حرية – (12/5/2024)
إن كنا نتحدث خصوصاً عن “ليست” هنا فما هذا إلا لأنه من موسيقيي القرن الـ19 النادرين الذين ارتبط إنجازهم في هذا المجال بكل وضوح وصراحة بالبرنامجية. أي بكون موسيقاهم تسعى إلى اقتراح معنى محدد للحن.
لعل في وسعنا، أخيراً، أن ننسب ظهور الموسيقى في السينما إلى ذلك المبدع المجري في عالم الموسيقى، فرانتز ليست، الذي لا يذكر في هذا المجال، بمقدار ما يذكر في مجال الحياة الاجتماعية من دون أن يكون راغباً في ذلك، ليس فقط من خلال مغامرات ابنته كوزيما الغرامية التي هيمنت على حياته بعد أن اقترنت ضد إرادته بريتشارد فاغنر عقب تطليقها زوجها الأول العازف في فرقة أبيها هانز فون بيلو، لكن أيضاً من خلال مغامراته هو نفسه في باريس حيث عاش زمناً كان فيه زميلاً في الموسيقى والعزف لفردريك شوبان ومنافساً له في ارتباطه العاطفي بالكاتبة جورد صاند.
غير أن ما سنطل عليه هنا اليوم ليس تلك “الخبريات” التي أشبعها المؤرخون سرداً وفضحاً، بل أمر آخر أكثر جدية وربما تقنية، ويتعلق تحديداً بكون ليست هو المبتكر الحقيقي لنوع “القصيدة السيمفونية” بالتالي للموسيقى التصويرية السينمائية من دون أن يعيش في زمن السينما كما سنرى.
بين بيتهوفن وبرليوز
والحال أنه حتى وإن كانت القصيدة السيمفونية قد ارتبطت بشكل رئيس باسم المؤلف الموسيقي الفرنسي هكتور برليوز، لا سيما من حيث إن سيمفونيته الأساسية والأشهر المعنونة تحديداً “السيمفونية الغرائبية” تعرف في عنوان ثان بكونها “قصيدة سيمفونية” فإن المؤسس الحقيقي للنوع، الذي وضع له قواعده النظرية جاعلاً من القصيدة السيمفونية نوعاً موسيقياً خاصاً كالسوناتا مثلاً، إنما هو فرنتز ليست الموسيقي المجري الذي عاش ردحاً من عمره، سبع سنوات متتالية بين 1827 و1834، في باريس، ومارس تأثيراته النظرية على كثر من موسيقيي تلك المرحلة سواء كانوا فرنسيين كبرليوز نفسه أو سان صانس أو غير فرنسيين مقيمين هناك وفي مقدمهم شوبان، ثم لاحقاً الروسي بورودين.
ونحن لئن كنا قد ذكرنا هذه الأسماء فإن ذلك لغاية تتعلق بذلك النوع الموسيقي نفسه. فهم جميعاً من الذين خاضوا النوع بل تفوقوا فيه على بيتهوفن الكبير الذي لا يخلو الأمر من كثر من الباحثين والمؤرخين الذين ينسبون إليه الجهد التأسيسي في اختراع النوع من خلال افتتاحية “إيغمونت” التي من الواضح فيها أنه شاء أن يتبع خطى موتسارت في وضعها كسيمفونية لا تزيد مدة تقديمها على 20 دقيقة، وخطى هايدن الذي كان من أول من جعلوا الموسيقى السيمفونية موسيقى ذات برنامج وموضوع.
ليست والنظريات الملائمة
كل هذا منطقي ومع ذلك يبقى ليست هو مؤسس كل الإرهاصات النظرية المنهجية في مجال ذلك النوع. لا سيما حين يجري الحديث عما سيسود لاحقاً عالم الموسيقى في تجديدات أساسية طرأت عليه مع ولادة السينما ثم نطقها خلال العقود الأولى من القرن الـ20 وبالتحديد مع تحول الموسيقى المكتوبة خصيصاً للأفلام نوعاً فنياً جديداً لا بد من العودة بجذوره إلى القصيدة السيمفونية، لا سيما كما نظر لها فرانتز ليست تحديداً معطياً ما هو، في الأصل، تعبير تجريدي، معنى وتيمة ودوراً في سرد حكاية ما.
ومن هنا حتى نصل إلى التأكيد أن فرنتز ليست نفسه هو مؤسس الموسيقى السينمائية خطوة قد لا تكون صائبة تماماً طالما أن هذا الموسيقي المبدع لم يعش في زمن السينما ولم يكتب لها أي موسيقى. قد لا تكون صائبة لكنها منطقية إلى حد كبير بالنظر إلى المواصفات التي تم التواضع، ومنذ قصائد ليست السيمفونية المتنوعة في تيماتها والمرتبطة بعديد من الفنون الأخرى في أساليبها وغاياتها، على أنها تكمن في خلفية وجودها ما يكاد ينطبق كلياً على مواصفات الموسيقى السينمائية لا سيما منها تلك التي تسمى في عالم الفن السابع “موسيقى تصويرية”.
فالحقيقة أننا لو تفحصنا حتى افتتاحية “إيغمونت” لبيتهوفن، من دون أن ننسى بصورة خاصة سيمفونية برليوز الغرائبية، وتوقفنا عند نحو دزينتين كبيرتين من مقطوعات لليست تحمل اسم قصائد سيمفونية، سنجد أنفسنا أمام ما يبدو الأكثر قرباً من الموسيقى التصويرية السينمائية. ومن هنا لن يكون غريباً أن نكتشف مثلاً أن ثمة في تاريخ الفن السينمائي عشرات الأفلام التي اختصرت الدرب ووفرت أموالاً كثيرة في ميزانياتها من خلال استخدامها قصائد سيمفونية لبرليوز خصوصاً كموسيقى تصويرية لها. وبخاصة في تلك المشاهد السينمائية المفصلية التي تتطلب جملاً لحنية تخلق لدى المتفرج توترات محددة. فهل نحن بعيدون عن جو التوتر السيكولوجي الذي تتضافر فيه الموسيقى مع الصورة مع ضرورات التحليل النفسي لخلق عالم سينمائي متكامل؟
البحث عن معنى
الحقيقة أننا إن كنا نتحدث خاصة عن ليست هنا فما هذا إلا لأنه من موسيقيي القرن الـ19 النادرين الذين ارتبط إنجازهم في هذا المجال بكل وضوح وصراحة بالبرنامجية. أي بكون موسيقاهم تسعى إلى اقتراح معنى محدد للحن. وضمن إطار هذا المسعى قد يكون في مقدورنا أن نتخذ من قصائد سيمفونية ذات برنامج من ليست أمثلة فصيحة على ما نرمي إليه، كأن تكون إشارة إلى حدث تاريخي كـ”معركة الهون” مثلاً، أو مشهد مركزي في مسرحية (كما في مسرحية “هاملت”، أو مسرحية “تاسو”) أو إحالة شعرية (كما بالنسبة إلى قصيدة “ما نسمعه على الجبل”، أو “مازيبا”، أو “جنازة البطل”، أو حتى قصيدة “المثل العليا”)، أو استذكاراً لشخصية أسطورية (“أورفيوس”، أو حتى “بروميثيوس”) أو موسيقى برنامجية مأخوذة من جو الحياة اليومية (“ضجيج المهرجانات”)، وحتى من جو الحياة نفسها (كما في مقطوعته الرائعة “من المهد إلى اللحد”).
هكتور برليوز
والحال أن كل هذه العناوين ليست سوى العناوين المعروفة لقصائد سيمفونية لليست. ولئن شئنا أن نحدد بماذا تتميز هذه المقطوعات عن تلك التي وضعها برليوز أو حتى عن افتتاحية “إيغمونت” لبيتهوفن، لن يكون من الصعب علينا أن نتحدث عن أن روح الموسيقى وحرفيتها لدى ليست مقصودتين لذاتيهما لا كشكل موسيقي يخضعه للمنطق الشكلي. فبرليوز توخى تصوير الضياع واضعاً هنا موسيقاه في خدمة “الشخصية المحورية” في تصوره لضياع تلك الشخصية في كتابته “السيمفونية العرائبية” فيما توخى بيتهوفن إلباس الموضوع رداء موسيقياً في “إيغمونت” وهو ما كان يفعله طوال القرن الـ19 أولئك الموسيقيون الكبار الذين كتبوا موسيقى تصويرية، أو حتى تعبيرية، للمسرح في إبداع أوصله النرويجي إدوارد غريغ إلى ذروة تقنية عبر وضعه موسيقى مسرحية “بير جنت” لمواطنه هنريك إبسن.
ومهما يكن من أمر هنا فلا بد من الإشارة إلى أن موسيقى غريغ هذه كما موسيقى بيتهوفن في “إيغمونت”، تبدو أقرب ما يكون إلى قصائد ليست السيمفونية، لكنها تبقى على مسافة حاسمة منها وتحديداً في ما يتعلق بالبعد الروحي أي السيكولوجي الذي لا شك أن ليست أوصله في قصيدتيه السيمفونيتين الطويلتين بشكل لافت، “مفيستو” و”دانتي” إلى ذروة الاندماج عبر الخضوع المطلق للشيء الموصوف، ما يترك حرية كبيرة في استحداث النغمة من قبل الملحن.
استخدام مطلق للحرية
ويقيناً أن ليست، وبحسب محللي أعماله في هذا المجال، يستخدم هذه الحرية بشكل أو بآخر اعتماداً على الموضوع الذي اختاره: لا سيما في “معركة الهون”، وحتى “مازيبا”، حيث يتبع انعكاسات قصيدة فكتور هوغو المأخوذة منها، بحيث نجدنا أقرب ما يكون إلى ما يمكن أن يكون سينمائياً في هذا المجال. ولنتفحص في السياق هنا ما تصفه لنا موسيقى ليست الموضوعة على سبيل المثال لبروميثيوس أو هاملت وهما ينجرفان بالفعل نحو التحليل النفسي، في حين أن المقدمات والمثل العليا وضوضاء الاحتفالات هي أعمال رمزية وتأملية.
بهذه الطريقة، على أي حال، يحافظ ليست على نفسه في منتصف الطريق بين الموسيقى البرنامجية بالمعنى الدقيق كما وضعها بيرليوز، والموسيقى النقية من النوع الذي وضعه بيتهوفن. وفي النهاية هنا لا بد من إشارة أخيرة في هذا السياق إلى أن القصيدة السمفونية، رغم من امتلاكها بنية داخلية متينة، ومهما كان طولها بالنسبة إلى فترة عزفها، لا يمكنها أن تحمل في داخلها أي فواصل أو أي توزيع إلى حركات أو فصول بل يتم عزفها دفعة واحدة، مما يجعلها أقرب إلى جماليات أوبرا فاغنر حتى وإن كانت هذه الأخيرة في تمايزها الشكلي على الأقل عن القصيدة السيمفونية، أقرب لأن تكون صرخة حقيقية في ثلاثة فصول.