهو بناء حتم على كتاب السيناريو وتحت إشراف المخرج نفسه، أن يكتفي من رواية كيرت بفصولها الأولى فقط. أما الباقي فمستلهم بصورة أو بأخرى من حكاية السفاح اللندني “جاك باقر البطون”، ولا سيما بالنسبة إلى ما يتعلق بجرائم ترتكب في وارسو المحتلة في عام 1942 فيعين المايجور غراو (عمر الشريف) محققاً فيها ليكتشف أن ثمة ثلاثة مشتبهين في ارتكاب الجرائم التي كانت فتيات هوى من حثالة ليل وارصوفيا ضحاياها، والمشتبهون ليسوا سوى ثلاثة من كبار ضباط الأركان في قوات الاحتلال النازية المسيطرة على تلك العاصمة البولندية. وكان ذلك اكتشافاً في منتهى الخطورة طالما أنه أسفر عن اليقين بأن دوافع القتل نفسية لا سياسية. ولكن فجأة – فيما كان المحقق يقترب من استنتاجات ستؤدي إلى الترابط بين الجرائم والأوضاع النفسية، لكن من خلال أولئك الضباط الكبار الذين يمكن اعتبارهم يرمزون إلى أبعاد خاصة وعامة يمكن أن تعبر عن سمات نازية حقيقية – ينقل المحقق إلى باريس تحت ضغط الضباط الثلاثة معاً.
غايات خفية لتبديل لافت
وبنقل المحقق إلى باريس تطوى صفحة ذلك التحقيق طوال الفترة التي تلت نقل غراو. ولا يستعاد بعد الهزيمة النازية، بل يستبدل بقتل الجنرال تانز أحد المتهمين الثلاثة للمحقق غراو، ولكن في عام 1965 يحدث أن تغتال في هامبورغ فتاة هوى ذات ليلة وتلفت الجريمة الأنظار لتماثلها مع جرائم وارصوفيا ما يستعيد الحكاية القديمة وتفاصيلها ويكشف خفاياها وأبعادها التحليل – نفسية وسط جملة من مفاجآت مشوقة لا وجود لها أصلاً في الرواية التاريخية، وذلك لأنها تمثل الفصول التي أضافها المخرج ليتفاك على الرواية الأصلية، ويبدو أن مهمتها كانت استعادة الحدث خصوصيته بعدما كان يبدو معمماً من ناحية دلالاته في نص الرواية!