حرية – (23/3/2024)
إذا توفرتَ على تجربةِ حياة غنيّة، مُكتنِزةٍ بأنواع الخبرة بين المعيش والتّعلم ومعاشرةِ الأقوام والتغرّب والتنقل في البلدان واكتشاف أرض الله بشرًا وطبيعة وطبائعَ، ثم وصلتَ إلى مرحلة من العمر ترى فيها حياتك ذخيرةً أشبعتك، واقتنعت بها، وتهتدي ربما فيها بعض ما ينفع الناس؛ عندئذ، لا تتردد في حمل القلم، روحُك مشبعةٌ بالآية الكريمة: “ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون وإن لك لأجرًا غير ممنون وإنك لعلى خلق عظيم” (القلم 68).
أحسَب هذا ما حرّك قريحة الأديب والناقد والدارس الأكاديمي إبراهيم خليل لينفُض عنه مؤقتًا سَمْتَ رصانة الأستاذية الطويلة في الجامعة الأردنية وعديدِ جامعات ومحافل أكاديمية وأدبية عربية وأجنبية ويقبضَ على العمر سنامًا ويركب صهوتَه وفي الحنجرة بعدُ صهيلٌ والفؤادِ مشتعلُ جمراتٍ، ليمتشق ضمير المتكلم صوتًا فرديًا وحنجرةً تقول (أنا) لكن وهي مميزةٌ من البداية، ليست تلك التي ينشدها الشعراء أو تمرَح في مرابع الذات طليقةً بلا عنان، فالرجل وهو كتب القصة والشعر أولاً ودائمًا، ينتمي للجيل العربي الثاني في فلسطين والأردن من الرواد، وهؤلاء عقلاءُ بمعنى أنهم يحكِّمون الفكر قبل العاطفة ويقدمون صوت وسلطة العقل هو ميزان. قال عنه المؤرخ الباحث المغربي إبراهيم بوطالب إن مشروعه: “تميز في تاريخه الطويل بثبات القدم النقدية، ورسوخ الفكر” ويمكن وصف أعماله الكبيرة العميقة طويلة المدى (…) بكونها واضحةَ الرؤية، بعيدةَ الأفق، قريبةَ البيان، سلِسَة الروح، وساميةَ الغاية”.
في كتابه الصادر أخيرًا “أوراق من الذاكرة” (دار الخليج، عمّان، 2024) يبرهن الدكتور إبراهيم خليل على هذه المزايا، فتأتي سيرتُه مصداقًا لها يعلن من البداية أنه سيفرِد أمامنا من ذاكرة ثرّة بعضَ أوراق العمر، أولاها الطفولة في قرية عانين، بضواحي نابلس، كأنها صدفة أن يولد في عام النكبة (1948) ليصبح ويكون ابن الجيل الذي تربّى وترعرع وفلسطين بين جغرافيتين وحدودين وتاريخين، على هُدب العين يلتقط ويرسم مرابع الصبا والأماكن التي سيختلف إليها الطفل والتلميذ والفتى في ربوع التربة الفلسطينية بين جنين ونابلس خاصة، يتذكر فيه تعليمه الأوّلي بين الابتدائي والإعدادي والثانوي أخيرًا مسجِّلًا في الوقت جدول وموادَ التكوين ونظامَ التعليم وأهليةَ المكلفين به وصرامتَهم ونزاهتَهم والحرصُ الأبويُّ يحوطُه تحفه مشاهد وطقوس عيش وعشرة مجتمع بتقاليد وثقافة ستربّي شخصية الإنسان الأستاذ. هكذا، يقدم لنا شأن سلفه هشام شرابي (1927ـ2005) في كتابه: “الجمر والرماد، ذكريات مثقف عربي” (1978) فَرْشة التعليم مِهادًا وامتدادًا به تحدّد مصيرَهم أخلصوا له وتفانوا.
اعتمد الكاتب النهج التقليدي لكُتّاب السيرة وميثاقِها النوعي من حيث هي سردٌ نثريٌّ يتولى فيه ضمير المتكلم رواية حياته بدءًا من الطفولة وتدرجًا إلى المراحل الباقية، وهذا ما فعله كل كتاب “التراجم لأنفسهم وبغيرهم منهم ابن خلدون (1332ـ1406) قبل النظريات الحديثة لجنس السيرة الذاتية برطانتها الاصطلاحية أوْلاها عربٌ منا أهمية أكثر من النص المعنيّة به.
والحال أنها كتابةٌ بيّنةٌ إذا اتضح الغرض لصاحبها بين فِطرةِ القول على السّجية، والوعيِ بالتجربة خزانُها الذاكرة، ويقع تصريفها بالغرض من القول، إمّا ذاتي محض، تكون سيرةً ذاتيةً خالصة، أو ذاتية وجمعية، فتأتي تفاعلًا وتعالقًا بين قُطبي الذات والموضوع (أنا+هم)، وإما غيْرية وشبَهها هذه تُكتب عن آخر، والسيرة الغيريةُ والعالمةُ عندي من هذا الضرب.
بِحسِّ الأديبِ وثقافةِ الناقد وخميرةِ المجرّب، جمع إبراهيم خليل في (أوراقه) هذه المعالجات الثلاث، فحدثنا عن نفسه بغير زَهْو (نرجسي) إطلاقًا، تاركًا الحبل على غارب الأيام، وعن أهله وعشيرته الأقربين، فلا أنا بدون آخرين، وعن المحيط العام، هي أنا سمكةٌ في بحر، كلُّ شرح لخاطرٍ ورغبةٍ وحالةٍ يَمُدُّ جسرًا للمجتمع به يكون أو لا يكون، وهذا ما يعطي للتجربة الشخصية كثافتَها الموضوعية، فتصبحُ شهادةً ووثيقةً عن ناسٍ ومعيشٍ وزمن، وإنها لكذلك.
يمخُر الطالب النجيب عُباب التعليم في الأردن وهو بصدد بناء الذّات، سابحًا في مَعْمع أحداث، يصطدم بالنكسة تهزّ الكيانّ والشعبّ والبلادَ يضيع معها جزءٌ آخر من فلسطين. تليها أحداث أيلول الأسود (1970) لتزيد الطين بِلّة وتنكسر الثقة بين شعبين تخرج المقاومة وتحدث ردود فعل عنيفة، وهو يصف أكثر منه يعلّق، كي لا يُدمي الجُرح وبلغة اليقظ الحذر، فالقولُ مسؤولية، والكاتبُ هنا اسمٌ عَلَمٌ من أراد أن يقرأ صفحات من تاريخ الأردن والعَنت الفلسطيني في السبعينات ثم الثمانينات فلاحقًا يمكن أن يجدها رجالها وكثيرًا من أحداثها في صفحات الكتاب معلنةً علاماتٍ تاريخية بين التحمّس والحياد.
ذلك أن صاحب هذه السيرة سنَّ لها خطّ المربّي وسار في طريق التعليم والمعلّم، جاعلًا هذا عالمَه ومطمَحه ومضمارَ حياته ونبوغِه، وكذلك كان. فيه أكمل الدراسة الثانوية وحظيَ بالالتحاق بالجامعة الأردنية هي امتيازٌ يومئذ، فيها سيحضّر شهاداته من الإجازة إلى الماجستير يتوّجها بالدكتوراه، وما هذا إلا زادُ المسافر وكدِّ الطالب العصاميّ سيعُيّنُ بعد جّهدٍ ومُثابرة وكفاءة وبلا شفيع في وسط هذه عملتُه مدرِّسًا ويترقّى في مراتبها إلى درجة الأستاذية، هو القادم من وسط متواضع وعانَى الأمرّين ليصل.
قلت أعلاه، إن “أوراق من الذاكرة” تمثيلٌ لسيرة ذاتية جامعة، ونعتُّها بـ(العالمة)، لأنها تفرّدت حقًا وتميزت بهذه الصفة والاهتمام، فاعِلُها منسجمٌ مع شخصيته وكتب سيرتَه في السّياق المناسب لها يحكُمها منطقُها ويحدّدها نسقُها الخاص، ما ينبغي أن يضعه كل مؤلف لسيرة ذاتية نصبَ عينه قبل أن يقرر خوضّ مغامرة يحسَبها البعضُ تدوين شتاتِ ذكريات. إن سياق درس الأدب، والبحث العلمي الأكاديمي، والفعاليات الثقافية والإعلامية المنتجة بمقاصدَ نبيلة، ومعانقة القيم والمبادئ الوطنية القومية، والالتزام بأخلاق صارمة والتنزُّه عن المصلحة لهي الصورة المثلى المثالية، وإن لم تَخْلُ من شوائب، التي تجلّى بها هذا الجيل وحرص المؤلف على نقلها لأجيال الحاضر شهادةً صادقةً عنها وهو عضو منها فاعل، تشخيص المثقف الملتزم من قلب موقعه الأكاديمي والأدبي.
إنها روزنامة لأسماء فخمة هذه التي تتلمذ عليها الأستاذ إبراهيم خليل أو زاملها أو عاشرها في الجامعة الأردنية وخارجها في جمعات عربية مرموقة بين المغرب والسعودية وعُمان. حسبي أذكر منها الأساتذة الأجلّاء ناصر الدين الأسد، إحسان عباس، محمود السّمرة، عبد الرحمن ياغي، فهمي جذعان، خالد الكركي، عبد الكريم خليفة، نهاد موسى، أحمد ماضي وعشرات من أسماء الأدباء الفلسطينيين والأردنيين في رابطة الكتاب الأردنيين التي انتمى إليها وتقلبت في محن كما جمعت خيرة المبدعين لا يتسع المقام لذكرهم كاتب “أوراق الذاكرة” واسطة العقد فيهم، صدرت له إلى جانب قصصه وشعره، عشرات الدراسات في حقول الرواية والقصة القصيرة والشعر الحديث ومناهج الدراسة الأدبية الجديدة، وهي في مجملها ترسم صورة تمثيلية مضيئة عن البحث الجامعي العربي، وكيفية متابعة أطاريح الطلاب، وعن القضايا الفكرية الأدبية الشاغلة لمرحلةٍ خصائصها الكفاءة والنزاهة العلمية والصرامة في التدريس والتقويم، شتّان بينها وما آلت له الأحوال اليوم من هزال في البحث والتدريس والإشراف، ولا يتسامح مع هوانها.
عنونتُ سيرة الأستاذ إبراهيم خليل بأنها “صوت الذات العربية” لأن قسمًا منها رحلات تعليمية إلى بلدان في العالم العربي وخارجه، أهمّها إلى المغرب في بعثة في منتصف السبعينات، وثانية في إعارة جامعية إلى سلطنة عُمان، وثالثة أخيرة في إعارة إلى جامعة الملك عبد العزيز الرياض السعودية.
في هذه تعرّف بعمق على شعوب عربية أصيلة فلم يمر بها مرور الكرام ذلك أن رسالته للماجستير كتبها في موضوع: “رؤية العالم في الرواية المغربية”، وفي البلدان الثانية ألّف ونشر في منابرها فكان سفيرًا للأدب الأردني والفلسطيني بما يجعل من كتابه المقروء هنا قطعة بهيّة في أدب الرحلة.
في هذا القسم خصوصًا نجد ترجمةً لخواطر الذات واقترابًا من الوضع الأسري والمادي ومن قبيلها ترِدُ عرَضًا، ذلك أن كاتبَ السيرةِ العالمةِ عفيفٌ لا تكاد تقرأ له همًا أو شكوى شاغلُه موضوعُه والوجودُ حوله لا هوادة له معه، عاش فيه طويلًا صلبًا عنيدًا بأخلاق وسلوك من لا يقبل المساومة والحلول الوسطى، فذكرني بصديقي وشيخي محمد عابد الجابري (1935ـ 2010) في سيرته: “حفريات في الذاكرة” (1997) كيف وصف مساره الشخصي اقتطع فيه جزءًا يسيرًا لذكريات الطفولة وأمِّه خصوصًا، مركِّزًا على النهج التربوي وكيفية بناء الشخصية الثقافية. تلك سِيَرُ الفُضلاء هي نصوصٌ بيانية واستكشافية تُغني ثقافتنا وتصلُح قدوة للأجيال، ليتهم بها ينتفعون.