حرية – (26/3/2024)
عقب فوز الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين بولاية خامسة، عرض “النهار العربي” مجموعة من المؤشّرات التي تظهر التباساً في المشهد الروسيّ: بوتين أقوى من أيّ وقت مضى لكنّ روسيا لم تكن كذلك.
بالرغم من كلّ التفوّق النسبيّ في الميدان، يظلّ الجزم بطبيعة المسار الذي ستسلكه روسيا في الأعوام القليلة المقبلة شائكاً. لخّص “انتصار التّناقضات” ضبابيّة هذا المشهد. لأوّل مرّة منذ عقود، لم تبدُ قوّتا بوتين وروسيا متكاملتين إلى هذا الحدّ. هجوم داعش على قاعة كروكوس سيتي للحفلات الموسيقيّة في ضواحي موسكو يعقّد الصورة أكثر. يمكن أن يكون الهجوم ناجماً عن ثغرات أمنيّة لم تسلم منها غالبيّة الدول بما فيها تلك المتقدّمة. لكنّه قد يشير إلى سلسلة أوسع من نقاط الضعف في روسيا.
اللافت في الهجوم أنّه أتى بعد تحذيرات أميركيّة سابقة، في أوائل آذار (مارس) وفي السابع منه، حيال هجمات محتملة لمتطرّفين ضدّ تجمّعات عامّة. وصف بوتين تلك التحذيرات بأنّها “ابتزاز” من الغرب.
يمكن فهم أسباب رفض موسكو للتحذيرات الأميركيّة. من منظور روسيّ، لن تكون الولايات المتحدة الداعمة عسكريّاً لأوكرانيا في موقع يخوّلها ادّعاء الحرص على مصلحة روسيا. من المنظور نفسه أيضاً، ربّما حاولت واشنطن عبر نشر تلك المعلومات نشر بلبلة في البلاد، بخاصّة بعد التطوّرات العسكريّة الميدانيّة وعلى أبواب الانتخابات الرئاسيّة. عند هذا الحدّ، تتوقّف مبرّرات روسيا بتجاهل التحذيرات الأميركيّة.
داعش “المهووس” بروسيا
في البداية، أعلنت الأجهزة الأمنيّة الروسيّة نفسها عن غارتين ضدّ خلايا إرهابيّة تابعة لداعش خراسان في 2 و7 آذار داخل روسيا. بالتالي، كانت موسكو مطّلعة بشكل مباشر على التهديد الإرهابيّ. من ناحية أخرى، تحدّث مراقبون كثر عن أنّ داعش كان “مهووساً” بمهاجمة روسيا لأنّها حاربته في سوريا وفي القوقاز الشماليّ وبسبب حربي الشيشان السابقتين. في السياق نفسه، قال الباحث البارز في “مركز الدراسات الاستراتيجيّة والدوليّة” دانيال بايمان إنّ “روسيا تمثّل أحياناً عدوّاً مساوياً أو أعظم من الولايات المتحدة” بالنسبة إلى داعش خراسان.
وفي أيلول (سبتمبر) 2022، هاجم التنظيم نفسه سفارة موسكو في كابول ممّا أدّى إلى مقتل ستّة أشخاص من بينهم موظّفان في السفارة. وفي 2017، تسبّب انتحاريّ بمقتل 15 شخصاً في مترو سانت بطرسبرغ، بينما تسبّب هجوم انتحاريّ مزدوج ضدّ محطّة قطارات في موسكو سنة 2010 بمقتل 40 شخصاً. وبين 1992 و2018، بلغ عدد الهجمات الإرهابيّة التي قامت بها تنظيمات مسلّحة من جمهوريّات القوقاز الشماليّ خارج تلك الحدود 94 هجوماً.
بالتالي، لم تخرج روسيا قط من دائرة استهداف داعش. وعلى أيّ حال، لا يتحرّك “هوس” داعش بروسيا في فراغ.
التنظيم ينشط في آسيا
يَظهر أنّ داعش يلملم صفوفه في دول آسيويّة عدّة، مثل سوريا حيث يعيد حتى فرض خوّات في بعض المناطق. ومن بداية 2023 حتى أيلول (سبتمبر) من السنة نفسها، أحصى “المرصد السوريّ لحقوق الإنسان” أكثر من 120 هجوماً لداعش على مناطق خاضعة لقوّات سوريا الديموقراطيّة “قسد” وقد أدّت إلى مقتل نحو 80 شخصاً. وفي أوائل شباط (فبراير) الماضي، لفت القائد العامّ لـ”قسد” مظلوم عبدي إلى زيادة نشاط “داعش” في الآونة الأخيرة.
ولا تغيب أفغانستان عن البال، وهي المقرّ الأساسيّ لداعش خراسان (خصوصاً في الشرق)، حيث يبدو أنّ “طالبان” غير قادرة على محاربته بشكل فعّال. حتى أنّ تنظيم “القاعدة” أيضاً يعود إلى الازدهار مجدّداً في أفغانستان. وقتل داعش أيضاً في بداية هذه السنة نحو 100 شخص في كرمان الإيرانيّة حيث كان حشد يستعدّ لإحياء ذكرى اغتيال قائد “قوّة القدس” قاسم سليماني. بالمناسبة، كانت الولايات المتّحدة قد حذّرت أيضاً إيران بشكل مسبق من هجوم داعش، بناء على القاعدة نفسها وهي “واجب التحذير”. وفي كانون الثاني أيضاً، هاجم التنظيم كنيسة سانتا ماريا الكاثوليكيّة في إسطنبول ممّا أسفر عن مقتل مواطن تركيّ.
(الشرطة التركية تضرب طوقاً أمنياً بعد هجوم داعش على كنيسة سانتا ماريا – أ ب)
صحيحٌ أنّ داعش هُزم إلى حدّ بعيد في سوريا والعراق وأنّ نصف ضحاياه يتركّزون في دول أفريقيّة جنوب الصحراء كما قال منذ أيّام نائب الموفد الخاصّ للتحالف الدوليّ لمكافحة داعش إيان ماكاري، لكنّه شدّد في الوقت نفسه، من بين جملة أمور، على ضرورة كبح تهديد داعش خراسان. وفي أوائل الشهر الحاليّ، حذّر قائد القيادة المركزيّة الأميركيّة الجنرال مايكل كوريلا في شهادة أمام لجنة الخدمات المسلّحة في مجلس الشيوخ، من أنّ “داعش خراسان يحتفظ بإمكانيّة ونيّة مهاجمة الولايات المتحدة ومصالح غربيّة في الخارج خلال فترة تصل إلى ستة أشهر بإنذار ضئيل أو بدون إنذار”. وكان هذا التقييم مشابهاً لتحذيره الذي أطلقه سنة 2023 أيضاً.
عنوان المرحلة المقبلة
عجزت روسيا عن التقاط أو ربط جميع هذه العلامات لتصوّر جدّيّة الخطر الإرهابيّ. في إحدى النواحي، ربّما ساهم نجاح روسيا في غارتي 2 و7 آذار ضدّ خليّتين للتنظيم بانتشار انطباع عن أنّ الخطر الإرهابيّ تأجّل إلى مستقبل أبعد. لكن في نواحٍ أخرى، بدا أنّ ذهن صنّاع القرار السياسيّ والأمنيّ في روسيا منصبّ على الميدانيّات الأوكرانيّة حتى تشتّت عن أيّ تهديد آخر تقريباً. كان ذلك جليّاً أكثر بعد الساعات الأولى على الهجوم حين أصرّ إعلاميّون روس على ربط المهاجمين بأوكرانيا. ومع أنّ داعش تبنّى مسؤوليّة الهجوم ونشر صوراً عنه على وكالته “أعماق”، قال بوتين بعد 24 ساعة على الهجوم، مستنداً إلى معلومات أوّليّة، إنّ “الجانب الأوكرانيّ” أعدّ “نافذة عبور” كي ينتقل المهاجمون عبرها إلى الأراضي الأوكرانيّة. ونفت كييف بشدّة أيّ علاقة لها بالهجوم.
في الحسابات السياسيّة المباشرة، يسهّل تحميل كييف الملامة مهامّ روسيّة عدة: رمي المسؤوليّة على الخارج، وإعطاء مبرّر إضافيّ للحرب ولمسار تصعيديّ مقبل، إن لم يكن مبرّراً لتعبئة أخرى. قال وزير الدفاع الروسيّ سيرغي شويغو الأسبوع الماضي إنّ روسيا بصدد إنشاء جيشين برّيّين جديدين و14 فرقة و16 لواء بحلول نهاية 2024، وهذا يعني رقماً قريباً من نصف مليون عنصر إضافيّ.
بالمقابل، قد يطلق اتّهامٌ رسميّ لداعش بتدبير الهجوم مشاكل كبيرة في الداخل. سيفتح الأعين أكثر على سبب حصول مثل هذا الخرق بالرغم من التحذير، وسيُظهر أيضاً أنّ الاستخبارات الأميركيّة على دراية بالأوضاع الداخليّة لروسيا أكثر من نظيرتها الروسيّة نفسها.
لهذه الأسباب، سيكون من المنطقيّ توقّع مواصلة روسيا لوم أوكرانيا ضمن السرديّة الإعلاميّة نفسها مع حشد المزيد من الموارد لكسب الحرب ضدّ كييف. وسيكون استهداف البنية التحتيّة المدنيّة والعسكريّة بصواريخ متطوّرة أحد الردود الكبيرة المرجّحة. لكن خلف الصخب الإعلاميّ والعسكريّ، ستحاول موسكو التقاط مكامن الخلل بهدوء، وربّما تعاود الإصغاء إلى التحذيرات الأميركيّة طالما أنّها تتمّ عبر قنوات ديبلوماسيّة خلفيّة.
المشكلة الحقيقيّة
بالرغم ممّا سبق، ثمّة أسئلة عمّا إذا كان الهجوم الأخير على موسكو سيمثّل منعطفاً على مستوى الحرب. من جهة، لم تكن روسيا بحاجة إلى ذرائع لتعزيز حربها ضدّ أوكرانيا في وقت تهبّ الرياح الدوليّة في “أشرعتها” العسكريّة. بعبارة أخرى، مع أو بدون هجوم كروكوس، كانت روسيا ستواصل استغلال تعثّر الكونغرس الأميركيّ في تحويل الدعم إلى كييف على أبواب انتخابات رئاسيّة مفصليّة.
ربّما تكمن المشكلة الحقيقيّة في ما إذا كانت موسكو قادرة فعلاً على إيجاد توازن في توزيع الموارد الأمنية والعسكريّة بين روسيا أوكرانيا. في قراءة معبّرة عن بطء الاستجابة لخطر الإرهابيّين وهم يقتحمون القاعة، كتب كبير مراسلي الشؤون الأمنيّة لشبكة “سي أن أن” نيك باتون والش: “القوّات الخاصّة لم تهرع للدخول؛ هي ميتة، أو منشغلة في مكان آخر. حتى بعض عناصر الشرطة تمّ نشرها على الجبهات الأماميّة”.