حرية – وكالات- 17/4/2024
فيما يتخذ زعيم الحزب المعارض كير ستارمر موقفاً واضحاً في شأن الإنفاق الدفاعي، في الآتي محاولة لتحليل السياسة الراهنة للحزب حيال هذا الموضوع، ومقارنتها بالنهج الذي اتبعه سلفه جيريمي كوربين
وقف زعيم حزب “العمال” البريطاني المعارض كير ستارمر مرة أخرى وبصورة مباشرة في صف حزب “المحافظين” في ما يتعلق بمسألة الدفاع وتجديد الردع النووي البريطاني، وذلك من خلال تبنيه هذه المرة موقفاً قوياً حيال الموضوع.
وقطع في مقال له داخل صحيفة “ديلي ميل” – وهي مطبوعة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بأيديولوجية حزب “المحافظين” – ما وصفه بـ”الوعد الحديدي” الذي يؤكد تمسكه الثابت بالحفاظ على القدرات النووية للمملكة المتحدة، مشدداً على أهميته باعتباره “التزاماً لأجيال وعقود متعددة”. وقال إن هذا الالتزام “لا يتعلق فحسب بحماية أراضي البلاد ودعم حلفاء بريطانيا في ’حلف شمال الأطلسي‘ (ناتو)، بل يرتبط أيضاً بحماية اقتصادنا”.
وعزز ستارمر خطوته هذه بزيارة تكتيكية لحوض بناء السفن في بلدة “بارو إن فورنيس” في مقاطعة كامبريا في إنجلترا، إذ تبنى غواصات جديدة من فئة “دريدنوت” Dreadnought، والتي من المخطط لها حمل صواريخ “ترايدنت” Trident النووية، في ثلاثينيات القرن الجاري. وتعد هذه الزيارة الأولى من نوعها التي يقوم بها زعيم لحزب “العمال” منذ نحو ثلاثة عقود. بهذه اللهجة، يكون ستارمر حسم ابتعاده بصورة واضحة عن السياسة الدفاعية التي اعتمدها “العمال” من جهة، ويسعى من جهة ثانية إلى طمأنة الناخبين الذين ما زالوا متخوفين في شأن ما إذا كان حزبه قد تغير بالفعل.
ما الجديد في موقف ستارمر؟
الأمر يتعلق في المقام الأول بالنبرة وبطريقة العرض. فعلى رغم أن الرسالة ليست جديدة، فإن مسألة الدفاع كثيراً ما كانت تاريخياً نقطة ضعف بالنسبة إلى حزب “العمال”، تماماً كالتحديات المستمرة التي يواجهها “المحافظون” في التعامل مع قطاع “الخدمات الصحية الوطنية” (أن أتش أس) NHS. ويهدف ستارمر – شأنه شأن أي زعيم آخر – إلى إبراز نقاط قوته، والتخفيف من نقاط الضعف لديه. وهو الآن يتعامل مع ظل الأعوام القليلة الماضية التي تم خلالها تصوير سلفه في قيادة الحزب المعارض جيريمي كوربين – عن حق أو بغير وجه حق – على أنه متعاطف مع روسيا، وحتى أشبه بالمهادن لها. وفيما سجل حزب “العمال” انقساماً في السابق في ما يتعلق بالمسائل الدفاعية، تأتي هذه الخطوة الأخيرة بمثابة محاولة جديدة لإظهار مدى توحده في المرحلة الراهنة.
هل هذا مثال آخر على تبدل في مواقف كير ستارمر؟
الجواب هو: نعم ولا. نعم، لأنه – كما يسلط “المحافظون” الضوء على هذه الناحية باستمرار – قام بحملته الانتخابية في دورتين من الانتخابات العامة لدعم وصول جيريمي كوربين إلى رئاسة الوزراء الذي كان معروفاً بآرائه الأحادية طوال حياته (على رغم أن سياسة كوربين الفعلية كزعيم، لم تتضمن التخلي من جانب واحد عن الترسانة النووية البريطانية). ومع ذلك، حافظ ستارمر إلى حد كبير، من موقعه زعيماً للحزب، على موقف واضح ومتوقع في ما يتعلق بهذه القضية. إلا أنه كان في عام 2021 قد انتقد رئيس الوزراء البريطاني الأسبق بوريس جونسون في “مجلس العموم” على توسيع المخزون النووي للبلاد، مشككاً في “التوقيت، والأسباب، والغرض الاستراتيجي” وراء مراجعة الدفاع في ذلك الوقت.
(وفي ملاحظة جانبية، تجدر الإشارة إلى أن أنجيلا راينر نائبة رئيس حزب “العمال”، وليزا ناندي وزيرة شؤون التنمية الدولية في حكومة الظل المعارضة، سبق أن قامتا بالتصويت ضد مشروع بناء صواريخ “ترايدنت” النووية).
من هنا فإن كير ستارمر، كما كثير من زملائه في الحزب، كانت لديه في السابق مواقف متباينة في شأن حيازة أسلحة نووية، وهو ما يعكس تقليداً قديماً يفخر به حزب “العمال” (لجهة تعدد الآراء حيال قضية رئيسة)، منذ انقسامه لأول مرة حول هذه المسألة بعد هزيمته في الانتخابات العامة في عام 1959.
ألم يكن كوربين ملتزماً أن تنزع بريطانيا سلاحها النووي من جانب واحد؟
الواقع أن كوربين – بصفته أحد أعضاء المقاعد الخلفية في البرلمان Backbencher (النواب الذين لا يتولون مناصب حكومية) – ظل يدافع عن ذلك بقوة، وينتقد الأسلحة النووية باستمرار. وخلال حملته الانتخابية لزعامة الحزب في عام 2015، سئل عن مدى استعداده لنشر مثل هذه الأسلحة إذا ما أصبح رئيساً للوزراء، فأجاب، “كلا”. وأوضح كوربين أيضاً أنه يعارض أن تعمل المملكة المتحدة على تجديد برنامج صواريخ “ترايدنت”، مشدداً على رفضه أن تقوم أي دولة بامتلاك مثل هذه الأسلحة المرعبة من الدمار الشامل، قائلاً، “أنا أعارض حيازة أسلحة نووية وأرفض استخدامها. أريد عالماً خالياً من هذه الأسلحة. وهو ما أرى أنه أمر ممكن”.
إلا أنه بحلول الانتخابات البريطانية العامة في عام 2019، وعلى أثر ضغوط كبيرة مارسها زملاء الزعيم السابق لحزب “العمال” في البرلمان عليه، ضمن جريمي كوربين بيانه بأن “يدعم حزب ’العمال‘ تجديد برنامج الردع النووي ’ترايدنت‘، على أن يقود الحزب بنشاط الجهود متعددة الأطراف في ما يتعلق بالتزاماتنا تجاه ’معاهدة منع الانتشار النووي‘ Non-Proliferation Treaty، وذلك من أجل رؤية عالم خالٍ من الأسلحة النووية”. إلا أن كوربين لم يعد حتى عضواً في البرلمان عن حزب “العمال”.
هل يكسب هذا الموقف حزب “العمال” أصواتاً أو يكلفهم خسارة بعضها؟
قد يكون الأمر مزيجاً من الاثنين معاً. ففيما قد تكون هناك مصلحة طفيفة في اجتذاب ناخبين سابقين لحزب “المحافظين” يعطون الأولوية لقضايا الدفاع، إلا أنه في أعقاب الخلافات الأخيرة المحيطة بغزة تحديداً داخل حزب “العمال”، قد يذهب بعض أنصار ستارمر الأكثر ميلاً إلى اليسار، نحو “حزب الخضر”، كصورة من صور الاحتجاج. وعموماً من حيث الحسابات وتحليل سلوك الناخبين في التصويت، قد يكون لخطوة ستارمر تأثير سلبي طفيف، فإنها بلا شك زادت بعض الشيء من شعبيته لدى وسائل الإعلام ذات الميول “المحافظة”.
هل من قيمة حقيقية للردع النووي على أي حال؟
إنه سؤال غالباً ما يتم تجاهله. فهناك افتراض سائد بأن هذه السياسة لعبت دوراً محورياً في الفوز بـ”الحرب الباردة”، وبأنها لا تزال حاسمة في مواجهة الصين الأكثر عدوانية وروسيا التوسعية. إلا أن المسألة قد لا تكون على هذا النحو بالضرورة. فالردع النووي الذي اعتمدته المملكة المتحدة أظهر عدم أهميته في صراعات خاضتها بريطانيا مثل حرب جزر فوكلاند (ضد الأرجنتين) وأفغانستان والعراق وكثير من العمليات العسكرية الأخرى وجهود مكافحة الإرهاب، منذ اختبار أول قنبلة ذرية بريطانية في عام 1952.
يذكر هنا أيضاً أنه مع احتمال عودة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب إلى المنصب الأول في الولايات المتحدة، فإن نظام صواريخ “ترايدنت” الباليستية (إلى جانب الأنظمة اللاحقة له)، يعتمد بصورة حاسمة على التكنولوجيا الأميركية، كما كانت الحال عليه منذ أن أقنع رئيس الوزراء البريطاني الأسبق هارولد ماكميلان الرئيس الأميركي آنذاك جون كينيدي بأن البريطانيين – على رغم بعض فضائح التجسس – يمكن أن يعهد إليهم بالأسرار النووية الأميركية. وعلى رغم أن ترمب قد لا ينهي العمل بـ”اتفاقية أوكوس للدفاع النووي” Aukus Nuclear Defense Pact (اتفاقية أمنية في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، هدفها مواجهة أي تهديد من جانب الصين) التي تشمل أستراليا والمملكة المتحدة – وقد تنضم إليها اليابان قريباً – فإن استياءه المعروف من “حلف شمال الأطلسي”، وميله نحو استرضاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، هما أمران ليسا خافيين على أحد.
هل سيكون ستارمر على استعداد لإعطاء الإذن باستخدام أسلحة نووية؟
إلى أن يحين وقت اكتشاف ذلك، قد يكون الأوان قد فات للحكم على مدى عقلانية كير ستارمر. وإذا ما أصبح رئيساً للوزراء، فسيكون ملزماً – كما أسلافه في المنصب – بأن يكتب “رسائل اللجوء إلى الملاذ الأخير” لقادة الغواصات البريطانية المسلحة بصواريخ نووية. وهذه الرسائل ستكون مختومة، ولن يعرف محتواها سوى قلة مختارة من الأفراد. ومع ذلك، من حيث المبدأ، فإن زعيم حزب “العمال” يؤيد منح الإذن باستخدام بريطانيا أسلحة نووية.
عندما طرح هذا السؤال عليه في شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي، قال وهو يرتدي زي قتال مموه، إن “الردع النووي هو أمر بالغ الأهمية بالنسبة إلينا. من البديهي أنني لن أخوض في سيناريوهات استخدامه المحتمل، لكنه يشكل جانباً حيوياً من استراتيجية الدفاع عن بلادنا التي نحن ملتزمون إياها بثبات، إلى جانب التزامنا تجاه حلفائنا في الـ’ناتو‘”.
والواقع أن هذا الموقف يعكس النهج الذي تتبناه حكومة “المحافظين” الراهنة، القاضي بتجنب التزام أي “قواعد اشتباك” محددة، كمبدأ “عدم القيام بالاستخدام الأول” للأسلحة النووية” No First Use، وذلك للإبقاء على حال عدم اليقين بين الخصوم وتعزيز فاعلية الردع. تجدر الإشارة إلى أن مقترحات حزب “العمال” في ما يتعلق بسياسة الإنفاق الدفاعي، تلتقي بصورة وثيقة مع مقترحات حزب “المحافظين” – مع هدف تخصيص ما نسبته 2.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للإنفاق على هذا الجانب. إلا أنه من الناحية العملية، قد يتبين أن هذا التمويل هو غير كافٍ على الإطلاق، إذا ما انتشرت الصراعات خارج أوكرانيا، واندلعت في أماكن أخرى من أوروبا – حتى لو كانت المملكة المتحدة تتولى فحسب تقديم الدعم لقوى تقوم بمحاربة روسيا “بالوكالة”.
ما موقف “المحافظين” من هذه المسألة؟
وزير الدفاع البريطاني غرانت شابس يقول إنه “لا يمكن الوثوق بحزب ’العمال‘ في هذا الموضوع”، مشيراً إلى أن أعضاء كثر في الحزب المعارض “يرفضون أن يكون لبريطانيا برنامج ردع نووي”.
وماذا عن اليسار؟
يمكن القول إن “حملة نزع السلاح النووي” Campaign for Nuclear Disarmament (CND) (وهي منظمة تطالب بأن تنزع المملكة المتحدة من جانب واحد سلاحها النووي، وبأن ينزع هذا السلاح دولياً عبر اتفاقات صارمة كـ”معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية”)، لا تزال نشطة في هذا المجال. وتجري أمينتها العامة كيت هادسون التقييم الآتي للوضع الراهن: “بعد 14 عاماً من حكم حزب ’المحافظين‘ ومع الانتخابات الوشيكة، يتطلع الناخبون بأمل إلى حزب ’العمال‘. إلا أنه يبدو واضحاً بصورة متزايدة أن مقترحات زعيمه كير ستارمر، إنما تكرس الوضع القائم، المتمثل في إهدار مليارات الجنيهات على الأسلحة النووية والطاقة النووية، إلى جانب اعتماد سياسة خارجية تصادمية تتضمن دعم ’حلف أوكوس‘، و’حلف شمال الأطلسي‘، وصفقات الأسلحة المستمرة مع إسرائيل، التي تستخدم في قتل الفلسطينيين.