حرية – (7/5/2024)
يعتبر كثيرون أننا نعيش في عصر السرعة، ويقول أهلنا ممن عاشوا في الزمن السابق عن الإنترنت والهاتف المحمول إن زمنهم كان زمن البطء، وذاك الزمن لا تعرفه الأجيال الجديدة ولا يمكنها تصور أن التواصل كان يتم عبر البريد الورقي الذي يحمله ساعي البريد إلى علبة البريد أمام المنزل.
ويمكن لصانعي الموسيقى من الشباب الذين يستخدمون الكمبيوتر وبرامجه والذكاء الاصطناعي صناعة قطعة موسيقية في وقت قصير وتنتشر بسرعة حول العالم، ولا يصدقون أن أقرانهم في القرن الماضي كانوا يعملون على آلات وماكينات موسيقية تحتاج إلى كثير من الجهد والصبر والوقت كي تنتج مقطوعة موسيقية.
وعلى رغم ذلك فإن كثيراً من صانعي الموسيقى الشباب والمسنين عادوا لاستخدام الآلات القديمة في عواصم العالم، حتى إن بعضهم يحتفي بعدم الدقة التي تسببها الآلات القديمة والمناقضة للكمال التام الذي يقدمه الكمبيوتر، فيبدو الخطأ في الآلة البدائية وكأنه مفتاح لاحتمالات موسيقية جديدة كما يقول بعض المؤلفين الموسيقيين الشباب من الجيل زد.
وهذا ما يسمى “فرحة اللحظات المفاجئة” في الموسيقى أو الأفلام أو الفنون البصرية، و”الحوادث السعيدة” التي تسهلها التكنولوجيا القديمة يمكن أن تؤدي إلى نتائج إبداعية، ويستخدم هذا المصطلح على نطاق واسع في موسيقى البوب المعاصرة للإشارة إلى النتائج غير المتوقعة أو غير المخطط لها.
أسطوانات الفينيل القديمة والصور الفوتوغرافية
تقول أرقام مبيعات أسطوانات الفينيل القديمة، بحسب بحث أجراه لـ”بي بي سي”، أستاذ إدارة العلامات التجارية في جامعة سوسيس مايكل بيفرلاند وأستاذة التسويق في كينغز كوليدج لندن جيانا أم إيكهاردت إنه في المملكة المتحدة وحدها تم شراء نحو 6 ملايين أسطوانة عام 2023 بزيادة 11.7 في المئة عن مبيعات العام السابق.
وأعاد إحياء الفينيل ظهور متاجر التسجيلات المستقلة، وارتفع عددها في مدن إنجلترا 451 متجراً خلال العام الماضي، وأصدر موسيقيون معاصرون مثل لانا ديل راي وتايلر وذا كريتور وأوليفيا رودريغو وكيندريك لامار موسيقاهم على الفينيل وباعوا ملايين النسخ، مما دفعهم إلى شراء مصنع لضغط الفينيل الخاص بكل منهم، ينتجون فيه أسطواناتهم.
الفلسطيني جمال حمو يتحقق من مجموعة من أسطوانات الفينيل
هناك من يشتاقون إلى الصور الفوتوغرافية الكرتونية التي توضع في ألبومات بعدما جعلت كاميرا الهاتف المحمول الصور خالية عاطفياً، وراكمت ذاكرة الهاتف آلاف الصور الرقمية التي تجعل البحث عن صورة معينة أمراً مضنياً، بينما يمنح الألبوم الورقي للصورة ذاكرة العائلة التي تجتمع حول ألبوم صور العائلة كي تتذكر اللحظات السعيدة في اجتماع حميمي. وأظهرت الأرقام خلال الأعوام الأخيرة ارتفاعاً كبيراً في مبيع كاميرات التصوير الفوري البولارويد، وبات المراهقون يرغبون في تجميع الصور التي يمكن التقاطها باليد في خزاناتهم.
وأحيت جمعيات محلية ومبادرات فردية التصوير الفوتوغرافي بالأفلام القديمة التي تحتاج إلى تحميض، فعلى سبيل المثال تتبنى منظمة Lomography وهي حركة فنية من فيينا تأسست عام 1992 من قبل مجموعة من الطلاب الترويج لالتقاط الصور العفوية والتجريبية بالكاميرات البلاستيكية الصينية والسوفياتية الصنع ورخيصة الثمن عل ذلك يؤدي إلى نتائج إبداعية مثيرة للاهتمام.
ووفقاً لمسح عالمي للتصوير الفوتوغرافي أجري عام 2018، فإن أقل بقليل من ربع المصورين الهواة من الذين تقل أعمارهم عن 30 سنة يصورون بالأفلام ولم يستخدموا هذه الوسيلة من قبل، وتحولوا إلى الفيلم بسبب قيمته الجمالية والشعور بالتحكم الإبداعي في الصور.
وينمو سوق كاميرات الأفلام بسرعة حول العالم وعادت ماركات تجارية مثل “كوداك” وبولارويد” و”ليسيا” للظهور وكأنها عادت من الموت. وأنقذ رجل الأعمال النمسوي فلوريان كابس “كاميرات بولارويد” الفورية الأسطورية بعدما اشترى آخر مصنع للشركة في هولندا قبل أيام من موعد إغلاقه.
وفي قطاعات الأزياء، بات المصورون الذين يستخدمون الأفلام أكثر طلباً من أولئك الذين يستخدمون الكاميرات الرقمية بسبب تميزهم في سوق مشبعة بعمل رائع تقنياً.
مديح البطء وذم السرعة
ظهرت منذ مطلع القرن الحالي جماعات ثقافية تعلي من شأن البطء، إحداها “حركة التأني”، ويعرفها الكاتب كارل أونوريه في كتابه الرائج “في مديح التأني” على أنها ثورة ثقافية مضادة لفكرة أن السرعة تؤدي إلى الأفضل.
ولا تطالب فلسفة التأني بأن تتحول إلى حلزون، بل القيام بكل عمل وفق السرعة المناسبة له، بهدف الاستمتاع بالساعات والدقائق بدلاً من الانشغال بعدها، فالهدف هو القيام بالأعمال بأفضل طريقة ممكنة بدلاً من تحقيقه بأسرع وقت ممكن “سواء كان ذلك في عملنا أو في طعامنا أو في تربيتنا لأولادنا” كما جاء في كتاب التأني حول فلسفة التأني للاستمتاع بالحياة.
وكان عالم النفس الحائز جائزة نوبل في الاقتصاد دانيال كانمان في كتابه الشهير “التفكير بسرعة وببطء”، حدد كيف يعمل دماغنا وفقاً لنظامي تفكير مختلفين تربطهما علاقة معقدة من الشد والجذب بنسب متفاوتة عند الأشخاص. النظام الأول، هو نظام التفكير السريع الذي يحدث عادة في اللاوعي ويتصف بالعاطفية والتلقائية والاندفاعية، ولا يحتاج منا إلى جهد كبير. أما النظام الثاني، فهو نظام التفكير البطيء وهو نظام تحليلي يتعامل بلغة الأرقام والمنطق ويتطلب قدراً من الجهد والتدبر والوعي ومراعاة جميع الاحتمالات الممكنة.
تسيطر مواقع التواصل الاجتماعي على عقول الشباب حاليا
في تحقيقه لمجلة “القافلة” السعودية كتب زاهر الحاج حسين عن مرض جديد أطلق عليه اسم “الخوف من فوات الأشياء”، أو ما يدعى اختصاراً بـ”فومو”، وبرأيه هو مرض ناتج من تمجيد السرعة في كل شيء، وعلى رغم أن السرعة مطلوبة في حالات كثيرة، إلا أنها غير مضمونة الجدوى في مواجهة المشكلات المعقدة، سواء كنا نتحدث عن حياتنا الشخصية أو أعمالنا وعالمنا، كما يقول كاتب التحقيق.
ويتحدث كارل أونوريه في كتابه “الحل المتأني” عن الهوس المعاصر بالحلول السريعة وأن التأني لا يعني البطء أو العطالة أو الكسل، بل القيام بالشيء وفق السرعة المناسبة، سواء كان ببطء أو بسرعة هائلة، كما يعني أن نمنح كل لحظة في حياتنا الوقت والانتباه بدلاً من الجري المنهك نحو الأعمال التي لا تنتهي. وكان مؤسس شركة “فورد” هنري فورد توصل إلى فلسفة التأني قبل أونوريه حين قال “لا توجد مشكلات كبيرة، فهي عبارة عن عدد كبير من المشكلات الصغيرة”.
البطء كسلعة
عام 2018 نشرت مجلة “هارفارد بيزنس ريفيو” تحقيقاً بعنوان “الأعمال المتنامية في مجال مساعدة العملاء في العيش ببطء”، وظهر أن “تباطؤ المستهلك” يمكن أن ينتج خدمات وسلعاً جديدة ومفاهيم مرتبطة به مثل “التسوق البطيء”، ومن أشكاله توفير “غرف هادئة” في المتاجر في الشوارع، فقد بينت الدراسات الاقتصادية أن ترويج فكرة التباطؤ مفيد لرفاهية الفرد والبيئة والشركات على حد سواء وتتوقع أن يزداد الاهتمام بهذا المفهوم أي العودة للعيش ببطء، بصورة كبيرة في الأعوام المقبلة.
وانتشرت خلال العقدين الماضيين المجموعات والأفكار والكتب والنظريات النفسية والاجتماعية التي تتناول موضع العيش ببطء، ومنها ما كتبه ريتشارد كارلسون في كتابه “تمهل لتجري مع دبيب الحياة”، “عندما تتهادى مع سرعة الحياة فإن منظورك للعالم سيتغير. سيغدو أبسط وأكثر حيوية. ستعمل بطريقة أذكى وأكثر حكمة من ذي قبل”.
وفي الفترة نفسها حقق كتاب “في مديح البطء… حراك عالمي يتحدى عبادة السرعة” مبيعات قياسية وتمت ترجمته إلى جميع لغات العالم تقريباً واعتلى لائحة الكتب الأكثر مبيعاً في كثير من البلدان، وهو يتناول الحراك العالمي المتنامي من أجل إعادة الاعتبار للبطء، ومجابهة نزعات عبادة السرعةـ وتمكن مؤلفه الكاتب الكندي كارل أونوريه من نقل مفهوم البطء إلى القراء في لغة أدبية سلسة، مقنعاً الجميع بأنهم هم أنفسهم أعضاء في حركة عالمية تناهض عصر تمجيد السرعة لمصلحة العيش ببطء. ولهذه الحركة فلسفتها وبيانها وتوصياتها من أجل الانطلاق في مجابهة عصر عبر العيش ببطء.