حرية – (22/5/2024)
حتى يومنا هذا تلعب شعوب البحر دوراً مهماً وحاسماً في إشاعة الأمن والسلام في العالم، في حين مارس بعضها قديماً دوراً مغايراً تماماً من خلال القرصنة أو استغلال الموقع الاستراتيجي الذي تتمتع به لأغراض عسكرية. وقديماً خاضت بعض شعوب البحر وأشهرها شعب “الفايكنغ” و”الهكسوس” وشعوب غرب آسيا مغامرات ملحمية تميزت بالوحشية، إذ غزى هؤلاء وغيرهم ممالك عدة بهدف توسيع أراضيهم والتمتع بمزايا اقتصادية، وكان من أشهر الممالك القديمة التي عانت موجات كثيرة من الغزو الخارجي القادم من شعوب البحر المملكة الفرعونية زمن رمسيس الثالث (1186 – 1155 ق.م).
شعوب البحر الطموحة
تقسم شعوب البحر قديماً إلى قسمين رئيسين، هما شعوب البحر الغازية والطموحة، وشعوب البحر المسالمة والحيادية. وعبر التاريخ ولفترة تمتد إلى آلاف السنين، وقفت شعوب البحر مواقف متعددة عبرت من خلالها عن طبيعتها المسالمة أو العدائية. ويوثق مسلسل “فايكنغز” العالمي الذي بثته قناة التاريخ الكندية عام 2013 عبر أجزائه الست لطبيعة واحد من أشهر شعوب البحر. إذ قام الملك والمحارب الاسكندنافي الأسطوري “راغنار لوثيروك” بمهاجمة ممالك عدة مجاورة مثل الجزر البريطانية في الأمبراطورية الرومانية، وصولاً إلى غزو مناطق بعيدة في شرق العالم القديم وغربه.
في وقتنا الراهن
في وقتنا الراهن تلعب شعوب البحر دوراً بارزاً في الصراعات والنزاعات الطاحنة كافة حول العالم، ويمكن إطلاق صفة شعوب البحر على كل حضارة شرقية أو غربية تحتل موقعاً بحرياً استراتيجياً وتدلي بدلوها في الحروب والنزاعات المتاخمة لأراضيها، إذ تدافع هذه الشعوب عن مصالحها انطلاقاً من أراضيها في ما تعده عمقها الاستراتيجي. ومن أبرز الشعوب التي مارست هذه الفكرة حديثاً من خلال بحارة وقراصنة مستقلين أو عبر أساطيل وحركات مسلحة تابعة لها، أفراد من الشعب الصومالي وحركة “أنصار الله” الحوثية في اليمن وغيرها.
دفاع وهجوم
تفيد قراءة تاريخية حول هذه الشعوب بأنها تقسم إلى قسمين هما: شعوب البحر الغازية، وهي التي تتخذ من أراضيها منطلقاً لغزو ومهاجمة الشعوب المجاورة. وهذه الشعوب تمثل القسم الأكبر من شعوب البحر في العالم القديم، وكان من أهمها شعب “الفايكنغ” وشعب بحر “إيجه” وجزيرة كريت اليونانية. أما القسم الثاني فهم شعوب البحر المسالمة أو الحيادية، وهي الشعوب التي تجاور البحر طلباً للرزق ولا تتدخل في أي نزاعات بحرية بشكل مباشر. ومن الأمثلة على هذه الشعوب شعوب الخليج العربي، التي عرف عنها قبل فترة اكتشاف النفط العمل في الصيد واستخراج اللؤلؤ لعقود طويلة من الزمن.
طبيعة شعوب البحر
أكثر صفة تميزت بها شعوب البحر قديماً هي صفة حب المغامرة والاكتشاف، وعلى رغم ذلك ظهر دائماً ملوك ومحاربون لديهم طموحات كبيرة، ونجحوا في استثمار وتحويل تلك النزعة الطبيعية لدى شعوبهم إلى مغامرات وحشية ومعارك دموية طاحنة.
نضال الأمم
وتروي كتب لمؤرخين مثل كتاب “نضال الأمم” لغاستون ماسبيرو وروايات ملحمية مثل “كفاح طيبة” للروائي نجيب محفوظ بعض أجزاء تلك الملاحم القديمة، وتعكس تلك المؤلفات الواقعية والخيالية الحالة النفسية لتلك الشعوب.
قبل نشوء الغرب
قبل نشوء حضارة الغرب الحديثة في أوروبا وأميركا سادت فترة زمنية امتدت لثلاثة قرون، تنافست فيها الأمم على حيازة الأراضي والمزايا الاقتصادية في العالم. وسميت هذه الفترة الدموية من التاريخ بفترة “شعوب البحر”، وهي جماعات من الشعوب الغازية التي تحركت من شمال الكرة الأرضية باتجاهات عدة أبرزها الشرق، وكان من أهم تلك الشعوب شعب “الفايكنغ” الشهير.
روايات المستشرقين
وتقول مصادر كثيرة مثل موسوعة المعرفة العربية وكتب عدة لمؤرخين ومستشرقين كان أشهرهم إيمانويل دي روجيه، إن إحدى وجهات ذلك الغزو في أولى موجاته الطاحنة كانت المملكة الفرعونية زمن “رمسيس الثالث”، الذي صنع بدوره جداريات عدة توثق إقدامه على صد الهجوم عن شعبه ومملكته.
حقبة زمنية غابرة
يؤشر مصطلح “شعوب البحر” المتداول بين المؤرخين والمستشرقين المعاصرين إلى حقبة زمنية قديمة للغاية (1200 – 900 ق.م)، لكنها تميزت بكونها بؤرة نشاط العالم القديم بعد سقوط الأمبراطورية الرومانية في التنافس على الأراضي والمزايا الاقتصادية. ولذلك تعد فترة شعوب البحر مرحلة مهمة من النزاع بين الشمال والشرق قبل نشوء الغرب الحديث كما نعرفه الآن.
مسلسل “فايكنغز”
يوثق مسلسل “فايكنغز” للمخرج السويدي “يو يوهان” لأحداث تاريخية تروي حكاية الملك الأسطوري السويدي – الدنماركي راغنار لوثيروك المتعطش لاكتشاف الشواطئ البعيدة. وتعني كلمة “فايكنغ” القراصنة، وتشير وفق مراجع تاريخية إلى شعوب الشمال قديماً في فترة العصور الوسطى المبكرة (500 ق.م)، وهي الفترة التي تبعت سقوط الأمبراطورية الرومانية.
حكاية “الفايكنغز”
وتدور حكاية القراصنة الشماليين وفق أحداث المسلسل حول قصص متداولة شفوياً عن مآثر الملك الأسطوري “راغنار” وأدق تفاصيل غزواته. في المقابل ورد ذكر قراصنة الشمال في نقش فرعوني شهير من زمن “رمسيس الثالث” ثاني ملوك الأسرة الـ20 في مصر القديمة. وفي عام 1986 وصف المستشرق غاستون ماسبيرو في كتابه “نضال الأمم” نظرية هجرات الشعوب التي تتحدث عن “شعوب البحر”، بأنها نظرية مقبولة لدى عدد كبير من المؤرخين. وبذلك ترسخ مصطلح شعوب البحر ليصبح مؤشراً إلى فترة التنافس الشديد بين الشعوب والقوى الأوروبية على الأراضي والمزايا الاقتصادية في العالم القديم.
الاسم الأصلي
لم ينته الجدل حول تسمية شعوب البحر حتى وقتنا الراهن، فالاسم الأصلي وفق المراجع المذكورة يدل بشكل مباشر على اتحاد افتراضي مؤلف من تسعة شعوب قديمة. ويعد المؤرخ الألماني والأستاذ الجامعي أدوارد ماير (1855 – 1930 م) من أهم المعلقين على هذه النظرية، وهو يرى أن مسمى شعوب البحر كما وصفه كل من ماسبيرو وروجيه أقرب ما يكون إلى الحقيقة بالنسبة إلى المستشرقين وبعض العلماء، لذلك يمكن اعتبار التسمية بمثابة وثيقة تاريخية معاصرة، تدل كما ذكرنا على سلوك أي شعب يقطن على سواحل البحار سلباً وإيجاباً سواء كان ذلك الشعب حديثاً أم قديماً.
الهكسوس
وفق رواية “محفوظ” فإن الهكسوس من الأمم الغازية التي وصلت إلى مصر في فترة غزوات شعوب البحر للملكة الفرعونية، والهكسوس هم من شعوب غرب آسيا وذوو أصول متعددة. لكن غزوهم للملكة الفرعونية أدى إلى نهاية الأسرة الـ13 الفرعونية، لتبدأ بعدها المرحلة الانتقالية الثانية في مصر القديمة.
إسقاط
ومن خلال كفاحهم الملحمي ضد الهكسوس، وثق الخيال الأدبي والفن المصري لوحات عدة مزجت بين الحقيقة التاريخية والإسقاط السينمائي والدرامي، الذي صور كفاح المصريين للتحرر من الاحتلال البريطاني حديثاً وصولاً إلى تحقيق الاستقلال، أو ما يعرف باتفاق الجلاء عام 1956 بعد 73 عاماً من الاحتلال.