حرية – (19/5/2024)
في يوم عادي، وبعد أن يغرق جزء من الكرة الأرضية في الظلام، تضيء الشمس الجانب الآخر فيلتجئ الإنسان الأول إلى كهفه ويشعل النار سعياً إلى ضوء غاب وإخافة الحيوانات المفترسة التي قد يساعدها جهازها البصري لرؤية أفضل من رؤية الإنسان في الظلام، فيكون هو وجبتها السهلة.
النار المقدسة
هذه النار التي أضاءت ليالي أسلافنا الطاعنين في التاريخ قُدست وعُبدت وأقيمت لها الطقوس وقدمت الأضاحي، وأضيفت إليها شحوم الحيوانات لضمان استمرار توقدها أطول فترة ممكنة. وكانت تمثلها آلهة عدة من بلاد ما بين النهرين إلى مصر القديمة وفارس واليونان والرومان والهند. وعلى رغم ما حظيت به النار من تمجيد لدى الهندوسية والزرادشتية والديانات القديمة وربطها بالسمو والنقاء، والتي تحترق دائماً نحو الأعلى ولا يمكن أن تتلوث، إلا أن الديانات السماوية أتت عليها فحولتها إلى سعير جهنم، حتى بات ذكر النار لدى المؤمنين يعني عذاب الآخرة، مع استثناء فيض النور المقدس في كنيسة القيامة في القدس يوم سبت النور لدى الطوائف المسيحية الشرقية الذي يتجلى بشعلة تنتقل عبر مشاعل وشموع.
قوس قزح هدية الشتاء بأضوائها الملونة
وعندما نذكر الضوء في الحضارات القديمة، لا بد من ذكر الشمس والبرق وهما إضاءة الطبيعة الموسمية، تضاف إليهما النار من أرجاء الأرض التي تتدفق بالبراكين وترتفع بنيرانها، وحيث سمي إله النار “فولكانوس” عند الرومان، واعتمد كاسم لاتيني للبركان. ومثل النار حظيت الشمس بآلهتها وكذلك البرق وارتبطا بحفنة لا يستهان بها من الأساطير والخرافات.
وكان البرق يثير الدهشة والرهبة في البشر منذ بداية التاريخ، بخاصة الصواعق التي أحرقت الأشجار وأشعلت النار وغيّرت حياة الإنسان. ولأن البرق يأتي مصحوباً بالرعد والأمطار والعواصف فسرته الحضارات القديمة على أنه غضب الإله. فكان “زيوس” الإغريقي و”جوبيتر” الروماني يرشقان الأرض بالبروق أثناء الغضب، وتغيرت أسماء الآلهة لدى السومريين والصينيين والإسكندنافيين وقبائل المايا، إلا أن تعبيرها بضرب البرق أثناء الغضب تشابه في سياقات متعددة.
رحلة الضوء
تاريخ الضوء قديم قدم الكون نفسه، وسعى الإنسان منذ فجر التاريخ إلى ترويض الظلام وتوفير مصدر للضوء، فبدأت رحلة النور من جذوع الأشجار المشتعلة في الكهوف، مروراً بالمشاعل والشموع، وصولاً إلى الثورة الصناعية التي جلبت لنا الإضاءة الاصطناعية بمختلف أشكالها.
ففي العصور القديمة كانت النار أول مصدر للضوء للإنسان واستخدمت لطهي الطعام والتدفئة والإضاءة والحماية من الحيوانات المفترسة، وانتقلت النار إلى المشاعل مع مرور الوقت، فطوّر الإنسان أدوات الإضاءة البدائية مثل المشاعل المصنوعة من الخشب أو القصب المُغمسة في مواد قابلة للاشتعال مثل الزيوت والدهون الحيوانية. وشهدت العصور الوسطى انتشاراً واسعاً للشموع تلتها مصابيح الزيت بفتائل مصنوعة من القطن أو الكتان لتحسين كفاءة الإضاءة. وقام الزجاج بدور في تحسين الإضاءة، وصنعت المصابيح والفوانيس الشفافة لتنير المساحات بصورة أفضل.
أما العصر الحديث، فألقت فيه الثورة الصناعية ضوءها بعد تراكم اختراعات واكتشافات وصلت إلى المصباح الكهربائي عام 1879، حين اخترعه توماس إديسون ليُحدث نقلة نوعية في تاريخ الإضاءة بعدما استطاع إبقاءه مضاءً أكثر من 13 ساعة متواصلة.
كانت دراسة الضوء في طليعة المساعي الفكرية لأكثر من 3000 عام، ويمكن إرجاع الحقبة الأولى من تاريخ النور إلى نحو 800 قبل الميلاد في أثينا ثم في الإسكندرية، حيث صممت الأفنية وصحون القصور والمنازل بطريقة يصلها الضوء ومثلها المسارح القديمة. واستخدمت انعكاسات المرايا وتسليطها بمواجهة الشمس في محاولة لإصابة الغازين بالسفن بالعمى. أما الفلاسفة اليونان الذين تجادلوا في مفهوم البصريات، فلاحظوا أن المرايا والعدسات المحدبة يمكن استعمالها لتركيز أشعة الشمس وتوليد حرارة كبيرة يمكن أن تشعل الحرائق.
واصطفت البيوت الصينية مقابلة لأشعة الشمس للحصول على الدفء والإضاءة. أما في مصر القديمة، فاستخدمت الألوان للحفاظ على الحرارة وحجر الأوبسيديان البركاني وأسلاك النحاس لإنتاج الدفء وإشعال ضوء خافت في الظلام، مما يعد استخداماً بدائياً للطاقة النظيفة.
الضوء العربي
وكان للحضارة العربية والإسلامية في بغداد وقرطبة عصرها الذهبي حتى أواخر القرن الـ13 الميلادي، حين قدم العلماء المسلمون إسهامات كبيرة في فهم ماهية الضوء، بما في ذلك ما كان كتبه ابن سينا عن الشعاع الشمسي، والبيروني الذي كان أول من اهتم بدراسة سرعة الضوء. ويعتبر أهم من عمل في علم البصريات وفهم الضوء ابن الهيثم صاحب كتاب “المناظر”، والمطور الأول للقمرة التي أصبحت لاحقاً الكاميرا.
الشفق القطبي أبهى تجليات الشمس (بكسلز)
واستغل الضوء الطبيعي عند العرب وظيفياً وجمالياً عن طريق الصحون المفتوحة والشبابيك الزجاجية التي تدخل ضوء الشمس من رقاب القبب والشمسيات والقمريات. أما الضوء الصناعي، فكانت المسارج الفخارية بهندستها وزخارفها مسرحه واستخدمت بصورة مكثفة على أبواب المساجد والمدارس والأسواق إضافة إلى القصور والبيوت.
أما أوروبا التي انزلقت خلال القرون الوسطى في عصور مظلمة بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية، فعادت لتسترد علومها التي طمرتها جهالة تلك العصور، وكان العرب والأندلسيون في تلك الفترة ذاع صيت علمائهم في الطب والكيمياء والفلك والفيزياء، وحافظوا على علوم الإغريق وفلسفتهم التي حفظوها وترجموها لتعود بمتناول الأوروبيين مجدداً، مما ساعد على بدء عصر الثورة العلمية في الغرب، وكان الضوء والكهرباء والنظريات الجديدة والثورية في الفيزياء وثورة تكنولوجيا الاتصالات والعلوم والبصريات في مقدمة الأبحاث العلمية القيمة فيها.
الضوء للديكور
إن إدخال الضوء إلى قلب الظلام في الحضارات نزع عباءة النوم عن الليل، وأصبحت للإنسان وظائف أخرى تكاثرت على مر الزمن حتى أصبح لليل ناسه وعالمه.
وبعد أن توهجت القناديل وباتت أكثر كفاءة في استهلاك الطاقة، كان التطور يسير على قدم وساق. ففي الثلاثينيات من القرن الـ20، ظهرت الإضاءة الفلورية التي تتميز بكفاءتها العالية واستهلاكها المنخفض للطاقة، وأتت الإضاءة الثنائية LED التي تتميز بكفاءتها العالية وطول عمرها الافتراضي وانخفاض استهلاكها للطاقة.
وتعد الإضاءة من أهم عناصر التصميم الداخلي، فيمكن أن تضيف أو تخفف من الألوان العامة للعناصر الموجودة في المكان، ويمكنها خلق وهم بالمساحة من خلال عكس الضوء من الجدران. وتعمل الإضاءة الزخرفية على إضافة شخصية أو طابع معين إلى المكان، وتشمل ثريات فنية وأضواء معلقة ومصابيح منحوتة ويمكن استخدامها في إبراز العناصر المعمارية والديكور.
وعندما نتحدث عن الديكور فإن ألوان الإضاءة لا تنحصر بالإضاءة الصفراء والبيضاء الشائعة، إنما تدخل الألوان الأخرى، بخاصة في الحدائق والحفلات لإضفاء أمزجة مختلفة، حتى إنها بالتقنيات الحديثة باتت تحل مكان الديكور في الأشكال والحركة. وغالباً ما تضاء أماكن أثرية ونصب وأبراج بألوان ما تضامناً مع دولة أو قضية ما، عدا الاحتفالات التي باتت الإضاءة عاملاً فنياً وسياحياً جاذباً فيها.
والإضاءة المدنية تضيء الشوارع العامة والأماكن، وتختلف الألوان وطرق الإضاءة من الثريات الضخمة والمختلفة الأحجام والأشكال وصولاً إلى الإضاءة المخفية في الجص والأخشاب لخلق أجواء بسيطة أو رومانسية أو هادئة.
اليوم العالمي للضوء
يحتفل باليوم العالمي للضوء في الـ16 من مايو (أيار) من كل عام، وهو ذكرى أول عملية ناجحة لليزر عام 1960 على يد الفيزيائي والمهندس ثيودور مايمن، في دعوة إلى تعزيز التعاون العلمي وتسخير إمكاناته لترسيخ السلام والتنمية المستدامة. ويحتفل اليوم الدولي للضوء بالدور الذي قام به الضوء في العلوم والثقافة والفن والتعليم والتنمية المستدامة، وفي مجالات متنوعة مثل الطب والاتصالات والطاقة والتكنولوجيا.
سعى الإنسان منذ فجر التاريخ إلى ترويض الظلام
وكما يحتفى بالضوء يحتفى بإطفائه، إذ تعدّ “ساعة الأرض” حدثاً بيئياً عالمياً ينظمه الصندوق العالمي للطبيعة كل عام، فتطفأ الأنوار لمدة ساعة، وبدأت أستراليا بهذا النشاط البيئي في الـ31 من مارس (آذار) عام 2007 بهدف زيادة الوعي بخطر التغيّر المناخي.
أضواء أخرى
من بين الأضواء الطبيعية الخلابة التي تزين السماء أول ما يخطر بالبال هو قوس قزح، ويكون بمثابة مكافأة الشتاء البصرية بأطياف ألوانه السبعة المتدرجة من الأحمر فالبرتقالي فالأصفر فالأخضر فالأزرق فالنيلي فالبنفسجي، نتيجة انكسار وانعكاس الضوء بدرجة معينة عبر قطرات المطر، ويكون ربع دائري أو نصف دائري وبديع الشكل.
عرض ضوئي ملون آخر في سماء القطبين الشمالي والجنوبي سببه تفاعل جزيئات مشحونة من الشمس أو الرياح الشمسية مع ذرات الغازات في الغلاف الجوي للأرض، مما يقدم إلى سكان هذه المناطق رؤية ساحرة لسماء بألوان طبيعية خلابة. وهذا الشفق القطبي (الأورورا) تزينه ألوان الأخضر الناتج من تفاعل الإلكترونات مع ذرات الأوكسجين، والأزرق والأرجواني بسبب تفاعل الإلكترونات مع النيتروجين، والأحمر الآتي من الجزيئات ذات الطاقة المنخفضة مع ذرات الأوكسجين في ارتفاعات عالية، والوردي الناتج من تفاعل الإلكترونات مع النيتروجين. وتكون الرؤية في المناطق القطبية أو القريبة منها أوضح خلال ساعات الليل. وجذبت هذه الظاهرة السياح من أنحاء العالم كافة إلى المناطق ذات الرؤية الواضحة في منتجعات ومخيمات على الثلج لمشاهدة عرض السماء الرائع بعواصفه الشمسية.
القياس بالضوء
في سياق مختلف أخذ الضوء حيزاً آخر ومهمة ربما لم تكُن لتخطر بالبال، إذ استخدمت سرعة الضوء التي تبلغ 300 ألف كيلومتر في الثانية كوحدة قياس في عالم الفضاء الواسع. وقال أينشتاين، “لا شيء أسرع من الضوء”، فالمسافة بين الأرض والشمس التي تبلغ 150 مليون كيلومتر مدتها الزمنية لتصل إلينا ثماني دقائق. ونحن في عصرنا هذا نشاهد نجوماً بعيدة بملايين ومليارات السنين الضوئية، مما يعني أننا نشاهدها الآن كما كانت منذ ذلك الوقت الذي تحتاج إليه ليصل ضوؤها إلينا، مما يعني أيضاً أنها ربما تغيرت أو ماتت ودخلت إحدى ثقوب الكون السوداء، أي إننا نشاهد ماضياً اندثر في أحسن الأحوال.
إلى الشمس نعود
لا بد من ذكر أن الإنسان الذي استضاء بالشمس عاد بعد رحلة في تكنولوجيات عدة ليخزنها في ألواح ليستخدم طاقتها ليل نهار بأقل ضرر ممكن للبيئة بعد استنفاد مواردها، والصين ما زالت تطور مع 35 دولة شمساً اصطناعية لإنتاج كم هائل من الطاقة الآمنة من دون انبعاثات للغازات الدفيئة أو إنتاج نفايات مشعة.
ومن الظلم أن نختصر الضوء بتاريخه وفوائده، ومهما تكلمنا سنكون لا نزال على عتبته. من الضوء الطبيعي إلى الكهربائي إلى الطاقة الشمسية إلى أضواء لا تحصى في استخداماتها بالتصوير التلفزيوني والسينمائي، في المسارح والشوارع، في غرف العمليات وفي المدارس. وكيف يجمل وجوهاً ويحرق وجوهاً، وكيف يستدعي الفراشات إليه لتنتحر توهجاً، وكيف يهبنا عروضاً من الألوان من الشروق إلى الغروب مروراً بالأضواء القطبية وأقواس قزح. كيف نقيس فيه كوناً لا متناهياً، وكيف يمكن أن يكون عامل شفاء، وكيف ينعكس ضوء شمسه على القمر والكواكب والنجوم في فضاء مظلم وبارد، وكيف تتغذى عليه الكائنات الحية من الإنسان إلى الحيوان والنباتات، ولائحة لا تنتهي يقوم فيها الضوء بدور البطولة المطلقة.