حرية – (29/5/2024)
كان المرشد الإيراني واضحاً في الرسائل التي وجهها بكل الاتجاهات، خلال استقباله بعض القيادات الإقليمية التي زارت العاصمة الإيرانية طهران لتقديم العزاء برحيل رئيس الجمهورية إبراهيم رئيسي ووزير خارجيته حسين أمير عبداللهيان.
المفتاح الأساس لهذه الرسائل التي تمثل ثوابت النظام الأساسية قبل وبعد هذه الحادثة، يمكن تلخيصها بتأكيد المرشد أنه “لا تغيير في السياسات والمواقف الإيرانية على المستويين الإقليمي والدولي”. مما يعني أن الحادثة التي أودت برئيسي ومرافقيه، وبغض النظر عن الأسباب الكامنة خلفها، سواء نتيجة صراعات داخلية أو بين مراكز القوى، أو نتيجة عملية أمنية خارجية، لن يكون لها أي تأثير على المسار الاستراتيجي للموقف الإيراني في مختلف القضايا والملفات.
الأزمة الفلسطينية
ولعل اللقاء الذي جمع بين المرشد ورئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” إسماعيل هنية، وحرص إدارة مكتبه على نشر كلام المرشد بالصوت والصورة، للتأكيد على أن الصراع الذي يخوضه النظام على المستويين الإقليمي والدولي من بوابة الأزمة الفلسطينية، لن يخرج عما كان عليه في مرحلة ما قبل تغييب رئيسي عن المشهدين الإيراني والدولي، في إشارة واضحة إلى أن النظام وقيادته مستمران على موقفهما من المسألة الفلسطينية باعتبارها المدخل والمحور الأساس للمشروع الإقليمي للنظام، وصولاً إلى ترجمته من خلال فرض الرؤية أو الحل الذي تعتبره طهران مناسباً ومنسجماً مع مشروعها ويلبي الشروط والأهداف التي تسعى لها.
تأكيد خامنئي أمام هنية على أن الوصول إلى هدف تحرير فلسطين “من البحر إلى النهر” بات أكثر واقعية وأقرب إلى التحقق من أي وقت مضى، وأن الوعد بزوال إسرائيل سيتحقق”، ومن ثم إعطاء هنية مساحة ليكون متحدثاً في حفل تأبين رئيسي قبل دفنه، أراده المرشد الإيراني رسالة واضحة لكل الأطراف بأن هذا الحدث، وعلى الرغم من حجمه وتأثيره، لن يحدث أي تغيير في الثوابت الإيرانية المرتبطة بالموقف من القضية الفلسطينية التي تعتبر الجسر الذي يضع إيران في صلب المعادلات الإقليمية.
وتأكيد المرشد على هذه الثابتة الاستراتيجية، وعدم حدوث أي تغيير فيها، يعني أن المسار الذي تعتمده طهران في علاقتها مع حلفائها في الإقليم لن يتغير أيضاً، وذلك لأن وجود هذه القوى وهؤلاء الحلفاء مرتبط بجزء أساسي منه، في استمرار تبني الموقف من هذه القضية، وأي ضعف أو تراجع قد يطرأ على الموقف الإيراني، سيعني بالنتيجة تسجيل الخصم أو العدو الإسرائيلي والأميركي نقطة في مرمى المحور الذي تقوده، وأن هذا التراجع قد يقود إلى سلسلة تراجعات أخرى مؤلمة.
الثابت الآخر الذي كشفت عنه زيارات التعزية، يكمن في اللقاء الذي جمع بين المرشد وأمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، أحد الأطراف الإقليمية المعنية بملفين أساسيين مرتبطين بأزمات الإقليم وهما، مسار المفاوضات التي تشارك فيها إلى جانب دولة مصر من أجل التوصل إلى تهدئة في الحرب التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة، إضافة إلى مسار الحوار غير المباشر الذي تتناوب الدوحة مع العاصمة العمانية مسقط على استضافة جولاته غير المباشرة بين طهران وواشنطن. لا شك أن النظام الإيراني وقيادته لن يفرطا بالخطوات التي تم تحقيقها على مسار الأزمات التي تتفاوض حولها مع واشنطن، والمرتبطة بكل الملفات الإقليمية التي تشكل المجال الحيوي لمشروع إيران الاستراتيجي في منطقة غرب آسيا، بخاصة الصراع على النفوذ والدور المتحدم بينها وبين تل أبيب، وأن الحفاظ على المسار التفاوضي والدور الذي تلعبه في هذا الإطار، قد يساعدها في الحصول على انتصار عزيز في حال استطاعت من خلال المفاوضات فرض اتفاقية وقف إطلاق نار دائم في قطاع غزة وما يرافقه من شروط أخرى تتعلق بآليات مرحلة ما بعد وقف النار لا سيما الانسحاب، ورفع الحصار، وعودة النازحين، والتفكير الجدي بالمسار السياسي الفلسطيني الداخلي، الذي سيكون مقترناً حتماً بفشل إسرائيلي واضح في تحقيق هدف القضاء على حركة “حماس”.
دعم النظام الإيراني لقوى المحور الإقليمي المشتبك في حرب غزة انطلاقاً من الساحات اللبنانية والعراقية واليمنية، تختلف آلياته وأهدافه عن الاتفاق الذي سبق وتم التوصل إليه بين طهران وواشنطن قبل معركة السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، والذي أنتج توافقاً بينهما يقضي بوقف الهجمات التي كانت تشنها الفصائل العراقية الموالية لإيران على مواقع القواعد الأميركية في العراق وسوريا. وأن مطلب وقف النار في غزة الآن يهدف إلى ترجمة أهداف مشتركة بينهما أيضاً، في مقدمتها إحداث تغيير في تركيبة الحكومة الإسرائيلية بإخراج رئيسها نتنياهو من المعادلة، ومنع تمدد الحرب إلى مناطق أخرى أو توسيعها بما يخدم مصالح الطرفين.
التزام إيران بما تم التوصل إليه في جولات المفاوضات غير المباشرة الستة التي استضافتها العاصمة العمانية بين كبير المفاوضين الإيراني علي باقري كني، وبرت ماك كورك المندوب الأميركي لهذه المفاوضات، وحتى التفاهم الحاصل بينهما على الفصل بين مسار التفاوض حول الملف النووي عن ملف أزمة “طوفان الأقصى” وحرب غزة، كان الدافع للقيادة الإيرانية لإرسال إشارات إيجابية من خلال المسارعة إلى تكليف باقري كني بوزارة الخارجية بالوكالة في خطوة سبقت تكليف نائب الرئيس بإدارة السلطة التنفيذية بعد الإعلان عن مقتل رئيس الجمهورية. وأن مهمة باقري كني قد تتوسع ليكون شريكاً في مفاوضات تمهيدية أخرى يشهدها الإقليم بين الإدارة الأميركية وبعض العواصم العربية ذات طابع استرايتجي إقليمي لضمان عدم معارضة طهران لها في المستقبل.