حرية – (17/3/2024)
مع هيمنة المنصات الرقمية، ومنها “تويتر” و”فيسبوك” و”إنستغرام” و”تيك توك” و”سناب شات” وهلم جرا، بات من السهل علينا مشاركة القصص والأخبار وقتما نشاء. غير أن عصر التحديثات المتوالية لم يسهم في تطوير السرد كما كنا نظن، بل على العكس، لقد أدى إلى تراجعه لصالح مجرد صور من الترويج للذات، لم تتمكن على وفرتها من ملء الفراغ السردي كما يعتقد الفيلسوف الكوري بيونغ تشول هان في كتابه “أزمات السرد” الصادر حديثاً عن دار بوليتي للنشر، ترجمة دانيال ستوير.
يبلور هان فرضيته في أن ما نرسله أو نستقبله عبر وسائل التواصل الاجتماعي، يعكس مدى عجزنا عن بناء سردية حقيقية محكمة. إنه بالأحرى يفضح تخلينا – من دون اتفاق – عن القصة لصالح تبادل المعلومات، متجاهلين حقيقة أن الذاكرة البشرية انتقائية وسردية. وهي في ذلك تختلف تماماً عن بنك المعلومات المعتمدة ذاكرته الرقمية على الإضافة وعلى تجميع ركام من البيانات لا تنضوي تحت معنى يوحدها، بينما ينبني السرد في جوهره، على اختيار الأحداث والربط بينها، لخلق المعنى والمغزى الحقيقيين. أما عن طوفان المعلومات الذي وفرته التكنولوجيا الحديثة، فإنه يخنق “روح السرد” ويبدد الألفة التي دعتنا ذات يوم للتجمع حول نار المخيم.
كتب يقول “لا يمكن لأي مقدار من القصص أن يعيد إشعال النار التي كان البشر يتجمعون حولها يتسامرون ويتبادلون رواية الأخبار بحميمية. لقد انطفأت تلك النار منذ فترة طويلة. وتم استبدالها بالشاشة الرقمية، التي عملت على الفصل بين الناس كمستهلكين أفراد لا كمجتمع”.
كتاب “أزمة السرد”
يرى هان أن أجهزتنا الحديثة حالت دون تدفق السرد بحيث لا يمكن “لطائر الأحلام أن يبني عشاً على الإنترنت. الباحثون عن المعلومات يطردونه.” وفي حين يملأهم الزهو بأنهم أصبحوا أكثر حرية وتواصلاً، إذا بهم يخضعون لصورة جديدة من الهيمنة الخوارزمية توهمهم بالظهور في موقع السيطرة، فيواصلون اللعب على هواتفهم الذكية طوال الوقت، بينما في الحقيقة يتم التلاعب بهم كنتيجة طبيعية للوسيط الذي يهدف إلى جمع أكبر قدر ممكن من البيانات عن كل فرد، مما يجعل من السهل مراقبته وتوجيهه واستغلاله اقتصادياً.
أهذا ما يدفعنا إلى التواصل على نحو مفرط من دون أن نحقق أي إشباع؟ لأننا ببساطة لا نحكي بعضنا بعضاً، وإنما يتمحور هدفنا في النشر والمشاركة وجمع أكبر عدد من المتابعين مما يضمن مزيداً ومزيداً من أصابع الإعجاب. حتى عندما نستهدف الحكي، فنحن لا نستهدفه لذاته بل لإشباع هوسنا بالظهور والترويج لأنفسنا بأسلوب مسطح وشائه، من دون الالتفات لمدى تعقد حياتنا وغناها.
الحاضر الأبدي
يطرح الكتاب مفهوم “الإرهاق” كمصطلح شاع في مجتمعات مهووسة بالإنتاج والاستهلاك، حيث يعيش المرء في صراع مرعب لتلبية ما هو متوقع منه ومحاولة تجاوز حدوده باستمرار. فما ظنك بكائن غلبه الإرهاق؟ هل يمكنه الانخراط في كتابة قصة ذات معنى، أم أن عليه أن يواصل اختزال حياته في سرد ما حقق من أهداف، وفي الأثناء يميل إلى توثيق لحظاته الحميمية سواء كانت سعيدة أم تعيسة، بدلاً من تذوقها بكاملها، فإذا بها تضيع وسط الضجيج الرقمي؟
الخوف على الذاكرة البشرية
ليس هذا فحسب، يفسر هان حالة النشاط الزائد التي نعيشها اليوم، والتوتر المتزايد نتيجة لمحاولاتنا الدؤوبة في طرد الملل، ومن ثم لا نصل أبداً إلى حالة من الاسترخاء العميق، لأن “جوهر المعلومات هو المفاجأة، والفيدباك. وتسونامي المعلومات يعني أن أجهزتنا الإدراكية يتم تحفيزها بصورة دائمة. ولم يعد بإمكانها الدخول في حال خالصة من التأمل الذي هو ضروري للرواية والاستماع الدقيق.”
يصف الكتاب السرديات الجديدة في العصر الرقمي بأنها تفتقر في جوهرها إلى الروح الثورية وتعزز ثقافة التشرذم والانفصال. هل أضعنا البوصلة؟ أم أن هان يبالغ في وصف الخطر المحدق بالعصر الرقمي حين تنحصر كل اهتماماته في تحديث الحاضر وتحويل النسيج الزمني إلى مجرد لحظات مقتطعة من سياقها الكلي؟ إن أطروحته تبلور تبعات غياب الحكاية في نقطتين: غياب المعنى وضياع الوجهة التاريخية بالفعل حين نظل عالقين في الحاضر نواصل تحديثه بضراوة بحثاً عن متعة آنية. في رأيه، أن هؤلاء الباحثين عن المتعة اللحظية، ليس بوسعهم التفكير في مآثر أو أهداف عظيمة تدفعهم إلى التفرغ لمشاريع تضامنية لتحسين المجتمع، إذ تنحصر أهدافهم في تحسين متعتهم الشخصية. وهم من ثم لا يرقون إلى مرحلة العظماء الذين كرسوا حياتهم لإسعاد الآخرين. كما أن سردياتهم تفتقر في جوهرها إلى الروح الثورية وتعزز ثقافة التشرذم والانفصال.
يستعين هان بأفكار الكاتب والناقد والتر بنيامين التي تتسم بالتناقض في تلك النقطة تحديداً، فمع أنه يؤمن بالحداثة التي طالما انتصرت عليه شكوكه تجاهها. وهو يخلص، بعد إلقاء نظرة على “سناب شات” و”إنستغرام” إلى أن الصور الرقمية، إن لم تكن من عمل الشيطان لسرقة الروح، فهي أشياء “تعلن نهاية الإنسان كشخص له مصير وتاريخ” وتمثل ميلاد الفونو العاقل، وهم البشر الذين استسلموا لوقائع الخبرة اللحظية ولم يعودوا قادرين على التمييز أو الانتقاء.
الإنسان ذو البعد الواحد
يبدأ الفصل الأول من الكتاب بالهجوم على محدودية معظم البشر واكتفائهم بالأخبار المحلية بدلاً من التحليق إلى ما يجري في البلاد البعيدة. ويعزو ذلك إلى نقص الانتباه الذي يجعل المعرفة تنكمش إلى مجرد فضول، بحيث يقفز القارئ من فقرة لفقرة من دون أن يتمثل ما يقرأه تمثلاً يساعده على تكوين رؤية أو اكتساب أي خبرة.
في فصل من فصوله الـ10 القصيرة عنوانه “نقص الخبرة”، ينعى هان دور الحكي الشفهي في نقل التجربة من جيل إلى جيل، وحرمان أبناء جيل الألفية الثالثة من حصافة الحكمة الشعبية بتحولهم إلى محرك البحث “غوغل” بحثاً عن إجابات وحلول سريعة للمشكلات: “إن البرابرة الجدد يحتفلون بفقر الخبرة باعتبارها لحظة تحرر”، بيد أن الحياة من وجهة نظره، ليست مجرد الاهتداء إلى حلول للمشكلات، والإنسان لا يمكن تقليصه إلى حلال مشكلات، لأنها على أهميتها مجرد خطوة تالية كان لا بد عليه من استباقها، أما من يقتصر على حل المشكلات فلا مستقبل له. وبهذا يصل إلى فرضية أخرى مزعجة في شأن الإنسان الرقمي، فهو بلا ماض وكذلك بلا مستقبل، لقد تجمد بكليته أمام اللحظة الحاضرة، يقول هان “إننا لا نعيش من دون تاريخ فحسب، بل إن المستقبل جاء ورحل. ولا أحد يحاول حتى أن يعيد تجديد الأشياء أو يجرؤ على الحلم بتحول اجتماعي جذري، لا أحد لديه (الشجاعة لخلق قصة تغير العالم) فالسرد هو الشيء الوحيد الذي يفتح أفقاً للمستقبل، ويسمح لنا بإيواء الأمل”.
الكتابة على الماء
هل حقاً اختفى السرد، وتحولنا إلى مجتمع عابر، قوامه التشتت والسطحية حيث أذعن أفراده للحياة في بعد زمني واحد مضحين بماضيهم ومستقبلهم؟ ينتهي الكتاب الذي لا يتجاوز الـ100 صفحة بعد أن أصاب قارئه بقدر لا بأس به من الإحباط، إلى أن السرد لحسن الحظ لم يختف تماماً. هناك بصيص من الأمل، نقطة ضوء تستحق أن نستغلها على رغم كل ما تخلت عنه السرديات الجديدة من عمق لتناسب أذواق “الفونو العاقل”، في ظل الانفجار المعلوماتي والتحديثات المتوالية. يقترح هان للخروج من النفق المظلم، فكرة أن علينا البحث عن طرق جديدة لنسج قصص ذات معنى تطاول “كل زاوية وركن في الحياة”، شرط أن ترتكز على استكشاف الذات وأصالتها وتفردها ومدى تشابكها وعمقها. ولعل اختياره كلمة “أزمة” في العنوان كان بغرض إحداث الصدمة المفتقدة تقريباً في ظل تخفيض السرد إلى أدنى مستوياته، فلا أحد يتكلم عن أزمة السرد و”على شاشة الهاتف الذكي، يكون الواقع مخففاً جداً لدرجة أنه لم يعد بإمكانه خلق أي تجارب صادمة، حتى إن شاعراً مثل بودلير يتسبب دائماً في إخافة قرائه: (لا يبدو اليوم قديماً فحسب، بل يبدو غريباً أيضاً. الفنان الذي يجسد عصرنا هو جيف كونز. إنه يبدو ذكياً، إذ تعكس أعماله العالم الاستهلاكي السلس الذي هو عكس عالم الصدمات. فنه مريح منزوع السلاح عن عمد. لأن ما يريده، قبل كل شيء، هو أن يكون محبوباً)”.
لكن ذرات الغبار لا تتساوى أبداً مع البذور الحبلى بالجراثيم، كما تفعل الرواية القديمة بأبطالها المحددي الملامح وبمراحل تحولهم الجوهرية، التي اضطلعت بدورها في تكوين الروابط وخلق مجتمع، وترسيخ أقدامنا في العالم، فضلاً عن دورها في العلاج والاستشفاء. فمعظم الاضطرابات النفسية تشير إلى حكاية لم ترو، ويتمثل العلاج كما ينصح الطبيب، في البوح بما كتبناه لسنوات، وهو ما افتقدناه في “عصر ما بعد السرد” كما يسميه هان.