حرية – (21/5/2024)
عرفت أوروبا “الإتيكيت” في منتصف القرن الـ17، وكانت كلمة (Etiquette) في البداية مشتقة من كلمة (ticket) الفرنسية، أي تذكرة أو بطاقة الدعوة التي كانت توزع على المدعوين إلى القصور الملكية الفرنسية للتقيد بالتعليمات المدونة عليها في حضرة الملك وكبار الحاشية من أمراء ووزراء، وتوسع الأمر وصولاً إلى المحاكم والحفلات الرسمية وللآداب.
بين الغرب والشرق
ويرجع نشاط كثير من القواعد الرسمية إلى البلاط الملكي الفرنسي في ذلك الزمن إلى الملك لويس الـ16 الذي وضع قائمة بكل الأعمال اليومية موضحاً بها الوقت والمكان ونوع الزي المناسب، وقد صنفت تحت اسم “إتيكيت”.
وكان أول من بدأ في تطبيق فن “الإتيكيت” هو بستاني البلاط الذي يعود إليه الفضل في تصميم بطاقة لتنظيم الوفود الزائرة، إذ لاحظ خلال عمله أن القصر يعج بالزوار بصورة عشوائية، فصمم تلك البطاقة وعرضها على الملك، فوافق وأمر باستخدامها.
ويقابل مصطلح “إتيكيت” (Etiquette) مصطلح آداب السلوك في اللغة العربية، فالباحثون يذكرون أن الحضارة الإسلامية سبقت أوروبا بكثير في “الإتيكيت” وآداب السلوك، فقد دونت أيام الخلافة الإسلامية مبادئ وقواعد “الإتيكيت” في كتب عدة، ومنها “صبح الأعشى في كتابة الإنشا” للقلقشندي، و”التاج في أخلاق الملوك” للجاحظ، كما خصص الإمام البخاري كتاباً من تسعة أجزاء سماه “الأدب المفرد” يشمل آداب الحياة.
أولى القواعد في مصر
تدل نتيجة البحوث التي قام بها علماء الآثار في تاريخ أدب العالم القديم أن مصر كان لها قصب السبق في الإنتاج الأدبي في باب الحكم والتأملات، إذ يقول سليم حسن في كتابه “موسوعة مصر القديمة” في الجزء الـ17، إن أهم ما وصل إلينا من هذا اللون من الأدب ثماني وثائق، وهي حسب ترتيبها التاريخي حكم وأمثال (بتاح حتب)، و(تعاليم كاجمني)، وهما من الدولة القديمة، و(تعاليم مربكارع) من العهد الإقطاعي، و(وصايا أمنمحات لابنه سنوسرت)، و(تعاليم سحتب أب – رع)، و(تعاليم خيتي) من الدولة الوسطى، و(تعاليم آني) و(تعاليم أمنموبي) من الدولة الحديثة”.
تعتبر إشارة حسناً في اليابان على أنها “مال” وفي فرنسا “صفر”
ومن “تعاليم بتاح حتب لابنه”، “لا تكن متكبراً بسبب معرفتك ولا تثق بأنك رجل عالم، فشاور الجاهل والعاقل لأن نهاية العلم لا يمكن الوصول إليها، وليس هناك عالماً يسيطر على فنه تماماً”. وقال له، “لا تقل الشر، ضع طيبتك في جوف الناس وفي أعماق نفوسهم حتى يحبك كل إنسان لأن الإنسان يرحب بالخير. احفظ لسانك سليماً من الألفاظ الشائنة، وبذلك تصبح المفضل عند الآخرين، وستجد مكانك بين الناس”، كما نصحه في فن الكلام قائلاً، “احفظ لسانك سليماً من مجاوبة رئيسك، واحذر أن تذمه، فإن الكلام يكون سريعاً عندما يؤذي القلب، فالإنسان يبني ويهدم بلسانه”.
الهدف والغاية
وآداب السلوك بحسب عبدالرحمن يحيى الحداد في كتاب “آداب السلوك في المجتمعات الغربية”، “ليست مجموعة قواعد اجتماعية مصطنعة تفرضها حاجات التطور أو التقاليد أو الموضة، لكنها قواعد تحتمها القيم الإنسانية والروحية، وتستمد جذروها من الأديان السماوية ومن دستور الحقوق والواجبات المتبادلة للضمير الإنساني”.
وفي كتاب “قواعد (الإتيكيت) الحديث” تذكر الكاتبتان دوروثيا جونسون وليف تايلر، أن “هدف (الإتيكيت) ليس السعي وراء الكمال أو إرضاء الآخرين، بقدر ما هو تنظيم لعلاقاتنا بمن حولنا لنتفاعل ونؤثر بطرق إيجابية وتلقائية، فنفيد ونستفيد، فالأخلاق الحسنة والآداب العامة هي نوع من الاستثمار العاطفي والإنساني لأنه يبني ما اصطلح عليه تسمية رأس المال الاجتماعي، ويقود المجتمعات للازدهار”.
وعلى رغم أن “الإتيكيت” شمل وأحاط مختلف مناحي ومجالات حياة البشر، فإن أهم موضوعاته هي المجاملة التي تعد دستور التعامل الرسمي والاجتماعي، وهي فن إرضاء الناس ومراعاة شعورهم، وهي تدل على الأصل الطيب. وكذلك البساطة التي تعد من أهم قواعد السلوك البشري، فهي تمنح الإنسان التعبير عن نفسه والآخرين وتعطي انطباعاً جميلاً، لذلك وجب على الإنسان التدرب على البساطة، أما الأسبقية فترتبط بما فطر عليه البشر من حب الظهور والتنافس والتسابق، فمثلاً لا توجد قواعد ثابتة تحدد الأسبقية بين الملوك أو رؤساء الدول عند اجتماعهم في مكان واحد. بينما تعد المصافحة من طريق تشابك الأيدي الوسيلة المعتادة في كثير من المجتمعات، وتحتاج إلى جهد بأدائها، إذ لا يجب أن تطول مدة المصافحة لكيلا تبعث على الضيق، ولا أن تقصر بحيث تبدو تلامس سريع بين الأيدي، إضافة لتصويب النظر باتجاه بعضهم بعضاً، إضافة إلى “إتيكيت” الحديث والملابس والحفلات والولائم، و”إتيكيت” المائدة والاجتماعات والمقابلات، واليوم “إتيكيت” التواصل الاجتماعي والإلكتروني والاجتماع من بعد وقواعدها وغيرها كثير.
قواعد حول العالم
وبما أن آداب السلوك تعني التقيد بقيم المجتمع وبظروفه، والفرق بين تناول الطعام بالسكين والشوكة أو بأصابع اليد لا تعني أكثر من التقيد بظروف الزمان والمكان في إطار القيم الخلقية المتعارف عليها، لذلك فمن المهم احترام ظروف الزمان والمكان وألا يخلط الإنسان بين القيم الحضارية المختلفة في المكان الذي يولد فيه.
آداب السلوك تعني التقيد بقيم المجتمع وبظروفه (بيكسلز)
فبجولة سريعة حول العالم قد نجد ما يصدمنا أو يضحكنا وقد نرفضه أو نقبله انطلاقاً من ثقافتنا وبيئتنا التي حددت لنا قواعد معينة، فمثلاً يعد تقديم الزهور شيئاً رائعاً في جميع البلدان تقريباً، ولكن هناك بعض التفاصيل تخص نوع كل زهرة يجب معرفتها عند زيارة بعض البلدان، ففي فرنسا يعتقد الناس أن الزنابق والأقحوان مخصصان للجنازات، والمعتقد ذاته بالنسبة للأقحوان في إيطاليا، فهذه الزهور تستخدم فحسب في الأيام الحزينة، لكن بالنسبة للزنبق فهي وردة الإيطاليين المفضلة، وذلك لأنها زهرتهم الوطنية. أما إذا قرر أحدهم تقديم هدية لمواطن صيني فسيرفض قبول الهدية من أول مرة، وعليه أن يكرر تقدمتها مرة ثانية وثالثة، فالصيني يرفض الهدية ثلاث مرات قبل قبولها، وذلك ليس لأنهم لا يريدون قبول الهدية، بل هي طريقتهم في التعبير عن التواضع والأخلاق الحميدة، مع مراعاة أنه في الصين يمكنك إهداء الأشخاص أي شيء باستثناء الأشياء الحادة، مثل السكاكين، وهي علامات نهاية العلاقة، والساعات يعتقد أن الساعات تشير إلى نهاية الحياة، والمناديل التي هي خرافة مرتبطة بالبكاء في الجنازات.
ولبعض إشارات اليد معان جميلة وجيدة في بلدان وسيئة في أخرى، فمثلاً تفسر الإيماءة الشهيرة لـ”حسناً” في اليابان على أنها “مال” وفي فرنسا على أنها “صفر”، لذا إن شهرتها بوجه مواطن فرنسي فهذه تعد إهانة من خلال وصفه بأنه “لا شيء”. أما في عالمنا العربي، فقد لا يكون من السهل التوقف عن شرب القهوة في غالب الأحيان، إذ يستمر الأشخاص المضيافون في إعادة ملء الكوب الخاص بالشارب بمجرد أن يلاحظوا أنه فارغ، ولإيقاف ذلك يجب عليه هز الكوب، أو إمالته مرات عدة، أو وضعه على جانبه فحسب، وبهذه الطريقة يعلن أنه تناول ما يكفي من القهوة.