حرية – (8/6/2024)
في كتابها الجديد “في الريشة والأجنحة” (منشورات نساء/ أنطوانيت فوك- باريس 2024) تحاول الكاتبة الفرنسية إيللا بالايرت الإجابة عن التساؤلات التي ترتبط بالأسباب التي تدفع فيلسوفاً أو روائياً مهماً من طينة هنري بايل للتخفي في رائعته “الأحمر والأسود” وراء اسم ستندال. أو تلك التي تدفع بأديبة وروائية وامرأة جميلة تدعى أمانتين أورور لوسيل دوبان دو فرانكوي إلى التنكر بزي الرجال واختيار اسم ذكوري هو جورج صاند لتوقيع كتبها، من دون أن تنسى الأسماء العديدة التي احتجب وراءها الأديب والدبلوماسي والروائي الروسي الفرنسي رومان غاري أو إميل آجار أو رومان كاتسيف أو بول بافلوفيتش الذي تخصه إيللا بالايرت في كتابها بفصول مطولة… إلخ. فما الأسباب والدوافع التي تقف وراء إخفاء بعض الكتاب هوياتهم الحقيقية وانتحال اسم مستعار؟
بالنسبة إلى بالايرت ولغيرها من الذين تفكروا في هذه المسألة عديدة هي الأسباب التي تدفع كاتباً إلى إخفاء هويته وتوقيع كتاباته بأسماء وهمية. ففي القرن الـ17، نشر أدريان باييه (1649-1706) وهو كاهن وأمين مكتبة أحد كبار القضاة والمثقفين في عصره، قاموساً للأسماء المستعارة عدد فيه 14 سبباً تحمل أحدهم على الاختباء خلف اسم غير اسمه. أول هذه الأسباب الحذر والخوف من الانكشاف والقمع السياسي، والهوس بإخفاء حقيقة ميلاد بائس أو حمل اسم شائن، أو الرغبة في النميمة بعيداً من العقاب، أو الإلحاد والترويج للرذيلة، أو التواضع وغيرها من الدوافع التي تستعيدها بالايرت مضيفة إليها أسباباً أخرى تعدها أساسية، وعلى رأسها الضرورة وغريزة البقاء وحرية اختبار أنواع أدبية وأساليب فنية مختلفة.
كتاب “في الريشة والأجنحة”
تقول المؤلفة إن كثيراً من الدوافع التي تحدث عنها باييه لا تزال موجودة. غير أن تقدم المعارف والتغيرات الاجتماعية والنفسية والأنثروبولوجية أظهرت أبعاداً جديدة تدفع بالكاتب إلى التنكر باسم مستعار وبناء هوية ومكانة اجتماعية جديدة، علماً أن بعض الكتاب كفرناندو بيسوا لم يكتف باسم مستعار واحد، بل لجأ إلى الكتابة بـ72 اسماً، خالقاً لكل من هذه الأسماء شخصية مميزة وسيرة حياتية كاملة، وكذلك فعل الفيلسوف الدنماركي كيركغور.
التحرر من الإسم
ولكن هل يمكن للإنسان فعلاً التحرر من عائلته وهويته وبناء كينونة جديدة؟ ما الهوية؟ وما الذي نعرفه حقاً عن الأشخاص الذين نقرأ كتاباتهم؟ عن هذه التساؤلات بالذات تحاول بالايرت الإجابة من خلال دراسة سير الروائيين موضوع الكتاب وعلى رأسهم رومان غاري أو بالأحرى إميل آجار، الذي نشر عام 1976 رواية بعنوان “بسودو” أي زائف أو مستعار بعد سنة واحدة من فوزه للمرة الثانية بجائزة غونكور عن رواية “الحياة أمامك”.
تذكرنا إيللا بالايرت بتفاصيل هذه الخدعة الهائلة التي لجأ إليها رومان غاري أو رومان كاتسيف ليروي لنا سيرة ذاتية زائفة لبول بافلوفيتش، ابن شقيقته، الذي جعله يتظاهر بأنه إميل آجار في محاولة منه لإسكات الأصوات والتكهنات العديدة التي دارت حول هوية كاتب السيرة. ولعل الاسم المستعار يكشف عن بعض الأسباب الوجودية التي تحمل الكاتب على جعل الآخرين يكونون فكرة مغايرة عن حقيقته، رغبة منه في حماية نفسه أو في البحث عن مكانة عائلية أو موضع له تحت الشمس، أو تلبية لعوامل نفسية لا يدركها هو نفسه لارتباطها باللاوعي.
الكاتبة الفرنسية إيللا بالايرت
في هذا السياق، ترصد إيللا بالايرت حالات راهنة، فتتحدث عن الروائية الفرنسية المعاصرة دلفين دو فيغان المولودة عام 1966 التي بدأت مسيرتها الأدبية باسم مستعار هو لو ديلفيغ، ذيلت به أول رواية لها “أيام بلا جوع” (2001) التي وصفتها بالخيالية الذاتية. تحكي هذه الرواية قصة صراع شابة مع مرض فقدان الشهية العصبي واضطراب الأكل والخوف الزائد من اكتساب الوزن. لكنها أعادت أخيراً نشرها باسمها الحقيقي. كما تتحدث عن أنطوان سينانك وهو الاسم المستعار لطبيب أعصاب حاول الفصل بين عمله وموهبته الأدبية، وإريك إميل ليونس آرنو أو إريك أورسينا السياسي المولود عام 1947، الذي عمل أستاذاً في مجال التمويل الدولي واقتصادات التنمية وخبيراً اقتصادياً في وزارة التعاون ومجلس شورى الدولة وكلف بعديد من المهام السياسية والمناصب الحكومية وكتب معظم خطب الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران بوصفه مستشاراً لقصر الإليزيه، ناشراً باسمه الحقيقي عام 1977 دراسة علمية لافتة تناولت موضوع التقلبات المالية واختلال موازين النقد. غير أن المفاجأة الكبرى كانت حين نشر باسم إريك أورسينا روايات رائعة، فاز عن إحداها بجائزة غونكور عام 1988. هذه الكنية المستعارة استلها آرنو من رواية “شط سرت” للأديب الفرنسي جوليان غراك.
الهوية الحقيقية
وفي تقصيها عن الأسباب التي تحمل كاتباً على إخفاء اسمه وهويته الحقيقية، تعرج بالايرت على تجربة الروائي الفرنسي الشاب ناتان دوفير الذي اختار اسم الشهرة هذا، ويعني “من” و”إلى”، بحثاً عن هوية تعبر عن ذاته وعن حبه في أن يكون الشخص الذي يتقدم “من” مكان “إلى” آخر، مؤكداً ببساطة أنه لا يحب وقع اسمه الحقيقي “نقاش”. وتتوقف كذلك أمام تجربة الروائية الفرنسية فرنسواز ساغان (1935-2004) التي بدأت الكتابة بعمر 19 سنة، ناشرة عام 1959 روايتها الأولى “صباح الخير أيها الحزن”. غير أن هذه الأديبة المولودة فرانسواز كواريز اختارت، تجنباً للصراع مع عائلتها، أن تذيل كتاباتها باسم ساغان وهو اسم أحد شخوص رواية مارسيل بروست “البحث عن الزمن الضائع”. أما قصة أندريه ماكين، الروائي الروسي الفرنسي المولود في سيبيريا والفائز بجائزة غونكور عن روايته “الوصية الفرنسية” عام 1995 مع الاسم المستعار، فلها طعم آخر. تروي بالايرت أن ماكين حاول كثيراً من دون جدوى نشر أولى رواياته التي رفضتها معظم دور النشر. فلجأ إلى حيلة بسيطة، كأن جعل الناس يعتقدون أن رواياته الأولى التي وضعها تواً باللغة الفرنسية مترجمة عن الروسية، ناشراً مجموعة من المؤلفات باسم غابرييل أوزموند…
تقول إيللا بالايرت إن تاريخ الأسماء المستعارة قديم قدم تاريخ الأدب نفسه. لعله مرآة تعكس فترة زمنية معينة، لجأت النساء الكاتبات خلالها إلى التخفي وراء أسماء أزواجهن لتتمكن من الولوج إلى عالم يسيطر عليه الرجال. فنراها تتحدث عن هنري غوتييه ڤيلار، المعروف بالوسط الأدبي والموسيقي باسمه المستعار “ويللي”، زوج كوليت الأول التي نشر باسمه سلسلة روايات “كلودين” التي أحبها القراء وتابعوا مغامراتها بشغف والتي نجحت الأديبة في ما بعد بانتزاع اعتراف منه بأنها هي التي كتبتها.
ليست كوليت الأديبة الوحيدة التي اضطرتها ظروفها إلى التخفي كي تستطيع اقتحام عوالم النشر. يكفي أن نستحضر الأخوات برونتي، شارلوت وإميلي وآن، اللاتي اضطررن لنشر قصائدهن ورواياتهن إلى التخفي تحت أسماء ذكورية هي كورير وإليس وأكتون بيل خوفاً من ألا تؤخذ مؤلفاتهن على محمل الجد. وهناك أيضاً الشاعرة والروائية والصحافية والمترجمة الإنجليزية ماري آن إيفانز التي اختارت أن تنشر رواياتها تحت اسم جورج إليوت، تجنباً لتصنيف كتاباتها في خانة الروايات الرومانسية الخفيفة.
وإن تنسى إيللا بالايرت فلا تنسى الحديث عن أول امرأة دخلت الأكاديمية الفرنسية، مارغريت يورسنار أو مارغريت كلينفرك دو كريانكور التي اختارت اسمها المستعار من طريق لعبة الجمع بين الحروف، وجورج صاند وكثيرات غيرهن.
يحكي الكتاب كذلك قصة حياة الكاتبة نفسها التي وقعت على مدى 30 سنة كتاباتها باسم مستعار.
يبقى في النهاية أن أهمية كتاب إيللا بالايرت “في الريشة والأجنحة” لا تنحصر في الإضاءة على مسألة الاسم المستعار في الأدب، فهو مليء بالمعلومات التاريخية والتحليلات والاعترافات الذاتية التي تجعل من مطالعته متعة حقيقية.