حرية – (28/3/2024)
كان مرض جدري الماء مرضاً فظيعاً من آلام وحمى والتهابات قد تودي بالحياة إلى ندوب مقززة تبقى مدر الحياة، فضلاً عن ملايين الأرواح التي حصدها. لكن البشرية تمكنت من الانتصار عليه بفضل طبيب ريفي جرب نظريته على طفل فأنقذ حياته ومعه الملايين.
ويصف عالم الأوبئة رينيه ناجيرا، محرر موقع History of Vaccines الإلكتروني، أعراض المرض كالتالي: “يتألم جسمك، وتصاب بحمى شديدة، والتهاب في الحلق، وصداع، وصعوبة في التنفس”.
لكن هذا لم يكن أسوأ ما في الأمر.
علاوة على ذلك، يُصاب المريض بطفح جلدي مروع على سائر الجسم.
تمتلئ البثور بالصديد في فروة الرأس والقدمين والحلق وحتى الرئتين. ثم بعد مدار يومين، تجف البثور وتبدأ القشور في التساقط.
مع صعود التجارة العالمية وانتشار الإمبراطوريات، تسبب الجدري في تدمير مجتمعات بأكملها حول العالم. وكان من المتوقع أن يموت قرابة ثلث البالغين المصابين بالجدري، و8 من كل 10 أطفال مصابين.
وبحلول أوائل القرن الثامن عشر، كان المرض يودي بحياة 400 ألف شخص سنوياً في أوروبا وحدها.
جميع علاجات الجدري فشلت في القرن الـ18
كانت الموانئ أكثر المناطق المعرض روادها للخطر، إذ أدى تفشي مرض الجدري في عام 1721 بمدينة بوسطن الأمريكية إلى القضاء على 8% من السكان. وحتى من نجا، فقد عانى ندوباً دائمة.
أصيب بعض الناجين بالعمى الدائم، وجميعهم عانوا ندوباً إثر البثور التي احتلت أبدانهم.
فبحسب ما قاله ناجيرا لهيئة الإذاعة البريطانية BBC: “عندما تسقط القشرة، تترك وراءها آثاراً وتشوهات لا تُمحى، لدرجة أن بعض الأشخاص آثروا الانتحار بدلاً من العيش بكل هذه الندوب”.
كانت جميع محاولات العلاجات إما غير مجدية وإما عجيبة (وغير مجدية أيضاً).
فمنها ما تضمن وضع الأشخاص في غرف دافئة، وأحياناً في غرف باردة، أو الامتناع عن تناول البطيخ، أو لف المرضى بقطعة قماش حمراء، ووفقاً لما ذكره أحد أطباء القرن السابع عشر، كان أحد أساليب العلاج هو إعطاء “12 زجاجة بيرة صغيرة” للمريض كل 24 ساعة؛ لتخفيف شدة الألم على الأقل.
ثم ظهر التحصين أو التجدير بقيح مريض آخر
ومع ذلك، كان هناك علاج حقيقي واحد يُعرف باسم التحصين أو التجدير، وهو ينطوي على استخراج القيح من جلد شخص مصاب بالجدري، وخدش جلد شخص سليم به.
كذلك كانت هناك تقنية أخرى تضمنت استنشاق قشور البثور بالأنف.
بدأ التحصين لأول مرة بإفريقيا وآسيا قبل أن يصل في نهاية المطاف إلى أوروبا في القرن الثامن عشر، ثم أمريكا الشمالية على يد رجل مستعبد يُدعى أونيسيمس.
عادة ما كان ذلك التحصين يؤدي إلى الإصابة بحالة خفيفة من المرض، لكن ليس دائماً، فقد أُصيب بعض الأشخاص بحالات خطيرة، فيما أصبح كل من حُصِّنوا حاملين للمرض، ونقلوه عن غير قصد إلى الأشخاص الذين التقوهم.
كانت هناك حاجة ماسة إلى حل أفضل.
بحلول القرن الثامن عشر الميلادي، كانت هناك مجموعة محصنة من الناس تعيش في إنجلترا.
وبدلاً من الإصابة به، أصيبت الخادمات بمرض خفيف نسبياً يصيب المواشي يسمى جدري البقر، ولم يكن يترك ندوباً تُذكر.
خلال انتشار وباء الجدري في غرب إنجلترا عام 1774، قرر المزارع بنجامين جيستي إجراء تجربة.
استخرج بعض القيح من الجروح الناجمة عن جدري البقر من أثداء بقرة، وخدش بها جلد زوجته وأبنائه؛ فلم يُصب أي منهم بالجدري.
ومع ذلك، لم يعرف أحد بعمل جيستي إلا بعد سنوات عديدة. مع أن الرجل الذي يُنسب إليه الفضل الآن في اختراع اللقاح، والأهم من ذلك الترويج له، قدَّم ملاحظات مماثلة وتوصل إلى استنتاجات شبهية.
أول لقاح في التاريخ
كان إدوارد جينر طبيباً ريفياً يعمل ببلدة بيركلي الصغيرة في غلوسيسترشير. تدرب في لندن تحت إشراف أحد أبرز الجراحين في وقته.
يُعتقد أن اهتمام جينر بعلاج الجدري كان بسبب تأثره بالتجربة التي مر بها في طفولته عندما حُصِّن ضد الجدري.
ويُقال إن جينر أصيب بندوب نفسية من تلك التجربة، وكان أحد دوافعه هو حجم الأسى الذي خلفته تلك التجربة في نفسه، وكما يقول أوين غاور، مدير متحف منزل دكتور جينر: “كان يريد إيجاد حل بديل، أكثر أماناً وأقل رعباً”.
في عام 1796، وبعد جمع بعض الأدلة الظرفية من المزارعين والحلابات، قرر جينر خوض تجربة على طفل قد تودي بحياته.
أخذ بعض القيح من جروح جدري البقر الظاهرة على يدي حلابة صغيرة السن تُدعى سارة نيلمز، وخدش بها جلد جيمس فيبس البالغ من العمر 8 سنوات فقط.
بعد أيام قليلة من الأعراض الخفيفة، تعافى جيمس بما يكفي لكي يحصنه جينر بالقيح المصاحب لجدري الماء، لكن جيمس لم يصب به، ولا أي من الأشخاص الذين كان على اتصال وثيق بهم.
على الرغم من نجاح التجربة، فهي وفقاً لمعايير اليوم تثير إشكالية أخلاقية.
تقول شيلا كروكشانك، أستاذة علم المناعة في جامعة مانشستر: “لم تكن تجربة إكلينيكية فعلية، واختيار طفل لاختبارها أمر غير مريح”.
لقاح ضد فيروس مجهول
فحتى جينر نفسه، لم يكن على دراية بالعلم الكامن وراء الاكتشاف. لم يفهم أن ذلك المرض سببه الإصابة بفيروس يسمى فاريولا، وكانت طريقة عمل الجهاز المناعي للجسم لغزاً في ذلك الوقت.
تقول كروكشانك: “اعتمد أسلوبهم في العلاج على خلق مناعة للجسم، وأجسام مضادة وذاكرة لها، دون أن يكون لديهم أي وعي بكل ذلك. إنه أمر مذهل، لكنه مخيف بعض الشيء أيضاً”.
ومع ذلك، أدرك جينر أن ذاك اللقاح (كلمة Vaccine، وهي لقاح بالإنجليزية، مشتقة من الكلمة اللاتينية لجدري البقر Vaccinia) قادر على تغيير وجه الطب وإنقاذ الأرواح. لكنه كان يعلم أيضاً أنه لن يوقف المرض إلا إذا تمكن من تلقيح أكبر عدد ممكن من الناس.
يقول غاور: “لم يسع جينر إلى جني أي أموال من لقاحه، ولم يكن مهتماً بتسجيل براءة اختراعه. أراد فقط أن يعرف الناس عنه وأراد مشاركته”.
حوَّل جينر مبنى صغيراً في حديقته إلى ما سماه “معبد اللقاح”، ودعا السكان المحليين ليتلقوا لقاحهم فيه بعد ارتياد الكنيسة يوم الأحد.
يقول غاور: “راسل جينر أطباء آخرين وعرض عليهم عينات من مادة اللقاح، وشجعهم على صنع لقاحات بأنفسهم حتى يتولى أخصائيو الصحة المحليون الموثوق بهم مهمة تلقيح الناس. وهو سلوك نألفه الآن ونراه في حملات الترويج للقاح، ومحاولات ضمان أن رسالة إقناع الناس باللقاحات يُعنى بنشرها الشخص المناسب”.
بعدما نشر جينر النتائج التي توصل إليها، انتشرت أخبار الاكتشاف بجميع أنحاء أوروبا، ثم انتشرت في جميع أنحاء العالم بفضل دعم من ملك إسبانيا.
ملك إسبانيا ينشر اللقاح
فقد الملك تشارلز الرابع العديد من أفراد عائلته بسبب الجدري، بينما أصيب آخرون ومن ضمنهم ابنته ماريا لويزا، بندوب دائمة بعد نجاتهم من المرض. عندما سمع عن لقاح جينر، كلف طبيباً لقيادة رحلة استكشافية عالمية من أجل إيصال اللقاح إلى أبعد المناطق في الإمبراطورية الإسبانية.
لكن بحسب ما قاله، كان المستعمرون الأوروبيون هم أول من أدخل مرض الجدري إلى معظم هذه المناطق في المقام الأول.
وفي عام 1803، أبحرت سفينة إلى أمريكا الجنوبية، وكان على متنها 22 يتيماً حاملين للقاحات.
يوضح ناجيرا: “لم تكن هناك أي وسيلة لإنتاج لقاح بكميات كبيرة، لذا كانوا يلقحون أحد الأطفال، ومن ثم يصاب الطفل بالبثور، ثم يستخلصون القيح من جلده بعد يومين، وينقلونه للطفل التالي وهكذا دواليك”.
وقتها، قامت مديرة دار الأيتام، إيزابيل دي زيندالا إي غوميز، على رعاية هؤلاء اليتامى، وأحضرت معها ابنها أيضاً للمساعدة.
ولنشر الفائدة إلى أكبر عدد ممكن من البلدان، سافرت البعثة عبر منطقة البحر الكاريبي والأمريكتين الجنوبية والوسطى، وعبرت في نهاية المطاف المحيط الهادئ وصولاً إلى الفلبين.
إنقاذ ملايين الأرواح في عقدين فقط
في غضون 20 عاماً من اكتشافه، كان لقاح جينر قد أنقذ بالفعل ملايين الأرواح. وسرعان ما أصبح التطعيم ضد الجدري ممارسة شائعة في جميع أنحاء العالم، وقُضي عليه تماماً بحلول عام 1979.
يقول ناجيرا: “عن نفسي، يمنحني هذا أملاً في صنع لقاح ضد كوفيد-19. لدينا الآن مئتا عام من المعرفة بالفيروسات والجهاز المناعي، لكن جينر حقق كل ذلك دون أي فكرة عما يتعامل معه”.
ويضيف غاور: “جينر مترسخ في ذهني كأحد أفضل أبطالي العلميين. غيّر عزمه وابتكاره العالم، وأنقذ حياة ملايين لا حصر لهم، وما يزال اكتشافه مستمراً في إنقاذ الأرواح”.