حرية – وكالات -18/4/2024
ملخص
حتى قبل أن تبدأ إسرائيل توسيع عملية السلام مع مصر لتشمل الأردن والفلسطينيين في تسعينيات القرن الماضي، عبر مجلس الأمن الدولي عن استنكاره وأسفه لسلوك إسرائيل 40 مرة لتصبح هي الأكثر استنكاراً من أي دولة أخرى عضو في الأمم المتحدة
منذ بدء الحرب في غزة أصيب مجلس الأمن الدولي بالشلل بسبب انقساماته الداخلية واستخدام الولايات المتحدة حق النقض “الفيتو” ضد مشاريع القرارات التي تسعى إلى وقف إطلاق النار بصورة دائمة، ولكن حتى مع افتراض أن واشنطن يمكن أن تمتنع في لحظة ما عن استخدام “الفيتو” كي تسمح بتمرير قرار بوقف إطلاق النار، تثور المخاوف حول ما إذا كانت إسرائيل ستلتزمه، بخاصة أنها من أكثر الدول التي تجاهلت قرارات مجلس الأمن منذ إنشاء الأمم المتحدة. فما سوابق تجاهل كثير من الدول قرارات مجلس الأمن؟ ولماذا تفعل ذلك على رغم أن القرارات ملزمة قانوناً؟ وإلى أي مدى يؤثر ذلك على أهمية مجلس الأمن؟
الأولى عالمياً
من بين 193 دولة عضواً في الأمم المتحدة تتربع إسرائيل على عرش الدول التي تتجاهل قرارات المجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة المنوط به حفظ السلام والأمن الدوليين، على رغم الحماية التي تتمتع بها من الولايات المتحدة عبر الدرع الدبلوماسي المتمثل في “الفيتو” الأميركي، فوفقاً لمراجعة تمت عام 2002، أي بعد خمسة عقود من قرارات الأمم المتحدة، حدد البروفيسور ستيفن زونيس من جامعة “سان فرانسيسكو” ما لا يقل عن 91 قراراً تم انتهاكها بصورة واضحة، كان نصيب إسرائيل منها الثلث (31 قراراً) وهي انتهاكات تنبع من رفضها قبول صيغة الأمم المتحدة للأرض مقابل السلام التي تم طرحها عام 1967 وتحديها عشرات القرارات اللاحقة التي تطالبها بوقف انتهاكات اتفاقية جنيف الرابعة لقوى الاحتلال، مثل عمليات الترحيل وهدم المنازل ومصادرة الممتلكات وبناء المستوطنات وغير ذلك الكثير.
وحتى قبل أن تبدأ إسرائيل توسيع عملية السلام مع مصر لتشمل الأردن والفلسطينيين في تسعينيات القرن الماضي، عبر مجلس الأمن الدولي عن استنكاره وأسفه لسلوك إسرائيل 40 مرة لتصبح هي الأكثر استنكاراً من أي دولة أخرى عضو في الأمم المتحدة، وفقاً لتحليل أكاديمي أجراه جاستين غرونبيرغ من جامعة “كيس ويستيرن ريسيرف”، والسبب في ذلك أن التعبير عن الاستنكار والأسف على رغم أنها تعبيرات توبيخية فإنها أضعف نسبياً من الكلمات الأخرى، الأمر الذي قد يجعل من الأسهل تجاوز حق النقض الذي تستخدمه الولايات المتحدة على الدوام.
وجاء تعبير مجلس الأمن عن الأسف نتيجة عدم التزام إسرائيل قرارات مجلس الأمن السابقة، أو عدم التعاون مع قوة أمنية تابعة للأمم المتحدة، أو لتوغلاتها العسكرية أو رفض استقبال بعثة الأمين العام إلى المنطقة.
الأكثر حماية
إضافة إلى أنها تبوأت المرتبة الأولى عالمياً في تجاهل قرارات مجلس الأمن، فقد استحوذت على نصيب الأسد من استخدام الولايات المتحدة حق النقض “الفيتو” ضد القرارات التي تنتقد إسرائيل أكثر من أي عضو آخر في المجلس، حيث استخدمته واشنطن 46 مرة من بين 90 مرة استخدمته الولايات المتحدة إجمالاً في مجلس الأمن منذ إنشاء المنظمة الدولية عام 1946، وفقاً لتحليل موقع “بلو ماربل” التابع لمجلس شيكاغو للشؤون العالمية، وهو مؤسسة أميركية مستقلة غير حزبية وغير هادفة للربح.
ويعني هذا أن الإدارات الأميركية المتعاقبة استخدمت “الفيتو” لصالح إسرائيل بما يزيد قليلاً على نصف الاستخدام الأميركي، وكان من بين القرارات التي تم رفضها، 33 قراراً تتعلق بالاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية أو معاملة إسرائيل للشعب الفلسطيني.
وكانت المرة الأولى التي استخدمت فيها الولايات المتحدة حق النقض لدعم إسرائيل في سبتمبر (أيلول) 1972، عندما استخدمت “الفيتو” ضد قرار يدعو إسرائيل إلى وقف عدوانها في لبنان، وبعد ذلك، استخدمت أميركا حق النقض لوقف القرارات التي تنتقد إسرائيل بصورة متكررة، وعلى سبيل المثال، استخدمت الولايات المتحدة “الفيتو” لدعم إسرائيل 21 مرة بين عامي 1982 و1990، ومنذ عام 2001 استخدمته لدعم تل أبيب 15 مرة.
أكثر من ذلك، أن الولايات المتحدة انتهكت قرارات مجلس الأمن التي صدقت عليها، حين اعترفت إدارة الرئيس السابق دونالد ترمب بأن القدس عاصمة لإسرائيل، بل هدد ترمب بحجب مليارات الدولارات من المساعدات الأميركية عن الدول التي تصوت لصالح قرار للأمم المتحدة يرفض اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل، لكن على رغم التحذير، صوت 128 عضواً لصالح الحفاظ على الإجماع الدولي طويل الأمد على أن وضع القدس (التي تطالب بها كل من إسرائيل وفلسطين كعاصمة) لا يمكن تسويته إلا كقضية نهائية متفق عليها في اتفاق سلام، ومع ذلك، على رغم قرار الأمم المتحدة الصادر في مايو (أيار) 2018، مضت الولايات المتحدة قدماً وأعادت تصنيف قنصليتها في القدس لتصبح سفارة أميركية.
ليست إسرائيل وحدها
وعلاوة على إسرائيل، تأتي تركيا في المرتبة الثانية من حيث انتهاك قرارات مجلس الأمن الدولي وفقاً لتقرير نشرته صحيفة “لوس أنجلوس تايمز” عام 2002، إذ سجلت 23 انتهاكاً عقب صدور قرار عام 1974 الذي دعاها إلى سحب قواتها من قبرص، وعندما لم تمتثل تركيا، وهي الدولة العضو في حلف شمال الأطلسي والحليف الرئيس للولايات المتحدة، كرر مجلس الأمن طلبه 11 مرة أخرى على مدى عقد من الزمن، ففي عام 1996 طالب مجلس الأمن تركيا في الأقل بتخفيض قواتها وإنفاقها العسكري في قبرص، وكرر ذلك الطلب ثماني مرات أخرى حتى عام 2001. كما انتقد الرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش الأمم المتحدة لأنها سمحت للعراق بانتهاك 16 قراراً من قرارات مجلس الأمن كمبرر لغزو العراق عام 2003 والذي تم من دون تفويض من الأمم المتحدة لأنه كان يناسب مصالحها.
وظل مجلس الأمن يقول منذ عقود إن الحكومة اللبنانية يجب أن تمارس سيطرتها على أراضيها وفقاً للقرار 1559 لعام 2004 الذي دعا إلى حل ونزع سلاح الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية، وبسط سيطرة الحكومة اللبنانية على الأراضي اللبنانية كافة، كما صدر القرار 1583 بالإجماع عام 2005، وكرر فيه مجلس الأمن دعمه القوي لسلامة أراضي لبنان وسيادته واستقلاله السياسي ضمن حدوده المعترف بها دولياً وتحت السلطة الوحيدة والحصرية لحكومة لبنان، لكن الحكومة اللبنانية لم تعر هذه القرارات أي اهتمام، أو بصورة أكثر دقة لم تكن مستعدة للامتثال لأنها كانت خائفة من ميليشيات “حزب الله” التي تمولها إيران.
وفي مثال آخر، أظهر مجلس الأمن أيضاً عدم كفاءته في تنفيذ القرارات المتعلقة بكوريا الشمالية، إذ أشار تقرير لمعهد العلوم والأمن الدولي في واشنطن عام 2018، إلى أن 52 دولة شاركت في انتهاك قرارات مجلس الأمن الدولي في شأن كوريا الشمالية طوال عام 2017.
معضلة مجلس الأمن
وتسلط الخروق المتواصلة لقرارات مجلس الأمن الدولي الضوء على المعضلة الأساس التي تواجه الأمم المتحدة، فالمنظمة العالمية تتمتع بسلطة إصدار القرارات، ولكنها لا تملك دائماً السلطة لفرضها، الأمر الذي يؤدي في بعض الأحيان إلى خلق مواقف كارثية، ويؤدي إلى تآكل أهميتها، وبحسب المدير السابق لمركز المنظمات الدولية في جامعة “كولومبيا” إدوارد لاك، فقد كانت هذه هي المعضلة بالنسبة للأمم المتحدة، إذ تتمتع بالسلطة القانونية، ولكنها لا تمتلك دائماً الوسائل اللازمة لمتابعة قراراتها
وفي حين أن بعض القرارات تنشئ التزامات قانونية بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، الذي يسمح بالتنفيذ العسكري، فإن قرارات أخرى تعمل بصورة أشبه بتوصيات رسمية ليس لها أسنان وإن كانت تحمل ثقلاً سياسياً ما يجعل لها قدر من الأهمية، لأنه سيكون هناك ثمن سياسي مقابل انتهاك هذه القرارات كما يقول روبرت روزنستوك المستشار القانوني السابق لبعثة الولايات المتحدة في المنظمة الدولية.
ومع ذلك، فإن حقيقة أن كل ما تستطيع الأمم المتحدة أن تفعله في معظم الحالات هو تكرار نفسها، تظهر الضعف المتأصل في المنظمة العالمية، ففي كثير من الأحيان لا يوجد ما يكفي من العزيمة وراء قراراتها، فعلى رغم أن ميثاق الأمم المتحدة يجيز العمل العسكري لتنفيذ قرارات مجلس الأمن التي تستند إلى الفصل السابع، فإنه لا يوجد اتفاق رسمي حول كيفية استخدام القوة، وفي كل مرة يرى مجلس الأمن أن العمل العسكري ضروري، يتعين على الدول الأعضاء أن تقرر التفاصيل في ما بينها، وهي عملية تستغرق وقتاً طويلاً، وتتمتع بدرجات متفاوتة من الالتزام.
مثال كاشف
ولعل أحد أبرز الأمثلة التي تكشف عجز مجلس الأمن، ما حدث في البوسنة والهرسك في منتصف التسعينيات، حيث تحول القرار الصادر عام 1995 في شأن إنشاء ملاذات آمنة بموجب الفصل السابع تحت حماية الأمم المتحدة لمسلمي البوسنة إلى كارثة، إذ أصبح الملاذ الآمن في سربرينيتشا فخاً للموت عندما تغلب صرب البوسنة على قوات حفظ السلام الهولندية التابعة للأمم المتحدة التي تعاني نقص الأفراد وقاموا بذبح الآلاف من مسلمي البوسنة الذين كانوا يطلبون اللجوء في هذه المدينة.
وعلى رغم المحاولات التي بذلت لضمان التنفيذ القوي من خلال قوة الرد السريع المكونة من قوات الدول الأعضاء، فقد سارعت الولايات المتحدة إلى سحق هذه الجهود، إذ لم تكن الولايات المتحدة ولا الدول الأخرى مستعدة للسماح بوجود قيادة دولية تابعة للمنظمة للقوات الأميركية أو غيرها، لأن آخر شيء تريده الولايات المتحدة هو أن تقوم أمم متحدة مستقلة بثقلها السياسي والعسكري وفقاً لإدوارد لاك.
أميركا ضد أمم متحدة قوية
وعلى رغم أن بوش انتقد الأمم المتحدة بسبب ضعفها الواضح، فإن الولايات المتحدة لم تكن تاريخياً راغبة في أن تصبح الأمم المتحدة قوية أكثر مما ينبغي، إذ أشار سفير الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة في السبعينيات دانيال باتريك موينيهان في مذكراته، “كانت وزارة الخارجية الأميركية ترغب في أن تثبت الأمم المتحدة عدم فاعليتها في أي إجراءات تتخذها”، واعترف موينيهان بأن هذه المهمة أوكلت إليه، وقام بها بنجاح.
وعلى مدار العقود الأخيرة طالبت الولايات المتحدة مراراً الأمم المتحدة بإثبات أهميتها مثلما فعلت عام 2003 حين طالبتها بدعم توجيه ضربة عسكرية محتملة لضمان نزع سلاح العراق، وهو الجهد الذي يطلق عليه إدوارد لاك، المدير السابق لمركز المنظمات الدولية في جامعة “كولومبيا” وصف “التعددية الانتقائية”، والتي تعني أن الولايات المتحدة تريد أن تكون الأمم المتحدة فاعلة، ما دامت تخدم الأجندة الأميركية، ولن تسمح أي إدارة أميركية للمنظمة الدولية بإملاء أشياء تتعارض مع أهداف القيادة الأميركية، بحسب لاك.