حرية – (29/5/2024)
تشدد المراجع التاريخية على طبيعة سكان مدينة حمص السورية، وتجمع الآراء على أن “أهالي حمص عرفوا في كل الأدوار أنهم شديدو التمسك بالمبادئ التي يقتنعون بصحتها، فهم كثيرو الاندفاع بتأييد ما يجد إلى قلوبهم سبيلاً، ومتعصبون لما يستقر رأيهم عليه، لا يتزحزحون عنه بغير شق النفس، وبالجهد الجزيل وبعد تواتر الأدلة ونصوع البينات”، وهذه كانت حال المسيحية عندما حاولت دخول هذه المدينة وبناء أول تجمعاتها وكنائسها هناك، فاصطدمت بممانعة وتشدد واضطهادات عنيفة.
ولتوخي الدقة وبخاصة بعد انتشار عدد من المواد التي تقول إن كنيسة “أم الزنار” في حمص هي أول كنيسة في العالم، توجهت المصادر إلى مطرانية السريان الأرثوذوكس التي تتبع الكنيسة لها، وحصلت على المعلومات من الأرشيف الخاص بها من خلال المطران تيموثاوس متى الخوري.
لم يتمكن المسيحيون الأوائل في حمص من إشادة الكنائس والمعابد فكانوا يجتمعون في كهوف تحت الأرض لإقامة صلواتهم
ليست الأولى
وتذكر المراجع “أن المسيحيين الأوائل في حمص عانوا كثيراً مع بداية الكرازة الإنجيلية أو التبشير المسيحي من الاضطهادات العنيفة، إذ لم يتمكنوا من تشييد الكنائس والمعابد، فكانوا يجتمعون في كهوف تحت الأرض، ويمارسون شعائرهم الدينية التي كانت عبارة عن صلوات بسيطة، إذ سعى غايوس الدربي الذي سماه يوحنا الإنجيلي أسقفاً وأرسله إلى فلاح حمصي اسمه خريسوموس كان اعتنق المسيحية، وبشر عدداً من الناس بها، وجمع حوله بعض المريدين، لتدشين مكان سري وخاص للعبادة فيه، فكان ثمة منزل شرق المدينة لأرملة اسمها بربارة اتخذه خريسوموس مركزاً لعمل الكرازة، فكرسه غايوس كنيسة، وعرفت بعدئذ باسم “ارشائيا” أو كنيسة بربارة (عن مخطوط قديم في دير القديس إليان بحمص).
وبسبب تشابه وصف المكان بين بيت بربارة ووصف كنيسة “أم الزنار” القديم، نفى المطران الخوري حقيقة هذا التشابه وأن يكون المكان نفسه أيضاً “هذا خطأ يقع به عدد من الباحثين، ولكن كنيسة أم الزنار كانت عبارة عن ثلاثة كهوف وقريبة من منطقة المدافن وبالتالي ليست بيتاً سكنياً، وهي الطريقة التي كان يستخدمها المسيحيون الأوائل في المدافن أو الكهوف أو المغاور بعيداً من أعين الرومان وخوفاً من اضطهادهم، ونستطيع أن نقول إن هذه الكهوف كانت من أقدم كنائس المنطقة لكنها ليست الأقدم، لأن القول بأقدم كنيسة يجب أن يعود لأورشليم بالتأكيد مثل علية صهيون، ومكان العشاء السري، والمكان الذي اجتمع فيه الرسل ومريم العذراء، وقد تكون هي الكنائس الأولى”.
كنيسة “أم الزنار” في مدينة حمص السورية
هدم وبناء واكتشاف
وتعود هذه الكهوف بحسب وثائق كتبت باللغة الكرشونية (كتابة سريانية كانت مستعملة لنسخ النصوص العربية) إلى عام 59 ميلادية، إذ كانت الكنيسة التي أطلق عليها بداية كنيسة “السيدة العذراء” تتسع لـ30 مصلياً، ولكن بعد إصدار “مرسوم ميلانو” عام 313، إذ أعلن حياد الإمبراطورية الرومانية بشؤون العبادة، مما أزال العقبات أمام الممارسات الدينية للمسيحية والديانات الأخرى، أوضح المطران الخوري “بعد المرسوم عمرت الكنيسة فوق الكهف، وكانت تحتاج دائماً إلى الصيانة بعد تعرضها لانهيارات متعددة والحاجة إلى تدعيمها أو إعادة البناء، إلى أن حصلوا على فرمان 1852 لبناء الكنيسة الحالية التي وسعت عبر مراحل متعددة إلى أن وصلت إلى الشكل والحجم اللذين هي عليهما اليوم”.
وتابع المطران “عند هدم آخر بناء للكنيسة وجدوا الزنار في داخله، إذ كانت تعرف الكنيسة بالزنار لكن لم يكن لديهم معرفة أين هو هذا الزنار”.
تعرضت الكنيسة أثناء الحرب السورية للتخريب والحرق والتدمير
وتقول الوثائق “اكتشف زنار السيدة العذراء يوم الـ20 من يوليو (تموز) 1953 على يد البطريرك إغناطيوس أفرام الأول برصوم في كاتدرائية السيدة العذراء أم الزنار التي كانت مقراً للبطريركية حتى عام 1959، ووصف تفاصيل اكتشاف الزنار من خلال بيان أصدره عقب الاكتشاف ذكر فيه أنه في أواسط شهر أبريل (نيسان) 1953، لما كنا نتصفح بعض المخطوطات رأينا كتاباً كرشونياً يتضمن قصصاً ومواعظ ظهر لنا أنه مجلد بأوراق عدة كدس بعضها فوق بعض، ولما فتحنا جلد الكتاب وجدناه مؤلفاً من 46 رسالة بالكرشوني والعربي تخص أبرشية حمص وتوابعها مكتوبة منذ حوالى 100 سنة، وإحداها كرشونية طولها 28 سنتيمتراً وعرضها 20 سنتيمتراً كتبها عام 1952 وجهاء أبرشية سوريا، ذكروا فيها أنهم حينما هدموا كنيستهم المسماة باسم سيدتنا العذراء أم الزنار في حمص بغية توسيعها وتجديد بنائها لقدمه وصغرها وتسقيفها بالخشب، بأمر مطران أبرشيتهم بطرس الموصلي، وجدوا زنار السيدة العذراء موضوعاً في وعاء وسط مائدة التقديس في المذبح”، وهذا ما ورد أيضاً في بعض مذكرات أحد القساوسة ويدعى يوسف نقلاً عن والدته “أنهم وجدوا الزنار المقدس في كنيسة السيدة بحمص ضمن قنينة بلور في جرن صغير ووضعوه في المذبح الأوسط ضمن مائدة التقديس”.
قصة الزنار
تظهر دراسة النسيج والألبسة في العهد الروماني أن الشرقيين كانوا يتمنطقون بزنانير من أنواع مختلفة، ومن الأمثلة على ذلك جذع بازلتي لامرأة من ذلك العهد متمنطقة بزنار يماثل زنار السيدة العذراء، وهو محفوظ في متحف السويداء جنوب سوريا. ولكن كيف وصل زنار السيدة العذراء إلى هذا المكان، هنا تجيب وثائق البطريركية على هذا السؤال بالعودة لمجموعة وثائق كنسية تقول “إن العذراء أسلمت روحها الطاهرة نحو الساعة التاسعة بحضور التلاميذ القديسين الذين حضروا ما عدا توما الرسول الذي كان في الهند، ثم كفنوها ووضعوها في تابوت وخرجوا ليدفنوا الجسد، وفي أثناء طريقهم للقبر هجم عليهم اليهود، ولكنهم استكملوا الطريق حتى وصلوا إلى القبر ودفنوا الجسد بإكرام جزيل وكانت بلغت الـ70 من عمرها، وبعد وفاتها بثلاثة أيام حمل الملائكة جسدها الطاهر إلى السماء عام 56 للميلاد، ورأى القديس توما هذا الصعود وطلب من العذراء علامة ليبرهن بها لأخوته عن حقيقة صعود جسدها للسماء فأعطته زنارها، وبعد عودته لفلسطين طلب أن يرى الجسد بنفسه، فذهبوا معه ولما كشفوا القبر لم يجدوا الجسد فحزن التلاميذ وظنوا أن اليهود أتوا وسرقوه، ولكنه طمأنهم وقال إني رأيت جسد العذراء الطاهرة محمولاً بين أيدي الملائكة، وطلبت منها علامة فأعطتني زنارها الشريف”.
تضيف الوثائق “أن القديس توما أخذ الزنار معه عند رجوعه مرة ثانية إلى الهند، وصحبه في الأماكن التي بشر فيها حتى وفاته، فحفظ الزنار مع رفاة هذا القديس طوال أربعة قرون، ثم في أواخر القرن الرابع للميلاد في 394 عام نقل هذا الزنار المقدس من الهند إلى الرها مروراً بالموصل مع رفاة القديس مار توما، ثم نقل الزنار وحده إلى كنيسة العذراء في حمص عام 476، حيث إن راهباً يدعى الأب داود الطورعبديني حل في كنيسة العذراء بحمص ومعه رفاة الشهيد مار باسوس، وكان معه أيضاً زنار العذراء المقدس. ودل إلى ذلك أنه عند اكتشاف الزنار كانت معه بعض عظام هي رفاة مار باسوس، وخلع الزنار المقدس اسمه على كنيسة العذراء فأصبحت تعرف منذ ذلك العهد باسم كنيسة الزنار أو كنيسة أم الزنار”.