حرية – (8/6/2024)
كان ألبرت أينشتاين يلم أعقاب السجائر من الشارع للحصول على التبغ لغليونه. وقضى هوارد هيوز أياماً كاملة على كرسي في وسط الغرفة التي يفترض أنها خالية من الجراثيم، في جناحه في فندق بيفرلي هيلز، وكان الملحن روبرت شومان يعتقد أن مؤلفاته الموسيقية أملاها عليه بيتهوفن وغيره من الموسيقيين المتوفين من مقابرهم، ويقال إن تشارلز ديكنز كان يبعد عن نفسه قنافذ وهمية بمظلته أثناء سيره في شوارع لندن.
بينت الدراسات التي أجراها الباحث ميهالي سيكزينتميهالي في بحث بعنوان “حول إبداعات 91 شخصية بارزة” أن المبدعين يتمتعون بقدر كبير من الطاقة الجسدية، لكنهم غالباً هادئون وفي حال انتباه وتركيز، ومعظمهم يعمل لساعات طويلة في حالة من الحماسة والشعور بالامتلاء، على أن الأفراد المبدعين يتميزون بقدرتهم على التكيف مع أي موقف بالأدوات القليلة المتوافرة، ويظهرون صبراً فطرياً على التعقيدات والمشكلات.
صورة شهيرة لإنشتاين بأطواره الغريبة
في حقبات بحثية مختلفة ساد الاعتقاد أن هذه الطاقة الجسدية والتفكيرية هي ميزة وراثية، ولكن بعد تطور علوم الدماغ تبين أن يتألف من قليل من الوراثة وكثير من التركيز وإعمال التفكير والجهد المستمر كي ينتج شخصاً مبدعاً.
في قصص منقولة من عصر النهضة الأوروبي أنه عندما كان رسام عصر النهضة باولو أوتشيلو يعمل على وضع قوانين المنظور البصري، كان يمشي ذهاباً وإياباً طوال الليل ويتمتم لنفسه “يا لجمال هذا المنظور الذي يخطر لي”، أما محاولات أسرته لإعادته إلى النوم فكانت تبوء بالفشل دائماً.
فرط النشاط لدى المبدع لا يعني بالضرورة حركته الجسدية ولو أنها في حالات كثيرة بينت مركزيتها، لكنه قد يكون نشاطاً تفكيرياً، وفي الحالتين يجعل هذا النشاط المبدعين محبين للنوم أيضاً والاسترخاء والابتعاد عن الضجيج والمناسبات الاجتماعية التي تجبرهم على مراعاة الآخرين. فالأنواع الإبداعية تحتاج إلى إعادة شحن بطارياتها دائماً، لذا يتكرس إيقاع قائم على النشاط، متبوعا بالكسل أو التفكير. ويقال إن المبدعين لديهم جرعة قوية من الإيروس أو الطاقة الجنسية كوسيلة للتخلص من طاقتهم، ولكن هذا لا يعني أنهم يمارسون هذا النشاط بتهور، بل على العكس بتقشف، وأحياناً يكون تقشفاً شديداً. فبلا إيروس سيكون من الصعب الاستمرار في الحياة، وبلا ضبط النفس يمكن أن تتبدد الطاقة بسهولة.
هل الإبداع يحتاج إلى الذكاء
الذكاء ليس ضرورياً للإبداع، بل إن أصحاب الذكاء الحاد ينتجون أعمالاً إبداعية، ولكن ليس بالضرورة أن يكون المبدع شخصاً ذكياً أكثر بكثير من الآخرين، بل ويميل المبدعون إلى الذكاء والسذاجة في الوقت نفسه.
الموسيقي بيتهوفن
أظهرت أول دراسة شاملة للقدرات العقلية المتفوقة التي بدأها عالم النفس لويس تيرمان في جامعة ستانفورد في عام 1921، أن الأطفال أصحاب معدل الذكاء المرتفع للغاية يؤدون واجباتهم في الحياة على أكمل وجه، ولكن في مرحلة عمرية معينة لا يعود معدل الذكاء مرتبطاً بالأداء المتفوق في الحياة الواقعية، بل قد يحصل العكس تماماً. تسمى هذه الجدلية، الأقطاب المتناقضة للحكمة والطفولية. ولاحظ هوارد جاردنر في دراسته للعباقرة المبدعين الرئيسين في القرن الـ20 أن عدم النضج العاطفي والعقلي في الطفولة يمكن أن يسير جنباً إلى جنب، مع تنمية قدرات رؤيوية، ويتناوب المبدعون في العيش بين الخيال الواسع والشعور المتجذر بالواقع. والفن العظيم والعلوم العظيمة تعتمد في اكتشافها وإبرازها على قفزات في الخيال، بعيداً من الواقع، ولهذا تنظر بقية المجتمع إلى الأفكار العبقرية على أنها غريبة الأطوار ومجنونة. وفي القرون الوسطى اتهم عالم الفلك غاليليو بالتجديف لأنه اعتبر أن الشمس مركز الكون المعروف وليس كوكب الأرض، وهناك علماء وضعوا في المصحات العقلية في مراحل معينة، لكن منذ انطلاق الثورة الصناعية في القرن الـ18 صارت غرابة الأطوار والأفكار أمراً يحتفى به. أما خلال القرن الـ20 فباتت الفنون والدعاية والإعلان والموسيقى والرسم والأزياء في حاجة إلى أن تكون غريبة الأطوار، وإلا عدت غير مجددة ولا مبدعة. ويفترض معظمنا أن الفنانين من الموسيقيين والكتاب والشعراء والرسامين هم أصحاب الخيال الغزير، أما علماء الرياضيات والفيزياء والسياسيون ورجال الأعمال فهم واقعيون، إلا أن الأبحاث أظهرت غير ذلك.
شخصية المبدع المتناقضة
يمتلك المبدعون صفات متناقضة في كثير من الحالات، فهم منفتحون وانطوائيون في آن واحد، ومتواضعون وفخورون في الوقت نفسه، فالمبدعون يقفون على تعبير نيوتن “على أكتاف العمالقة” في السلسلة الطويلة من المساهمات السابقة في مجالاتهم. أما من الناحية الجندرية فهم يخرجون عن القوالب النمطية الجامدة لدور الجنسين. فالفتيات المبدعات والموهوبات أكثر هيمنة وصرامة من الفتيات الأخريات، بينما يكون الفتية المبدعون أكثر حساسية وأقل عدوانية من أقرانهم الذكور، بما يسمى في علم النفس “الخنوثة النفسية” التي تشير إلى قدرة الشخص على أن يكون عدوانياً ومراعياً وحساساً وجامداً ومهيمناً وخاضعاً.
الرسام سلفادور دالي
يبدو أن حدوث سلوك غريب من قبل أفراد مبدعين للغاية واسع جداً، إذ لا يكون نتيجة لمجرد صدفة. كان أرسطو أيضاً أول من لاحظ العلاقة بين الإبداع والاكتئاب، وهو ارتباط أثبت من خلال الأبحاث الحديثة. قبل أكثر من قرن من الزمان فهرس عالم الجريمة الإيطالي سيزار لومبروزو السلوك الغريب للنجوم المبدعين في كتابه “رجل العبقرية”، وعزا هذا السلوك إلى “الانحطاط” الوراثي نفسه الذي ميز المجرمين العنيفين.
مبدعون كثر يمكن أن تظهر عليهم صفات الشخصية الفصامية، وتحديداً في تصديق التجارب الماوارائية والخرافية والتفكير السحري أو المشاعر الحقيقية المرضية، مثل اعتقاد الموسيقار شومان أن بيتهوفن لقنه الموسيقى من قبره. والتعلق بالتجارب الإدراكية غير العادية مثل اعتقاد ديكنز أن شخصيات من رواياته كانت تلاحقه. وهناك بالتأكيد الإصابة بجنون العظمة المعتدل ويقوم على مشاعر الشك بكل شيء يقع خارجنا، من الأصدقاء إلى الجراثيم. وتحدد الشخصية الفصامية بين المبدعين، من أنماط أو موضوعات كلامهم الخارجة عن المألوف، ومن استجابتهم بصورة غير كفؤة في المواقف الاجتماعية. وهم يؤمنون بظواهر خارقة للطبيعة مثل التخاطر والإشارات من الطبيعة، من غير تحديد معناها أو مصدرها واعتبارها رسائل موجهة من قوى ما فوق طبيعية.
اليقظة المفرطة لدى المبدعين قد تكون نتيجة للقلق والصدمة، وتؤدي بدورها إلى تفاقم أعراض القلق أو لعلها تسببها، جراء قضاء كثير من الوقت في التركيز على القلق الاجتماعي، لأنه غالباً ما يلاحظ أن الناس ينظرون إليه بطريقة مختلفة أو مستغربة، ويخشون أن يحكم عليهم. هذا يمكن أن يؤدي إلى الإرهاق وإلى مشاعر القلق والتوتر، مما يجعل الفنان المبدع أو الكاتب المنصرف إلى أفكاره وعوالمه، معزولاً ومنسحباً بصورة متزايد، فيعاني نوبات الغضب الشديد وغير المبرر، مما يضخم عزلته التي يجد لها ما يبررها، كصورة من صور الحماية الذاتية، فيتجنب الوصول إلى أي فرص جديدة، سواء كانت إيجابية أو سلبية. ويؤدي قضاء كثير من الوقت في عزلة والتركيز على النتائج السلبية المحتملة للتجارب، إلى تفاقم حالات الصحة العقلية مثل القلق العالي واضطراب الوسواس القهري.
ومع ذلك ليس جميع غريبي الأطوار مبدعين، بل يجب أن تتوافر صور معرفية أخرى مثل ارتفاع معدل الذكاء وسعة الذاكرة العاملة ومعالجة المعلومات الإضافية.
المبدع وتصديق الظواهر الغريبة
كتبت سيلفيا نصار عام 1998 روايتها “عقل جميل” عن الفائز بجائزة نوبل والمصاب بمرض انفصام الشخصية، جون فوربس ناش، وقد نالت الرواية شهرة عالمية بعد تحويلها إلى فيلم نال جوائز أوسكار عدة، من بطولة راسل كرو. وعندما سئل العالم ناش عن سبب تصديقه أن أشخاصاً من الفضاء الخارجي يتصلون به، أجاب “لأن الأفكار التي كانت لديّ عن الكائنات الخارقة للطبيعة جاءت إليّ بالطريقة نفسها التي جاءت بها أفكاري الرياضية. لذلك أخذتها على محمل الجد”. وتوضح حالة ناش كيف أن الآلية المعرفية للحظة الاكتشاف أو نزول الإلهام وتسمى “يوريكا” في اليونانية القديمة، تشبه التجربة الوهمية المسماة إدخال الفكر، إذ يعتقد الأفراد الذين يعانون الذهان أن القوى الخارجية قد وضعت أفكاراً في أدمغتهم.
ويميل المبدعون إلى التركيز بصورة مكثفة على محتوى عالمهم الداخلي على حساب الحاجات الاجتماعية أو حتى حاجات الرعاية الذاتية. فبيتهوفن، على سبيل المثال، واجه صعوبة في الاعتناء بنظافته، بسبب زحمة الأفكار وتركيز الانتباه على كونه الداخلي، الذي يظهر صوراً ومعلومات للرائي لا يمكنه التخلي عنها ببساطة.
وجد بحث أجري في جامعة هارفرد أن المشاركين في الدراسة الذين يسجلون درجات عالية في مقياس الإنجاز الإبداعي في الفنون، هم أكثر عرضة لتأييد التفكير السحري، مثل الإيمان بالتواصل من بعد، وبالأحلام التي تنذر بالمستقبل، وغير ذلك من تجارب إدراكية غير عادية مثل التكرار، ورؤية ما سبقت رؤيته، وسماع همس أصوات لا يعرف مصدرها. على سبيل المثال عانى فان غوخ من اضطراب المزاج خلال معظم حياته القصيرة البالغة 37 سنة، وخلال العام ونصف العام من آخر حياته عانى نوبات شديدة من الهوس الذهاني والاكتئاب، لكنه أنتج أيضاً أكثر من 300 لوحة من أهم لوحاته. وعانت سيلفيا بلاث التي توفيت أيضاً منتحرة عن 31 سنة اضطراباً مزاجياً حاداً، معظم حياتها. وعلى رغم أنها ربما كانت مكتئبة وقت وفاتها فإنها في هذه الفترة عملت في وقت متأخر من الليل واستيقظت في الصباح الباكر وكتبت بصورة مكثفة شعراً يقوم على روح الدعابة الساخرة والجافة، مما يشير إلى فترات متقطعة من حالة الهوس أو الهوس الخفيف، بحسب دارسي حالتها من علماء النفس. وعانى مارتن لوثر فترات يأس شديد، ولكن أيضاً فترات من الطاقة العالية للغاية، بعد أن أطلقت أطروحاته الـ95 الإصلاح بصورة غير متوقعة، فكرس طاقة هائلة لكتابة المنشورات اللاهوتية للدفاع عن موقفه. وإرنست همنغواي وونستون تشرشل ووثيودور روزفلت وغيرهم عانوا أيضاً اضطراب المزاج الحاد، وكذلك الفصام الثنائي القطب المعتدل.