حرية – (20/3/2024)
بين الحكاية الشعبية المتداولة الممزوجة بالخرافة أحياناً، وكثير من الدراسات العلمية الدقيقة التي ظهرت أخيراً، لا تزال حقيقية صاحب حقوق الملكية المذاقية لمشروب “قمر الدين” تائهة، فخلال عقود من الزمن تغيرت أسطورة كثير من المشروبات الرمضانية الشهيرة.
حل مشروب “قمر الدين” لقرون عديدة في أعلى قائمة المشروبات الرمضانية المحببة لدى الصائمين، إذ ارتبطت فكرته بصورة مباشرة وحصرية بفكرة حازت شعبية واسعة، وهي قدرته السريعة على إطفاء عطشهم، خصوصاً في أشهر الصيام الصيفية الحارقة، التي يحرم خلالها الصائمون من الماء وبقية السوائل والمشروبات لفترة تمتد إلى ساعات طويلة خلال النهار.
حكاية مثيرة للجدل
من غموض الحكاية التاريخية المتداولة شعبياً والمتناقلة قديماً إلى رأي العلم الدقيق الذي يبدد الخرافات، تحركت حكاية هذا المشروب باستمرار وتطورت، لتصل في نهاية المطاف ضمن عباءة العلم والمعرفة، ولتؤخذ أبعادها الحقيقية والواقعية على يد أهل العلم والاختصاص.
فالسر الرئيس في حكاية مشروب “قمر الدين” الرمضاني التاريخية يكمن في كونها حكاية مثيرة للجدل، ولأنها مختلفة تماماً عن بقية المشروبات الرمضانية الشهيرة مثل “التمر الهندي” و”الخروب” و”السوبيا” التي يمكن وصف حكاياتها بأنها مباشرة، أي إنها واضحة وصريحة مقارنة مع “قمر الدين” الغامض.
تساؤل مستمر
ويستمر التساؤل حول أسطورة “قمر الدين” كل عام أثناء شهر صيام المسلمين، وذلك منذ معرفتنا بشهر رمضان منذ مئات السنين وحتى يومنا هذا. ومن الواضح أن الناس العاديين -عامتهم وخاصتهم – لا يبحثون عن إجابة محددة لهذا التساؤل، بقدر ما يشعرون أنهم يمضون وقتاً مسلياً أثناء تحري الحقيقة حول المشروب، مما يسهم في تبديد نهار الصيام الشاق، والطويل أحياناً.
في المقابل هناك فئة من الناس الذين يتطلب عملهم أخذ الحكاية على محمل الجد، وهم الأطباء ومتخصصو التغذية وفئة من المهتمين بالدراسات العلمية وبعض الباحثين في التاريخ، الذين يتعاملون بجدية كبيرة حول أصل وحكاية هذا المشروب.
حقائق علمية
يستمر الجدل حول المشروب في كل عام، مع أن تداول المشروب الرمضاني اللذيذ، اختلف كثيراً بسبب ظهور حقائق كثيرة عنه لم تكن معروفة من قبل.
وفي زمن التقدم العلمي والمعلوماتية خفت حضور المشروب على السفرة الرمضانية، خصوصاً بعد دخولنا عصر العلم والمعرفة والتقنيات والأبحاث، والذي أدى إلى مزيد من الرفاهية، وتعدد خيارات الصائم في الوقت الحالي، سواء عند تناول الإفطار أو وقت تناول السحور.
دراسات طبية
ويعود الفضل في ذلك إلى ظهور كثير من النظريات والدراسات العلمية التي أوضحت كثيراً من المفارقات حول مشروبات الشهر الفضيل عموماً، و”قمر الدين” خصوصاً، وحددت بعض الدراسات الطبية أحسن أساليب استعمال هذه المشروبات وأفضل طرق وأوقات تناولها، بدقة لم تكن معروفة من قبل.
روايات تاريخية متضاربة
تتناقض الروايات التاريخية المتضاربة حول المشروب الرمضاني الشهي أحياناً، ولكن معظمها يشير إلى أن فترة ظهوره تمتد إلى 1400 عام في دمشق زمن الخلافة الأموية، فيما فترة ظهور شجرة المشمش التي يصنع منها المشروب تصل إلى 3000 ق.م، إذ كان ظهور الشجرة في منطقة أخرى من العالم القديم، وتحديداً في الصين.
قديماً وحديثاً
قديماً نظم بعض شعراء العصر الإسلامي عموماً، والأندلسي خصوصاً، قصائد كثيرة تتحدث عن مواصفات هذا المشروب ضمن قالب لغوي بديع. وفي وقتنا هذا جاءت كثير من الدراسات العلمية والأبحاث الطبية مؤكدة على كثير من فوائده الصحية المتعارف عليها تاريخياً، لكن الدراسات الحديثة أشارت إضافة إلى ذلك إلى محاذير تناول المشروب، وذلك بعد التعرف أكثر على بعض أمراض العصر.
فأخطار تناوله لبعض المرضى المصابين بداء السكري ولبعض فئات الناس من الصائمين، بعيداً من تناقضات حكايته التاريخية، زادت من تعقيدات حكاية المشروب، إذ يعد “قمر الدين” المشروب الرمضاني الأكثر إثارة للجدل بين بقية مشروبات الشهر الفضيل.
أيقونة مختلف عليها
بسبب مذاقه العذب وفوائده التي لا تعد، فإنه لا يزال يعد أيقونة مشروبات الشهر الفضيل في كثير من الدول، إلا أنه ليس مشروباً واضح المنشأ أو محدد الوجهة تماماً. فصيته مختلف عن المشروبات الرمضانية الأخرى، والتي منها مشروب “التمر الهندي” مثلاً أو “الخروب”، أو حتى “السوبيا” المصرية.
يعد مشروب قمر الدين عنصراً أساسياً على موائد إفطار كثير من المسلمين
ومع أن بعض هذه المشروبات غير معروفة لدى جميع الناس وفي كافة البلدان العربية والإسلامية، إلا أن جميع هذه المشروبات الرمضانية ذات حكاية واضحة، بمعنى أنه لم يختلف عليها المؤرخون، ولم يتنازع في شأنها الحكماء والأطباء.
وتعد تاريخياً مشروبات معروفة المنشأ ومفهومة الفكرة، إذ لا يختلف اثنان على حكاية مشروب التمر الهندي كما لا يختلف كثر على حكاية (السوبيا) كونه مشروباً شعبياً معروفاً منذ زمن المماليك، وحتى يومنا هذا.
من هو قمر الدين؟
مع أن الصائم المصاب بالعطش الشديد لا تهمه كثيراً الحكايات حول المشروب الذي يتناوله، فيما يهتم كثيراً بإطفاء عطشه بأسرع وقت ممكن، إلا أن الفضول ورغبة بعض الناس بالتسلية وتمضية نهار رمضان، تقودنا دائماً إلى استمرار البحث عن الحكاية تزامناً مع “رمضان” الذي يمثل ذروة تناول المشروب، إذ يختلف كثر حول شخصية “قمر الدين” التي ينسبها بعضهم إلى رجل شامي دمشقي بسيط، كان من أبرز مصنعي المشروب، ولكن آخرين ينسبونها إلى اسم قرية سورية قديمة وهي “أمر الدين”، فيما يخلط غيرهم التسمية بتزامن ظهور المشروب مع هلال الشهر الفضيل. فيما ينسب آخرون الحكاية كلها إلى المصادفة التي وقعت مع نضوج ثمرة المشمش في بعض المناطق العربية بحلول شهر رمضان، وانتشار الثمرة في الأسواق تزامناً مع ظهور الهلال.
انتشار الحكاية
تدور الروايات حول شخصية “قمر الدين” بوصفه رجلاً عادياً من عامة الشعب الدمشقي، لكن هناك روايات قوية حول علاقة التسمية بالخلافة الإسلامية، وليس بعامة الناس، وذلك عبر الدولة الأموية، التي كان مركزها دمشق بعد انتقال الخلافة الإسلامية إليها. ويعود ذلك إلى كون خلفاء الدولة الأموية، ومنهم عبدالملك بن مروان وولده الوليد هم أكثر من أسهموا في نشر وانتشار الأسطورة الغذائية والدينية حول المشروب، إذ طلبه عبدالملك فوصله المشروب الذي ذاع صيته متأخراً وتزامناً مع حلول شهر الصيام، فيما وزعه بعده خليفته الوليد على عامة الناس حال ثبوت رؤية كل هلال.
طبياً وغذائياً
تشير تقارير لمواقع طبية متخصصة إلى أن المشروب مفيد للجهاز الهضمي وحماية القلب، ويفيد في حال نقص الحديد ويقوي المناعة ويساعد في زيادة الوزن ويحمي من هشاشة العظام وحب الشباب، علاوة على أنه مفيد في ترطيب البشرة ويكافح علامات التقدم في السن، شريطة إعداده بطريقة صحية.
شاب سوري من الغوطة الشرقية يعرض شريطاً مجمعاً من عجينة المشمش المجفف
وتؤكد أيضاً أن “قمر الدين” مصدر للبوتاسيوم والمعادن، ويحمي من انخفاض السكر في الدم ويخفف التعب والصداع الذي يصاب به الصائم. وكوب واحد منه يحوي 150 غراماً من ” قمر الدين” الصافي، عدا عن السكريات الأخرى التي تضاف إليه. ومن الأطباء العرب القدامى قال عنه ابن سينا إنه يخفف العطش أو يسكنه تماماً شريطة أن يخلط مع اليانسون وأشياء أخرى.
الدول المشهورة بإنتاج المشمش
دول إنتاج المشمش الأهم هي تركيا وإيران وإيطاليا وفرنسا والمغرب ومصر وسوريا، ومن اللافت أن أقل الدول إنتاجاً للمشمش هي سوريا، موطن أسطورة المشروب الرمضاني، فيما الصين وهي البلد الذي نسب إليه ظهور شجر المشمش قبل ميلاد المسيح بثلاثة آلاف سنة ليست في قائمة المنتجين الكبار له حديثاً.
وشجرة المشمش حساسة للغاية، وعدم توفر درجات الحرارة المنخفضة والبرودة خلال فصلي الخريف والشتاء يتسبب بموت البراعم الزهرية وعدم تفتحها، ولذلك عادة ما تجفف ثمرة المشمش أو تعلب نظراً لقصر مدة بقاء الثمار بعد نضجها.
فيتامين “أ” للبشرة
يؤكد اختصاصيو التغذية أن أشهر مكونات المشروب هي البوتاسيوم، فيما يتوفر بالمشروب كمية عالية من فيتامين “أ” الذي يساعد كثيراً في ترطيب البشرة ويعالج كثيراً من أمراضها.
وتقول عنه اختصاصية التغذية ربى العباسي، “إن ثمار المشمش التي يصنع من عصيرها (قمر الدين) تحوي الفيتامينات والمواد السكرية ومادة مشابهة للكاروتين ومواد دهنية ونشوية ومعادن مثل الفوسفور والماغنسيوم والكالسيوم والحديد والبوتاسيوم والصوديوم والكبريت”.
رواية “أمر الدين”
يقول الصحافي أحمد بدر في مقالة مختصرة حول المشروب – على الشبكة العنكبوتية، إنه في قرية سورية، اسمها “أمر الدين”، ظهر للمرة الأولى مشروب من فاكهة المشمش، اعتاد أهل القرية شربه، ولكنه – لجماله – امتد خارجها، حتى وصل صيته إلى الخليفة الأموي، عبدالملك بن مروان، الذي طلب أن يتذوقه، فوصل المشروب إليه في شهر رمضان، ليصبح بعد ذلك مشروباً رمضانياً مميزاً.
ووفق المقالة ذاتها فإن مشروب قرية “أمر الدين”، الذي تطور نطقه على لسان العامة لاحقاً إلى “قمر الدين”، والذي كان بالأساس مشروباً شامي الصنع، أصبح أيقونة لشهر رمضان، في عدد من الدول العربية والخليج ومصر، لكن يبقى السوريون هم أفضل من صنعوه وصدروه على مر التاريخ.
وعلى مر التاريخ، عرف المسلمون وغيرهم طريقة تحضير “قمر الدين” بطريقتين، الأولى هي إعداد العصير منه، والثاني هي “المهلبية”، بإضافة الحليب والنشا إليه.