حرية – (29/5/2024)
في وقت يأمل كثيرون من السودانيين بتوقف الحرب الدائرة بين الجيش السوداني وقوات “الدعم السريع” منذ منتصف أبريل (نيسان) 2023، بالنظر إلى حجم الدمار الهائل الذي أصاب البنى التحتية للبلاد ومنشآتها الحيوية، وهو ما أظهرته عديد من مقاطع الفيديو المصورة التي يتم تداولها بكثافة على مواقع التواصل الاجتماعي، بخاصة بعد الدمار الذي لحق أخيراً بمصفاة “الجيلي” لتكرير البترول الواقعة في الخرطوم بحري، والتي تعد من أهم المنشآت النفطية في السودان.
تشير الوقائع إلى أن الحرب دخلت مرحلة غير مسبوقة من التدمير الممنهج لمقدرات الشعب السوداني، والتي وصفها البعض بأنها أقرب ما تكون لسياسة “الأرض المحروقة”. فإلى أي مدى ينظر المراقبون العسكريون والسياسيون إلى مسار هذه الحرب، وما تفسيراتهم لمنحى التدمير الذي لحق بمكتسبات البلاد الاقتصادية، وما رؤيتهم لسيناريوهات الحل؟
دروع بشرية
قال الباحث في الشؤون العسكرية والسياسية اللواء أمين إسماعيل مجذوب، “يلاحظ مع دخول هذه الحرب عامها الثاني أن تغيراً واضحاً قد حدث في وتيرتها وتكتيكاتها واستراتيجياتها وخططها، إذ أصبح الجيش السوداني في موقع الهجوم وقوات الدعم السريع في موضع الدفاع، مما يعد تغيراً كبيراً في مسار الحرب، كما حدث أيضاً تغير في قواعد الاشتباك بإدخال المسيرات كسلاح جديد، حيث باتت قوات الدعم السريع تستخدم المسيرات في قصف المناطق التي لا توجد فيها قواتها، فضلاً عن محاولاتها إرباك تحركات وتجهيزات القوات المسلحة القتالية، في حين تستخدم الأخيرة المسيرات في قصف ارتكازات قوات الدعم السريع ومخازن أسلحتها ووقودها”.
قد يقبل الجيش العودة إلى منبر التفاوض للخروج بأقل الخسائر، وفق مراقبين
وأضاف مجذوب، “بلا شك فإن هذه الظواهر الجديدة في الحرب تؤدي إلى إطالة أمدها لأنها تعتمد على المعدات والأسلحة والطائرات من دون طيار بعيداً من الخسائر البشرية، كما نجد أيضاً أن قوات الدعم السريع ابتدرت أسلوباً جديداً بفتح جبهات جديدة في محاولة لتصعيد القتال ونقل المعارك إلى القرى وأطراف المدن وممارسة شتى صنوف الانتهاكات ضد المدنيين بخاصة النساء، إضافة إلى نهب الأموال وسيارات المواطنين، وهو ما زاد من قلق العالم من هذه الحرب بخاصة في جوانبها الإنسانية والغذائية والدوائية”.
وأردف، “كذلك نجد أن قوات الدعم السريع تستخدم بعض الأعيان والمؤسسات المدنية والحكومية دروعاً بشرية لحماية نفسها من القصف الجوي والمدفعي من قبل الجيش، بالتالي قد تحدث في بعض الأحيان اشتباكات في تلك المواقع تؤدي إلى إحداث تدمير جزئي وأحياناً كلي، فضلاً عن أن هناك حرباً إعلامية مكثفة تقودها تلك القوات (الدعم السريع) لإظهار الجيش بأنه من يقوم بتدمير المنشآت وقتل المدنيين، في حين أن ما يحدث عكس ذلك، إذ إن الجيش دائماً ما يراعي ويحترم قوانين الحرب الدولية من خلال التعامل وفقاً لقواعد الاشتباك والاستهداف المتبعة والمنصوص عليها دولياً، كما أنه يميز بين الأهداف العسكرية المشروعة والأهداف المدنية، ودائماً ما يصدر الناطق الرسمي للجيش تقارير وتصريحات تشكك وتنفي مثل تلك الادعاءات ذات الهدف المعلوم.
وواصل، “إذا نظرنا إلى المستقبل سنجد هناك توطيناً لهذه الأزمة، فضلاً عن وجود خطوط دعم وإمداد مفتوحة لقوات الدعم السريع من قبل أطراف دولية وإقليمية، وهو ما جعلها تكرر محاولاتها الهجومية تجاه مدينة الفاشر، عاصمة إقليم دارفور، من أجل السيطرة عليها وإعلان حكومتها من داخل هذه المدينة، بالتالي تذهب إلى المفاوضات وهي في وضع مناظر لحكومة الخرطوم، وهو أمر خطر للغاية، لأنه قد يؤدي إلى فقدان هذا الإقليم نهائياً”.
وفي شأن سيناريو وقف هذه الحرب، ختم الباحث في الشؤون العسكرية والسياسية بالقول، “إن هناك إصراراً من بعض القيادات العسكرية على حسم المعركة ميدانياً، وفي الوقت ذاته تجرى تحركات دولية يقودها المبعوث الأميركي الخاص للسودان توم بيرنييلو لإقناع طرفي القتال بالعودة لطاولة التفاوض عبر منبر جدة”.
معادلة التفاوض
في سياق آخر، أفاد عضو القيادة المركزية العليا للضباط وضباط الصف والجنود المتقاعدين السودانيين (تضامن) الرائد محمد عبدالمنعم مقلد، بأنه “من خلال مجريات المعارك في كل محاور القتال، وضح جلياً اشتداد وتيرة القتال بولاية الخرطوم بعد أن تم دحر كل المتحركات الخاصة بالجيش ومستنفريه من عناصر الحركة الإسلامية بالجزيرة والفاو، وتقهقر تلك القوات بشمال دارفور خصوصاً في معركة الفاشر، بعد أن دخلت طلائع قوات الدعم السريع المدينة وقامت باحتلال مواقع استراتيجية فيها وأحكمت حصارها على قيادة الفرقة العسكرية، الأمر الذي حدا بقيادات من القوات المشتركة للحركات المسلحة تمثل حركتي (العدل والمساواة) بقيادة جبريل إبراهيم، و(تحرير السودان) بقيادة مني أركو مناوي، بالدخول في مفاوضات مع القيادات الميدانية لقوات الدعم السريع من أجل السماح بخروج أفراد وقيادات هذه الحركات عبر الممرات الآمنة المعدة لخروج الراغبين من المواطنين”.
وتابع مقلد، “تطبيق قوات وميليشيات الحركة الإسلامية سياسة الأرض المحروقة التي تمارسها الآن في مدن العاصمة الثلاث على وجه الخصوص، تعكس حال الضعف والانهيار التي تعيشها هذه القوات، بخاصة بعد دحر متحركاتها في منطقة شمال الجيلي بالخرطوم بحري، وتكبدها خسائر بشرية هائلة”.
قلق العالم من هذه الحرب يزداد، بخاصة في جوانبها الإنسانية والغذائية والدوائية
وزاد، “لا أعتقد أن لدى قوات ميليشيات الفلول والمستنفرين التابعين للإسلاميين القدرة على الدخول في مواجهة مع قوات الدعم السريع في القريب العاجل، نسبة إلى حال الانهيار التي تعيشها وفشلها في تحقيق أي انتصار على الأرض، لذلك فإن معادلة التفاوض من أجل وقف هذه الحرب ستأخذ منحي آخر يختلف عما كان في بداية المفاوضات التي استضافتها مدينة جدة برعاية سعودية – أميركية، فقوات الدعم السريع أصبحت قادرة على إملاء شروطها بالنظر إلى تسيدها المشهد الميداني، بالتالي على الجانب الآخر (الجيش) فإنه قد يقبل العودة إلى منبر التفاوض للخروج بأقل الخسائر”.
واعتبر عضو القيادة المركزية العليا للضباط وضباط الصف والجنود المتقاعدين السودانيين حديث قائد الجيش السوداني عبدالفتاح البرهان في إحدى المناسبات الداخلية حين قال إن “المعركة بدأت الآن”، بمثابة “قفزة في الظلام تعكس الرغبة في الاستمرار في الحرب كآخر طوق قد ينجي مشعليها من الحساب والمساءلة”، متوقعاً انتهاء الحرب من خلال هزيمة قوات “الدعم السريع” لميليشيات الحركة الإسلامية وهروب قيادات عسكرية ومدنية خارج السودان.
حلفاء جدد
الكاتب السوداني عثمان ميرغني يوضح أن “الحرب في البلاد ازدادت اتساعاً أفقياً ورأسياً، فمن الناحية الأفقية وصلت إلى مناطق جديدة، أما رأسياً فقد استخدمت فيها أسلحة جديدة وحلفاء جدد، لكن بالنسبة إلى الجوانب الفنية الاستراتيجية والتكتيكية نجد أن الجيش لم يغير تكتيكه الدفاعي الذي يقوم على الاستنزاف أكثر من الاستحواذ على الأرض، إلا في بعض الإحيان القليلة التي بادر فيها بالهجوم”.
ويبين أن الحرب لم تصل حتى الآن إلى مرحلة استراتيجية “الأرض المحروقة”، لكنها اقتربت كثيراً من بعض المنشآت المهمة، مثل مصفاة “الجيلي” للبترول الواقعة شمال الخرطوم بحري، والتي قصف الجيش مستودعات الوقود فيها مما أثار مخاوف من تدميرها بالكامل.
ولفت ميرغني إلى أن المواجهة من جانب قوات “الدعم السريع” تعتمد على كثافة النيران والقوة البشرية، فيما يعتمد الجيش على الأسلحة الثقيلة والطيران العادي والمسير، مما قد يفاقم الدمار في البني التحتية، مشيراً إلى أنه في بعض الأحيان كان هناك استهداف مباشر لبعض المنشآت مثل كبري “شمبات” وجسر خزان جبل الأولياء.
وشدد على أهمية الحل السلمي الذي لا بد منه لإيقاف هذه الحرب، لأنه من المستحيل بمكان تحقيق النصر العسكري فيها من قبل أي من الطرفين، منوهاً إلى أنه تجرى حالياً مفاوضات خلف الكواليس لاستئناف التفاوض من جديد بين الطرفين المتحاربين، حيث قطعت شوطاً مقدراً.
وتوقع الكاتب السوداني أن يكون هناك سيناريوهين بخصوص ما يجري من أحداث وتطورات في مسار هذه الحرب، هما إما انهيار التفاوض بسبب تطورات الوضع الميداني بخاصة في الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، في حال تمكن قوات “الدعم السريع” من احتلالها، أو نجاح المفاوضات بالوصول إلى اتفاق سلام في حال توافرت إرادة حقيقية للسلام لدى الطرفين.