حرية – (12/6/2024)
حكم المسلمون معظم أنحاء شبه الجزيرة الإسبانية قروناً، ومن الطبيعي أن تحتفظ كل من إسبانيا والبرتغال إلى اليوم بأسماء المدن والبلدات العربية ومنها باجة وفاطيما في البرتغال وإشبيليا ومالاقا في إسبانيا.
4 آلاف كلمة برتغالية من أصول عربية
وخلصت الأبحاث إلى أن هناك أكثر من 4 آلاف كلمة برتغالية من أصول عربية، وأن هناك أيضاً عديداً من التعبيرات البرتغالية هي ترجمة حرفية لعبارات كان يستخدمها عرب الأندلس منها “الله أعلم”، و”إن شاء الله” التي تنطق “أوشالا”، علاوة على عدد من الكلمات البرتغالية ذات الأصل العربي منها “الزيت” و”سلطان” و”مطرقة” و”القفة” إلى غير ذلك من العبارات.
ولا غرابة أن تحمل بلدة تقع في قلب البرتغال اسم “فاطيما” ومدن أخرى أسماء عربية عدة شاهدة على الحضور العربي الإسلامي، والتلاقح الحضاري في الأندلس، وعلى التميز في التشييد والزخرفة والحصون العربية التي ما زالت حاضرة على رغم تغيير أسماء بعض المدن وتحويل المساجد إلى كنائس، إلا أنها لا تزال تحتفظ بالطابع المعماري الإسلامي وبالزخرفة العربية.
وفي بلدة فاطيما بوسط البرتغال تحتفل الكنيسة الكاثوليكية في الـ13 من مايو (أيار) من كل عام بما تصفه بذكرى تجلي السيدة مريم العذراء، ويتدفق على مزار فاطيما سنوياً ملايين الزوار من الحجاج الكاثوليك، من مختلف أنحاء العالم، مزار يكتنفه الغموض على رغم المسحة المقدسة، فهو مرادف للحج عند المسلمين.
ظهور العذراء مريم
وتشير دائرة المعارف البريطانية إلى رواية الفاتيكان التي تتحدث عن ظهور العذراء مريم سيدة فاطيما أمام ثلاثة أطفال رعاة هم لوسيا دوس سانتوس (9 سنوات) وفرانسيسكو وجاسينتا مارتو (6 و8 سنوات على التوالي) قرب قرية فاطيما في وسط البرتغال، على بعد نحو 113 كيلومتراً شمال شرقي العاصمة لشبونة في 1917.
اختلاف حول تسمية المزار بـ”فاطيما”
وبحسب الرواية الكاثوليكية فقد أبلغ الأطفال عن تجليات أخرى صاحبتها ما يصفه الفاتيكان بــ”المعجزات”، وتولي الكنيسة الكاثوليكية أهمية بالغة لما تقول إنها أسرار ثلاثة كشفت عنها مريم العذراء للأطفال، تشمل رؤية مرعبة للجحيم ونبوءة متعلقة بنهاية الحرب العالمية الأولى وبداية الحرب العالمية الثانية، وهناك سر ثالث فسر على أنه نبوءة أخرى لمحاولة اغتيال البابا يوحنا بولس الثاني في الـ13 من مايو 1981.
وتمضى الكنيسة تقول إن رؤى فاطيما هي “إيحاءات خاصة” هدفها هو “المساعدة على العيش بصورة أفضل” وفقاً لتعاليم المسيح، ويأتي الحجاج الكاثوليك إلى مزار فاطيما من بلدان بعيدة مثل الصين وفنزويلا وتيمور الشرقية.
وكانت أول رحلة حج إلى المزار في 1927، وفي عام 1928 بنيت عند المزار كنيسة يعتقد أنها أقيمت في المكان ذاته الذي تقول الكنيسة إنه شهد تجلي مريم العذراء مع برج يبلغ ارتفاعه 65 متراً ويعلوه تاج برونزي كبير وصليب بلوري.
وفي الـ13 من مايو 1967 وهو الذكرى الـ50 للرؤية الأولى، تجمع حشد من نحو مليون حاج في فاطيما للاستماع إلى البابا بولس السادس وهو يتلو قداساً ويصلي من أجل السلام.
روايات شتى حول التسمية
في الأثناء تختلف الروايات حول سر التسمية العربية “فاطيما”، إذ يعتقد البعض أن القرية سميت باسم ابنة النبي محمد فاطمة، أثناء الوجود الإسلامي في شبه الجزيرة الإيبيرية، لكن وفق ما ورد في دائرة المعارف البريطانية أن التسمية تعود لأميرة مغاربية من القرن الـ12، فيما تقول رواية أخرى وهي أكثر القصص شيوعاً في المصادر العربية، إن قصة فاطيما تعود إلى 1492 عند سقوط مدينة غرناطة، حيث دارت معركة كبيرة عند قصر الملح بقيادة الملك ألفونسو الأول، وانتصر جيشه وكانت من ضمن السبايا أميرة أندلسية تدعى “فاطمة”، فكانت من نصيب حاكم مدينة أوريم الذي تزوجها بينما اعتنقت هي المسيحية.
وتمضي هذه الرواية الأخيرة إلى أن الأميرة كانت مثقفة وجميلة وطيبة القلب فأصبحت محبوبة من الجميع لدرجة أن الناس سموا القصر الذي كانت تعيش فيه والمنطقة المجاورة باسمها، ومع مرور الزمن أصبحت هناك قرية صغيرة تحمل اسمها والتي صارت مزاراً يحج إليه الكاثوليك من كل أنحاء العالم.
معالم إسلامية حاضرة إلى اليوم
ويؤكد متخصص التاريخ في جامعة تونس حسام الدين حشيشة الذي أعد بحثاً جامعياً بعنوان “التراث الإسلامي في غرب الأندلس والبرتغال مدينة مرتولا أنموذجاً” أن “دخول المسلمين إلى البرتغال كان من طريق موسى بن نصير، وابنه هو الذي فتح لشبونة، وعدة مناطق في ما يسمى اليوم بالبرتغال، إذ توجد مرتولا وباجة البرتغاليتين اللتان تحتفظان إلى اليوم بملامح العمارة العربية الإسلامية، وفي عدد من المساجد التي حولت إلى كنائس، بينما حافظت على لمساتها المعمارية الإسلامية، إضافة إلى الأسوار والأبواب والحصون التي تحمي المدن من الغزوات، والجوامع التي طمس غالب معالمها الإسلامية”.
رؤى فاطيما هي “إيحاءات خاصة” عند الكاثوليك
ويضيف حشيشة أن “الدراسات حول غرب الأندلس (البرتغال حالياً) شحيحة عدا بعض الكتب والدراسات التي تناولت الوجود الإسلامي وتأثيراته في شبه الجزيرة الإسبانية عموماً”.
من جهته أكد الباحث في الأنثروبولوجيا الثقافية الأمين البوعزيزي أن الجذر العربي الإسلامي ما زال حاضراً بقوة في الطوبونوميا (أسماء المواقع) في شبه الجزيرة الأيبيرية (إسبانيا والبرتغال) في الماضي الشرقي (الفينيقي زمن قرطاج، والإسلامي لاحقاً منذ بدايات القرن الثامن الميلادي فيما يعرف بفتح الأندلس”.
وأضاف البوعزيزي أن “8 قرون تركت آثارها في مختلف مناحي الحياة في شبه الجزيرة الإسبانية”، لافتاً إلى أن “ذاكرة المكان والزمان لن تمحى على رغم سياسات الإبادة التي مارسها فارديناند وإيزابيلا في ما سمي بحروب الاسترداد (الروكونكيستا)”.