حرية – (8/6/2024)
مع التغيرات الكبيرة في سوق العمل عالمياً، أصبح نموذج العمل المستقل “فري لانس” ظاهرة يتسارع انتشارها بخاصة في مصر، إذ بات كثير من الشباب يفضلون عدم الارتباط بشركة محددة والعمل في المكان والزمان وفي المقابل المناسب لهم، لكن ذلك التحول لا يخلو من تحديات لا تجعل الصورة وردية دائماً. كذلك يتجه عدد متزايد من الشركات نحو الاعتماد على الـ”فري لانسرز” لإنجاز الأعمال باعتبارهم أقل كلفة من الموظفين المعينين.
محمد عبدالعليم (30 سنة) يعمل في التسويق الإلكتروني لمصلحة إحدى الشركات السعودية من منزله في القاهرة بعد أعوام من تركه مهنته الأساسية (المحاماة) التي كان عائدها زهيداً. يقول عبدالعليم إنه تعلم التسويق الإلكتروني عبر دورات “أونلاين”، ثم عمل في شركة لمدة عامين وجد خلالها فرصاً للعمل “فري لانسر”، ومع تزايد العروض وجد أنه ينفق كثيراً على الانتقال من منزله في شارع فيصل بمحافظة الجيزة إلى حي مدينة نصر بالقاهرة، كما أن تحسين قدراته في المجال وعرض خبراته بصورة جيدة على منصة “لينكد إن” منحته عروضاً عدة للعمل كـ”فري لانسر”، منها الشركة السعودية التي يتعامل معها حالياً مما دفعه للاستقالة من شركته السابقة قبل عامين والتفرغ للعمل المستقل.
يشعر الـ”فري لانسر” بأنه في سباق مع الزمن على عكس الأمان الذي ينعم به موظفو الشركات
لا يخفي عبدالعليم ارتياحه للعمل في مواعيد مرنة وحريته في الانتقال والعمل من أي مكان، فهو لا يحتاج سوى حاسبه المحمول واتصال جيد بالإنترنت، لكنه يؤكد أن الأمر ليس سهلاً كما يبدو لأول وهلة، لأن عدم تنفيذ العمل المطلوب (التارغت) يعني أن الشركة لن تحول المبلغ المتفق عليه، فالمحاسبة المالية تتم “بالقطعة”، مما يجعله دائماً يشعر بأنه في سباق مع الزمن، على عكس الأمان الوظيفي الذي كان يشعر به في شركته السابقة، وإن كان راتبها لا يقارن بما يحصل عليه حالياً إذا استطاع إنجاز ما يطلب منه في الأوقات المحددة، ونظراً إلى الالتزامات المادية ومتطلبات أسرته سيكون انخفاض الدخل في أحد الأشهر سيناريو لا يمكن تحمله.
سعياً إلى الحرية
نموذج العمل المستقل زادت شعبيته في الأعوام الثلاثة الأخيرة في أعقاب جائحة كورونا، التي أجبرت عدداً من الشركات على تسريح جانب من العمالة، أو اتباع أسلوب العمل من المنزل. وبحسب استبيان بعنوان “العمل الحر في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا 2021” أعده موقع “بيت. كوم” للتوظيف، فإن 55 في المئة من المهنيين الذين شملهم الاستطلاع لجؤوا إلى العمل الحر بهدف تحقيق مكسب إضافي، فيما رأى 24 في المئة منهم فيه فرصة لتعلم مهارات جديدة، و11 في المئة ذكروا أن الرغبة في القيام بالمهمات التي يفضلونها دفعتهم لاتجاه العمل الحر، و7 في المئة اعتبروا أن القدرة على التحكم بجدول عملهم هي السبب الرئيس.
وحول أكثر ما يفضلونه في العمل الحر، أجاب نصف المستطلعين بأنه استكشاف مزيد من الفرص الوظيفية، فيما اختار 22 في المئة التوازن بين الحياة المهنية والشخصية، كما لفت 5 في المئة إلى أنهم خفضوا بالعمل الحر مستويات التوتر وحسنوا من حالهم الصحية.
يؤكد ذلك المبرمج أحمد وجدي (32 سنة)، الذي يؤكد أن ما كان يحصله من دخل في شركته السابقة لا يقل كثيراً عما يجمعه الآن من العمل بصورة مستقلة في مشاريع لشركات داخل أو خارج مصر، موضحاً أنه الآن يعمل وفق المشروع الذي ما إن يتم إنجازه يتقاضى في مقابله المادي وتنتهي علاقته بالشركة إلا إذا طلبوا منه مشروعاً آخر، لكنه يشعر براحة أكبر حالياً بعدما تخلص من مواعيد العمل الثابتة لمصلحة أوقات أكثر مرونة، ويستغل ذلك الوقت في تدريبات رياضية أحياناً وممارسة هواية العزف على “الدرامز”، كما يسافر خارج مصر مرة سنوياً، وكثيراً ما يسافر إلى مدينة “دهب” جنوب سيناء للعمل من هناك.
نموذج العمل المستقل زادت شعبيته في الأعوام الثلاثة الأخيرة في أعقاب جائحة كورونا
يوضح وجدي أن الشركات أصبحت أكثر انفتاحاً في الاعتماد على الـ”فري لانس” في السنتين الأخيرتين، حتى إن بعض الشركات أصبحت لا تعين موظفين بدوام كامل إلا عند الحاجة القصوى.
وبحسب استطلاع موقع “بيت. كوم” فإن 47 في المئة من شركات العينة التي تم استطلاع آرائها يتعاملون مع الـ”فري لانسرز”، في حين قال 17 في المئة فقط إن شركتهم لا تستعين بالمهنيين المستقلين.
مجالات كثيرة
بحسب استشاري الموارد البشرية أحمد ناجي الدخميسي، فإن اتجاه الشركات للاعتماد على الـ”فري لانس” بدأ منذ جائحة كورونا، وعزا ذلك الاتجاه إلى أن موجة تسريح العمالة خلفت عاملين أصحاب خبرات كبيرة قد تستفيد منهم أية شركة، كما ساعد وجود منصات إلكترونية مثل “لينكد إن” على عرض العاملين خدماتهم.
وحول أكثر المجالات التي زاد فيها الاعتماد على الـ”فري لانسرز”، قال الدخميسي إن منها الموارد البشرية والتوظيف والمحاسبة والتسويق الإلكتروني وتحليل البيانات والبرمجة. وفي شأن ما إذا كان غياب بيئة العمل الجماعي يؤثر في الإنتاجية، أوضح استشاري الموارد البشرية أن الشركات تختار العاملين وفق ثلاثة معايير هي المعرفة والمهارات والسلوك، ويمكن من خلالها معرفة ما إذا كان العمل في بيئة عمل جماعية تؤثر في إنتاجية العامل أم أنه سيتمكن من إنجاز العمل في منزله.
55 في المئة من المهنيين لجؤوا إلى العمل الحر بهدف تحقيق مكسب إضافي، وفق استطلاع رأي
العلاقة الحرة بين صاحب العمل ومقدم الخدمة جعلت كثيراً من الـ”فري لانسرز” غير مقيدين رسمياً على أنهم عاملون، مما أثار قضية المحاسبة الضريبية لهم، بخاصة أن كثيراً منهم يتعامل مع شركات خارج مصر ويتقاضى أمواله بالدولار.
المحاسبة الضريبية
يؤكد الدخميسي أن القانون لم يغفل المحاسبة الضريبية للعاملين بنظام العمل الحر، مشيراً إلى أن الشركات تطلب من الـ”فري لانسر” قبل العمل تقديم فاتورة ضريبية، كي تستطيع الشركة إثباتها لاحقاً في المحاسبة الضريبية.
وكانت مصلحة الضرائب المصرية أصدرت العام الماضي تنبيهاً أن من يزاول مهنة عبر الإنترنت أو عملاً حراً “فري لانس” تنطبق عليه الأحكام الخاصة بالمهن غير التجارية التي تنص على خصم 10 في المئة من إجمالي الإيرادات، ودعت هؤلاء للتسجيل بضريبة الدخل في المصلحة، أما في الحالات التي ترتبط فيها المهنة بمنتج ملموس أو غير ملموس يتم بيعه مثل “تصميم وبيع برامج موبايل أو كمبيوتر”، فتخضع الإيرادات لضريبة القيمة المضافة (14 في المئة).
لكن على رغم المناشدة الرسمية، يؤكد المتخصص في الاقتصاد أحمد معطي، أن معظم من يعملون عملاً حراً لم يبادروا بتسجيل أنفسهم في مصلحة الضرائب، وينتظرون التواصل معهم شخصياً للقيام بذلك عند رصد تحويلات مالية لهم من جانب الجهات الرسمية.
بعض الشركات أصبحت لا تعين موظفين بدوام كامل إلا عند الحاجة القصوى
وأضاف أن الدولة تستفيد من زيادة العمل الحر لأنه يوفر فرص عمل ويحد من البطالة كما أنه يدر عملة صعبة للبلاد، مؤكداً أنه يفضل في التعامل الضريبي مع أصحاب العمل الحر أن تغض الحكومة الطرف إلى حد ما مع أصحاب التحويلات الصغيرة التي لا تتجاوز 3 آلاف دولار شهرياً على سبيل المثال، والاكتفاء بمراقبة تلك التحويلات، وفي حال زيادتها عن ذلك يجب التواصل مع الشخص ومطالبته باتباع الإجراءات وفتح سجل تجاري وضريبي، بخاصة أن ذلك أصبح سهلاً ويتم عبر الإنترنت، لأن الضرائب حق للدولة.
وأكد أن تقنين عمل الـ”فري لانسرز” وجعلهم تحت مظلة الإجراءات الرسمية يحمي المتعاملين معهم من خطر الاحتيال، كما أن ذلك يؤهل العامل الحر للتعامل مع شركات كبيرة بدلاً من الاقتصار على الأفراد.
يرى معطي أن شركات كثيرة أصبحت تفضل التعامل مع الـ”فري لانسر”، لأنه أقل كلفة وأكثر إبداعاً باعتبار أن الموظف المعين أحياناً يشعر بأن مكانه محفوظ في الشركة مما يحد من إبداعه.
بحسب الاستبيان السابق، فإن الـ”فري لانسرز” يوفرون فوائد عدة للشركات، إذ ينجزون المهمات في مدة زمنية أقصر، وتوظيفهم أقل في الكلفة، كما يساعدون الأقسام الصغيرة في بعض الشركات.
اهتمام حكومي
يوجه المتخصص في الاقتصاد الانتباه إلى أن جهات الدولة المصرية تشجع نموذج العمل الحر من خلال بعض الدورات التدريبية بخاصة في مجال تكنولوجيا المعلومات والبرمجة.
لم يغفل القانون في مصر المحاسبة الضريبية للعاملين بنظام العمل الحر
وكان الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي سأل عند افتتاح أحد المشاريع عام 2017 شابة من المشاركين حول عملها فأجابت أنها تتعامل مع إحدى الشركات الأميركية العاملة في مجال الذكاء الاصطناعي وتحصل على 2000 دولار شهرياً، فبادر الرئيس بسؤال الشباب المشاركين عن حاجاتهم لتحسين عملهم وبعد ذلك بشهرين أطلق مبادرة “مبرمجي المستقبل” لتدريب طلبة المدارس على تكنولوجيا البرمجة، كما تم إطلاق مبادرة “مصر الرقمية” في سبتمبر (أيلول) 2020 تشمل مجالات الأمن السيبراني وعلم الروبوتات وعلوم البيانات والذكاء الاصطناعي وغيرها.
ولا توجد بيانات عن عدد العاملين بنظام العمل الحر في مصر. أما معدل البطالة في البلاد فبلغ 7.1 في المئة خلال الربع الأول من العام الحالي، في مقابل 7.2 في المئة خلال الربع الأخير من العام الماضي، بحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.