حرية – (26/3/2024)
رغم الحديث المتواصل عن ترسيخ إيران نفوذاً اقتصادياً كبيراً في سوريا خلال السنوات الماضية، تشير الأرقام المخيّبة للتبادل التجاري بين الطرفين، ودخول علاقتهما الاقتصادية في نفق التراجع والانحدار العام الماضي، بحسب ما رصد خبراء اقتصاديون، إلى أن الجهود الإيرانية للفوز بالحصّة الأكبر من كعكة السوق السورية لا تزال حبيسة أوهام التحالف السياسي والعسكري القائم بينهما، والذي لم يستطع رغم قوته ومتانته كسر حالة الجمود التي يعانيها المسار الاقتصادي.
وبدأت أخيراً أصوات إيرانية تتحدث بوضوح عن خيبة الأمل من واقع العلاقات التجارية بين البلدين، وليس فقط عدم ارتقائها إلى مستوى العلاقة السياسية والعسكرية، بل اتخاذها منحى تنازلياً نتيجة العديد من الأسباب والعراقيل التي دائماً ما يُحمّل الجانب الإيراني نظيره السوري المسؤولية عنها، وسط التزام الأخير الصمت إزاء هذه التصريحات.
وقال نائب رئيس الغرفة المشتركة الإيرانية – السورية علي أصغر زبردست، إن السلطات السورية لم تتخذ حتى الآن أي خطوة لتنفيذ التزاماتها ضمن الاتفاقيات التي توصلت إليها مع طهران، خلال زيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي سوريا، العام الماضي، والتي تنص على توسيع صادرات إيران إلى سوريا.
وأكد أن سوريا استوردت بضائع بقيمة خمسة مليارات دولار في عام 2023، لم تتجاوز حصة إيران منها الـ250 مليون دولار.
وأضاف زبردست أن متوسط صادرات إيران إلى سوريا في السنوات الماضية كان يتراوح بين 250 مليوناً و280 مليون دولار سنوياً، لكن هذا الرقم انخفض إلى 120 مليون دولار في 10 أشهر من العام الإيراني الماضي الذي انتهى قبل أيام.
وأوضح أن إنشاء فروع للمصارف الإيرانية في سوريا كان من بين الإجراءات المفترض اتخاذها، إلا أن النظام لم يفعل ذلك حتى الآن رغم إنجازها من الجانب الإيراني.
ورأى أن الضربات الإسرائيلية في سوريا تقلل من رغبة السوريين في استيراد البضائع الإيرانية، فضلاً عن أن صعوبة نقل البضائع الإيرانية إلى سوريا عبر العراق تقلل من رغبة المصدرين الإيرانيين في إرسال البضائع إلى سوريا.
وقبل ذلك، في 12 من الشهر الجاري، قال المدير العام لمنظمة غرب آسيا لتنمية التجارة عبد الأمير ربيهاوي، حسبما نقلت وسائل إعلام إيرانية، إن ايران صدّرت في العام الماضي إلى سوريا ما قيمته 244 مليون دولار.
وأضاف أن “هذا الرقم وصل في العام الحالي إلى 120 مليون دولار (…) هذه ليست إحصائية تستحق التعاون الاقتصادي بين البلدين”.
علاقات استراتيجية
وفي السياق نفسه، أوضح رئيس المكتب السوري في وزارة الخارجية شاه حسيني أن “العلاقات الإيرانية السورية استراتيجية وهي في ذروتها عسكرياً وسياسياً”، لكنه استطرد بالقول إن “المسؤولين الإيرانيين والسوريين يشكون من تدني مستوى العلاقات الاقتصادية”.
حسيني أضاف كما نقلت وكالة “مهر” أنه خلال 9 أشهر من العام الحالي بلغ حجم العلاقات التجارية بين البلدين 100 مليون دولار، “وهو أمر مؤسف”، وفق تعبيره. وتابع محذراً: “إذا لم نذهب إلى هذا البلد الآن حيث ليس لدينا منافسون أقوياء فسيكون من الصعب تطوير العلاقات الاقتصادية بين البلدين في المستقبل”.
حدثان
تأتي هذه الإحصاءات التي تضمنتها تصريحات المسؤولين الإيرانيين، بعد عام تقريباً من حدثين شهدتهما العلاقة السورية – الإيرانية وراهن كثر عليهما لتحقيق انعطافة إيجابية في مسار العلاقة الاقتصادية بين البلدين. الحدثان اللذان لم تفصل بينهما سوى أسابيع قليلة هما: تعيين سفير إيراني جديد في سوريا هو على حسين أكبري في مطلع نيسان (أبريل) الماضي، والذي وصفته معظم التقارير الإعلامية بأنه “رجل اقتصاد” في الدرجة الأولى، وهو ما أكده التصريح الأول الذي أدلى به بعد وصوله إلى دمشق وتسلم مهمته، إذ قال لصحيفة “الوطن” إن “الأولوية في العلاقات في المرحلة المقبلة ستكون للملف الاقتصادي، بما يؤمن مصالح الشعبين والبلدين”.
والحدث الثاني هو زيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي لسوريا في شهر أيار (مايو) من العام الماضي، بعد تعيين أكبري بشهر فقط، وأسفرت بحسب ما تناقلته وكالات إعلام البلدين عن توقيع أكثر من عشر اتفاقيات ومذكرات تفاهم، من بينها مذكرة تفاهم للتعاون الاستراتيجي في مجالات كثيرة مثل الاقتصاد والدفاع والثقافة. كما أكد الطرفان ضرورة وضع اتفاقياتهما ومذكرات التفاهم العديدة بينهما، خلال الفترة ما بين 2017 و2022، موضع التنفيذ. وكان سبق زيارة رئيسي انعقاد أعمالُ الدورة الخامسة عشرة للجنة العليا المشتركة السورية-الإيرانية، والتي لم تعقد منذ عام 2019.
غير أن ذلك لم يكن كافياً لإنعاش ما تمر به العلاقة الاقتصادية بين البلدين من حالة جمود مستعصية، وحتى افتتاح الخط البحري لنقل البضائع من ميناء بندر عباس إلى ميناء اللاذقية عام 2021 والذي وصفه البعض بأنه سيؤدي إلى إغراق الأسواق السورية بالبضائع الإيرانية، أخفق بدوره في تحقيق أي نتائج إيجابية.
ودحضت هذه الأرقام مزاعم رئيس الحكومة السورية حسين عرنوس بأن حكومته أوجِدَت حلولاً للعوائق التي “تقف بوجه تنفيذ مذكرات التفاهم بين الجانبين”، مشيراً إلى أن “نتائج اللقاءات الأخيرة ستظهر خلال أيام … لأنها قامت بإنشاء بنية اقتصادية تساعد الشعب السوري على مبدأ رابح-رابح”.
والمفارقة أن هذا الواقع الاقتصادي يتكرس رغم العديد من الإجراءات التي يتخذها البلدان لتصحيحه وإعادته إلى الحياة، ومن أهم هذه الإجراءات في الآونة الأخيرة إلغاء الرسوم الجمركية بين البلدين الذي دخل حيز التنفيذ منذ بداية كانون الثاني (يناير) الماضي. كما أعلن المصرف المركزي السوري عن الاتفاق على موضوع تبادل العملات المحلية بين البلدين، لتسهيل العمليات التجارية والمالية، والتنسيق المشترك بشأن الربط بين نظامي الدفع الإلكتروني للبلدين، بحيث يمكن استخدام بطاقات الدفع الصادرة عن أي من الدولتين على أجهزة كلا البلدين، لتسهل العمليات التجارية والسياحية بين البلدين.
كما جرى في مطلع الشهر الجاري الحديث عن افتتاح مصرف مشترك بين سوريا وإيران يكون الهدف منه التغلّب على معضلة تحويل الأموال التي فرضها تعرض البلدين لعقوبات اقتصادية من الولايات المتحدة وأوروبا الغربية.
في ظلّ هذا الواقع، يعتقد العديد من المراقبين أن تراجع التعاون الاقتصادي بين سوريا وإيران قد لا ينبغي البحث عن أسبابه ضمن النطاق الاقتصادي نفسه، بل يجب الأخذ بالاعتبار الكثير من الأسباب والعوامل الاقتصادية التي ربما تدفع السلطات السورية إلى التريّث والتمهل قبل تعميق علاقاتها الاقتصادية مع طهران. ومن أهم هذه العوامل اضطرار دمشق إلى وضع علاقاتها مع إيران مقابل طموحها في تحسين علاقاتها العربية، لا سيما في ظل رفض العديد من الدول توسع الدور الإيراني في سوريا بسبب تأثيره على الأمن القومي العربي من وجهة نظر هذه الدول. ولذلك يرى هؤلاء أن دمشق ربما تحاول في علاقتها الاقتصادية مع إيران أن تلعب على عامل الوقت بانتظار التطورات السياسية في المنطقة والعالم، لكن ذلك لا يمنع أن هامش الوقت بات يضيق أكثر فأكثر، وقد تجد دمشق نفسها مضطرة إلى الانخراط جدياً في تنفيذ اتفاقاتها مع إيران إذا لم تجد في تطبيع علاقاتها عربياً بريق أمل لتحسين واقعها الاقتصادي المتدهور.