حرية – (29/5/2024)
مباشرة بعد إنهائها جولة في استاد نادي ريال مدريد “سانتياغو بيرنابو” المتألق بالعاصمة الإسبانية، قالت غوادالوب ريبولو إن قضاء عطلة في إسبانيا برفقة ابنتها البالغة من العمر 15 سنة هي أوفر من عطلة على شواطئ بلدها المكسيك.
وتزور عائلة ريبولو الصغيرة هذه إسبانيا في ظل طفرة قياسية بعدد زوار هذا البلد، وهي طفرة تسهم في خلق فرص عمل جديدة بمعدلات متسارعة، وتساعد الاقتصادي الإسباني على النمو بنسب تتخطى معدلات دول مجاورة. إلا أن ذلك يؤدي في المقابل إلى إنهاك قطاعات الخدمات في البلاد، كقطاعي السكن والمواصلات، وإلى إثارة الاستياء بأوساط السكان المحليين.
لذا فإن كيفية جعل هذا الازدهار السياحي مستداماً وتوزيع مكاسبه على نحو أوسع يمثلان اليوم تحدياً أمام السياسيين الإسبان، الذين يرى بعضهم أن السبيل الأفضل للمضي قدماً يتمثل برفع الأسعار السياحية.
لكن بالنسبة لعائلة ريبولو الصغيرة القادمة من المكسيك، فإن القدرة على تحمل التكاليف شكلت أحد العوامل التي أكسبت إسبانيا جاذبية كبرى، إلى جانب وفرة المعالم الثقافية طبعاً. وفي هذا الإطار قالت ريبولو، البالغة من العمر 45 سنة، إن آخر إجازة قضتها مع ابنتها في المكسيك كلّفتهما قرابة 2500 يورو (2137 جنيهاً استرلينياً)، وذكرت على سبيل المقارنة والمفاضلة: “هنا سننفق أكثر بقليل من هذا، لكن فكرة التعرف إلى بلد آخر مع تغطية المبلغ المذكور لتكاليف بطاقات السفر والتنقل، يمثل بالحقيقة صفقة جيدة مقابل التكلفة”.
والحق أن ملايين السياح الآخرين يوافقون على هذا المنطق، وقد أدى ازدهار السياحة إلى وضع إسبانيا، بعد فترة تأخير طويلة، في موقع الصدارة بين اقتصادات أوروبا الكبرى، إذ باتت الآن تتفوق على عشرين دولة في المنطقة الأوروبية لم تتخط معدلات نموها نسبة الـ 0.3 في المئة بالربع الأول من 2024، مقارنة بمعدل نمو في إسبانيا الذي بلغ 0.7 في المئة بالفترة عينها.
وفي السياق ذاته، وفيما خفضت فرنسا توقعاتها للنمو في سنة 2024، وتجنبت ألمانيا لتوها حالة ركود مع بقاء اقتصادها مرتبطاً بالتصنيع وعرضة لتقلبات أسعار السلع والتوترات الجيوسياسية، تتوقع إسبانيا نمواً اقتصادياً هذا العام بمعدل 2 في المئة.
ويأتي هذا التوسع في الاقتصاد الإسباني نتيجة نمو في قطاع الخدمات وفي معدلات الإنفاق العام والخاص وسوق الوظائف، وفق قول آنجل تالافيرا، رئيس قسم الاقتصادات الأوروبية في كلية الاقتصاد بأكسفورد.
من جهتها، ذكرت مجموعة اللوبي السياحي “إكسيلتور” Exceltur أن السياحة شكلت 71 في المئة من النمو الفعلي بالاقتصاد الإسباني السنة الفائتة. وبلغ معدل الإنفاق أو الاستهلاك عند غير المقيمين قرابة ثلث نسبة النمو الإسباني البالغة 2.5 في المئة عام 2023، وفق مؤسسة “بي بي في أي” (BBVA).
رجل رسم علم جزر الكناري على وجهه خلال مسيرة احتجاج ضد السياحة في تينيريفي
لكن إسباناً كثراً لا يشعرون بأنهم يجنون فوائد كل هذا، كما تتزايد في الآونة الأخيرة حالة الاعتراض على قطاع السياحة، الذي يشكل سبب نجاح إسبانيا.
وفي الإطار عينه قال وزير السياحة الإسباني جوردي هيرو في 8 مايو (أيار): “صحيح أننا نغدو أشبه بالعصابات، لكن يجب إدارة هذه الظاهرة. لن نمنع الناس من القدوم إلى إسبانيا، لكن بوسعنا وضع حدود للعروض السياحية”.
وبالفعل بدأت التدابير تطبق في هذا المجال، إذ تقوم السلطات المحلية بوضع قيود على تراخيص بيوت الإجازات. وفي برشلونة طلبت سلطات المدينة إزالة خط الباص الذي يصل إلى متنزه “غويل” الشهير من تطبيقات الهواتف الذكية، لأن إقبال السياح على استخدامه تجاوز قدرات الخدمة.
كذلك فإن الإسبان عموماً لا يستشعرون بانعكاس العامل الإيجابي المتأتي من هذا الازدهار السياحي عليهم. إذ أظهر استطلاع أجراه في أبريل (نيسان) “المركز الإسباني للأبحاث السوسيولوجية” أنه على رغم قول 60 في المئة من الإسبان إن وضعهم الاقتصادي الشخصي “جيد”، فقد قال 59 في المستطلعين إن الوضع في البلاد “سيئ” أو “سيئ جداً”. فالرواتب الأدنى نسبياً توجه الاستثمارات نحو إنشاء فنادق جديدة، والتي تفتتح بمعدل فندق جديد كل أربعة أيام، مما يجعل إسبانيا تتوفق على بريطانيا هذا العام وفق مجموعة “سي بي آر إي” العقارية (CBRE)، إذ عُدّت البلد الأكثر جاذبية في أوروبا للمستثمرين بقطاع الضيافة.
من جهته، قال أنطونيو كاتالان، رئيس مجموعة فنادق “أي سي” AC Hotels، شريكة “ماريوت” في إسبانيا، قال إن فنادقه شهدت ارتفاعاً في إقبال الزوار الأجانب بمعدل 17 في المئة بالربع الأول (من هذا العام)، وقد ازدادت معدلات إنفاقهم بنسبة 27 في المئة نظراً لارتفاع أسعار (إيجارات) الغرف كعامل أول. إذ إن “إسبانيا أرخص من غيرها ولديها الكثير من الزبائن”، وفق كلامه.
أشخاص يلتقطون الصور في سوق خارجي في منطقة وسط مدينة سلمنقة بإسبانيا
وزار إسبانيا عام 2023 رقم قياسي من السياح بلغ 85 مليون شخص، وقد استمر التصاعد في أعداد الزوار في الربع الأول من هذا العام حيث تزايد عدد الزائرين بنسبة ناهزت الـ 18 في المئة ليصل إلى 16.1 مليون زائر، مع التنويه بإمكانية أن يكون عيد الفصح الذي حل بهذه الفترة عينها قد أسهم في رفع المعدل المذكور.
ويسجل زوار إسبانيا تزايداً في معدلات الإنفاق. الفضل في هذا بجزء منه يعود إلى جهود بذلت لتطوير سوق الخدمات الفخمة، الذي تعتبره بعض المناطق الإسبانية حلاً لأزمة السياحة المفرطة.
وأنفق القادمون العام الفائت 109 مليارات يورو (93.18 مليار جنيه استرليني) مقابل 63.5 مليار يورو (54.29 مليار جنيه استرليني) في فرنسا، إذ دفع الزوار أموالهم في المطاعم ومتاجر الموضة. وقد تزايد معدل إنفاق السياح الأجانب بنسبة 27 في المئة خلال الربع الأول من هذا العام مقارنة بالفترة عينها من السنة الماضية.
كذلك أسهمت السياحة في تعزيز معدل نمو الوظائف، إذ تراجعت البطالة لتسجل أدنى مستوى لها منذ 16 عاماً على رغم مساهمة الهجرة في ملء فرص العمل المتوافرة بقطاع الخدمات.
أناس يرتادون الشاطئ في برشلونة
وأسهمت السياحة في خلق 197630 وظيفة إضافية في الربع الأول من هذا العام مقارنة بالفترة عينها من العام الماضي، وذاك يمثل معدل واحدة من كل أربع فرص عمل جديدة خلال الفترة المشار إليها، وفق وكالة “توريسبانا” Turespana التي تديرها الدولة لترويج السياحة بإسبانيا. وتسهم هذه الوظائف الجديدة في تعزيز معدلات الاستهلاك الفردي لتضاف على معدلات استهلاك السياح.
إلا أن رئيس قسم الاقتصاديات الأوروبية في أكسفورد آنجل تالافيرا حذر من أن الطفرة الاقتصادية اليوم في إسبانيا ليست مستدامة، لافتاً أن “السياحة لا يمكن أن تنمو بهذا المعدل على نحو ثابت، كما لا يمكن للإنفاق العام أن يستمر بالارتفاع”.
إلا أن السيدة ريبولو وابنتها، في الأثناء، تخططان لتمضية أسبوعين إضافيين في أوروبا من ضمنهما عدة أيام في فرنسا، “إلا أننا سنقضي وقتاً أطول في إسبانيا لأننا لاحظنا أنها أرخص من باريس”، وفق كلامها.