حرية – (29/6/2024)
عرفت المواد المخدرة منذ آلاف السنين وكان الإنسان على معرفة بها في الحضارات القديمة ووجدت آثار لها على صورة نقوش حوتها جدران المعابد وكتابات أوراق البردي المصرية القديمة، وغالباً ما ترتبط المواد المخدرة ارتباطاً وثيقاً بالإدمان ولكن بالعودة إلى الأزمنة القديمة ونشأتها يتبين أن بعضها اعتمد أولاً في معالجة حالات مرضية عديدة. وحتى اليوم يرتبط مزيد من تلك المواد بفكرة الإدمان في الأذهان باعتبارها تقود إليه ومنها ما يعتمد في الأصل للحد من الألم المرافق للمرض أو لأغراض طبية أخرى، ولذلك يعد بعض هذه المواد من قديم الأزمنة بمثابة سيف ذي حدين إذ يمكن أن تتحول من دواء إلى داء نتيجة سوء استخدامها خارج الإطار الطبي.
فوائد طبية قبل بلوغ حد الإدمان
وطبياً تعرف المواد المخدرة بكونها المواد التي تسبب للإنسان فقدان الوعي بدرجات متفاوتة، وتصل بآثارها إلى حد الغيبوبة وتليها الوفاة. وقديماً عرفت لتلك المواد المخدرة التي توصل الإنسان إلى حد الإدمان وأشهرها الهيروين والحشيش والأفيون فوائد طبية في التخدير وإزالة الألم، واستخدمتها القبائل والشعوب لهذه الأغراض ومنها ما لا يزال مستخدماً لهذه الأغراض حتى اليوم لدواع طبية، فعلى سبيل المثال تعد مادة الكوكايين أول الأدوية التي استخدمت في التخدير الموضعي ولكن بسبب احتمال الإدمان نتيجة تعاطيها أصبح استخدامها محدوداً جداً في العمليات الجراحية.
أما القنب الهندي أو الحشيش فيعود تاريخ استخدامه لدواع طبية إلى العصور القديمة، إذ كان الأطباء يمزجونه مع الأدوية للحد من الألم ولمكافحة أمراض معينة في مختلف أنحاء العالم. واعتمد القنب الطبي كعلاج عندما دخل في الطب الغربي خلال القرن الـ19، قبل أن تحصل تطورات عديدة في مجالات استخدامه حتى أصبح في سبعينيات القرن الماضي ينتج على صورة عقار. وعلى رغم أن إدارة الغذاء والدواء الأميركية لم تعترف بنبات “الماريجوانا” كدواء فإنه ثمة ولايات أميركية عديدة تستخدمه لأغراض طبية، حتى إن هناك أدوية صنعت من مكونات موجودة في النبتة وتوصف بصورة قانونية لمعالجة الغثيان والتقيؤ لدى الخضوع للعلاج الكيماوي في حال الإصابة بالسرطان عندما تفشل باقي العلاجات المتوافرة. ويستخدم أحد هذه الأدوية لمعالجة خفض الشهية لدى مرضى فيروس نقص المناعة البشرية، ومن الأدوية ما يوصف لمعالجة صور نادرة من حالات الصرع لدى الأطفال إضافة إلى حالات مرضية كثيرة أخرى.
أما مادة الأفيون فقد استخدمها الإنسان منذ نحو سبعة آلاف عام قبل الميلاد لمعالجة آلام معينة كالمغص وضيق النفس والإسهال، وأطلق عليها نبات السعادة في أول إشارة إليها في لوحة سومرية. وخلال عام 1806 تمكن أحد العلماء الألمان من فصل مادة المورفين عن مادة الأفيون، وانتشر بعدها استخدام المورفين لأغراض طبية في العالم الغربي خصوصاً في الولايات المتحدة لمواجهة حاجات العمليات الجراحية في الحرب الأهلية. وخلال عام 1870 بدأ استخدام حقن المورفين تحت الجلد لغرض طبي.
وبصورة عامة ثمة مواد معينة تسبب الإدمان بصورة أسرع من أخرى لكن في كل الحالات يشعر المدمن مع تعاطي مادة معينة بأنه يحتاج إلى جرعات أعلى منها ليحصل على التأثير الذي يبحث عنه، فيجد صعوبة في العيش من دونها أياً كانت المادة وحتى إذا كانت من الأدوية التي توصف لمعالجة مشكلات صحية معينة. وفي حال محاولة التوقف عن تعاطي المادة المخدرة تعود الرغبة الشديدة ويواجه أعراض الانسحاب.
علاقة المدمن بالمادة المخدرة
وفي العموم تصنف المخدرات على أساس مفعولها على الأشخاص وبالتالي يتم التمييز بين المنشطات التي تضم الكوكايين وتسهم في زيادة معدل دقات القلب ونشاط الدماغ، والمواد الأفيونية التي تعد من مسكنات الألم القوية التي تؤثر في المواد الكيماوية في الدماغ التي تضبط المزاج وتقلل نشاط الجهاز العصبي والتنفسي، والمهلوسات مثل “الماريجوانا” التي تفقد المدمن القدرة على إدراك المكان والزمان والواقع والمهدئات التي تعطى بوصفة طبية وبإشراف طبي. لكن من الممكن أن يصل الأشخاص إلى حد الإدمان عليها وعلى غيرها من الأدوية في حال سوء الاستخدام أو استخدامها من دون إشراف طبي.
ووفق ما توضحه الاختصاصية في علم النفس العيادي في مركز “سكون” لمعالجة الإدمان رامونا حداد “أي مادة يستهلكها الشخص بصورة تؤثر في حياته وسلوكاته تدخل في إطار الإدمان. فالمدمن يجد صعوبة في متابعة حياته من دون الحصول عليها من شدة التعلق بها. حتى أنه يعجز عن القيام بعمل ما أو متابعة حياته من دون اللجوء إليها بسبب الإدمان، مما يدفعه إلى البحث عنها بصورة يومية فتؤثر في قراراته وطريقة عيشه”. وفي وقت تميز بين المواد الشرعية وأخرى غير شرعية تشير إلى أن أية مادة تؤثر في المدمن تجعله عاجزاً عن متابعة حياته من دونها. وفي الوقت نفسه تجعله ينسحب من المجتمع وتؤثر في علاقاته ونجاحاته في الحياة، وتسبب له اضطرابات نفسية واجتماعية وسلوكية، ويكرس وقته لتأمينها وأمواله لضمان وجودها. وانطلاقاً من ذلك تحدد حالة الإدمان على أساس مستوى التعلق بها ويصنف الإدمان في درجات فإما أن يكون خفيفاً أو معتدلاً أو تكون الحالة متقدمة.
وتضيف حداد “يرتبط بصورة أساس تأثير أية مادة مخدرة أياً كان نوعها سواء كانت من تلك التي تعتمد في الأصل في معالجة مشكلات صحية معينة، أو كانت من المخدرات التي يلجأ إليها أصلاً المدمنون بعلاقة المدمن بالمادة المخدرة وبالتأثير الذي يبحث عنه باللجوء إليها. فليس لكل مادة أثر معين يكون نفسه على الكل وفي الواقع يبحث البعض عن تأثير معين في المواد المخدرة وهم الذي يخلقون تلك العلاقة التي تربطهم بها، لذلك يختلف التأثير بحسب ما يبحث عنه المدمن باللجوء إليها وانطلاقاً من هذا المبدأ يميل المدمن إلى زيادة الجرعات التي يحصل عليها من المادة المخدرة للحصول على التأثير المطلوب الذي يبحث عنه. ومن الممكن أن تتحول مواد معينة من كونها عبارة عن علاجات يعتمدها الأطباء في مواجهة مشكلات صحية معينة أو ربما للحد من الألم وتسكينه ضمن هدفها الأساس، إلى مواد يحصل إدمان عليها في حال عدم التقيد بإرشادات الطبيب والمبالغة في الجرعات بطريقة عشوائية. ومن الممكن الاتجاه نحو الإدمان أياً كانت الأدوية أو المواد المعينة، لكن ثمة مواد معينة تقود بمعدلات كبرى نحو الإدمان. وفي الوقت نفسه ما دام الطبيب يشرف ويعطي الجرعات المناسبة للحالة فلا يمكن التحول نحو الإدمان”.
وعلى سبيل المثال يعد أحد الأدوية من المواد المخدرة لكن يمكن وصفه للحد من الإحساس بالألم لا من أجل أثره المخدر، وثمة من يأخذ “الكريستال ميث” مثلاً للإبداع والذهاب إلى بعد خيالي فيما يلجأ آخرون إلى الكوكايين للحصول على الطاقة ولأنهم يحبون الحياة، ويعتمد البعض على الهيروين لتأمين الطاقة لمواجهة الحياة فكل يبحث عن هدف معين في مادة يستخدمها، سواء كانت من الأدوية المستخدمة لأغراض طبية أو كانت من المخدرات أصلاً. وهذا ما يؤكد مبدأ أن التأثير الذي يبحث عنه الشخص في مادة معينة وعلاقته بها هو المعيار في هذا المجال لا المادة بذاتها، فلا يحصل على تأثير معين إلا انطلاقاً من الهدف من وراء اللجوء إليها واستخدامها.
وقد يبحث الشخص في مادة معينة عن الإبداع أو الخيال أو الطاقة أو كمجال للهرب، وعلى هذا الأساس ينطلق العلاج النفسي من مبدأ نظرة الشخص المعني إلى المادة التي يستخدمها وقد قادته إلى الإدمان، حتى يقلع عنها بطريقة صحية وباللجوء إلى استراتيجيات علاجية معينة.
وفي كل الحالات أياً كانت علاقة المدمن بالمادة المخدرة التي يعتمد عليها ولا يمكنه العيش من دونها، ليس هناك عامل معين يمكن أن يؤدي إلى بلوغ مرحلة الإدمان بل هي مجموعة عوامل، ولا بد من البحث في تاريخ الشخص لتحديد هذه العوامل بغض النظر عن المادة المخدرة المستخدمة ما دام المدمن بات عاجزاً عن التخلي عنها، وفق ما توضحه حداد. وهذا مع الإشارة إلى أن المراهق يعد دائماً أكثر عرضة لتجربة المواد المخدرة لأن المنطقة المسؤولة عن القرارات الواعية والمسؤولة لا تكون قد نضجت بعد في الدماغ، كما أن التربية في محيط مهمل من العوامل التي تسهم في ذلك، وعلى رغم أن علاقة الشخص بالمادة المخدرة والتأثير الذي يبحث عنه فيها يبقى المعيار الأساس في علم النفس فإنه تكون هناك علاقة أحياناً بين طفولة الشخص أو تاريخه والمادة التي يصبح مدمناً عليها. فعلى سبيل المثال تربط “الحشيشة” (أو الحشيش) بين الواقع والمكان الذي يريد أن يكون فيه الشخص، وفي التحليل النفسي يتبين أن ثمة علاقة بين استخدامها وعناصر في طفولته مثل علاقته مع أمه في الطفولة ومرحلة الرضاعة أو العيش في البؤس.
وثمة أدوية وعلاجات معينة يزيد فيها احتمال الميل إلى الإدمان مثل المورفين والأدوية المضادة، فقد تكون فاعلة في مواجهة مشكلات صحية معينة ويصفها الأطباء بالفعل كعلاجات، لكن في حال تناولها بطريقة عشوائية من دون إشراف طبيب يمكن أن تقود إلى الإدمان عند تناول جرعات زائدة، حتى إن أدوية السعال يمكن أن تقود أحياناً إلى الإدمان لكن أياً كان العلاج وحتى إذا كان من النوع الذي يقود إلى الإدمان، طالما أنه يتم تناوله بجرعات معينة وبإشراف طبي لا يمكن الوصول إلى حد الإدمان وفق ما تؤكده حداد، والطبيب وحده هو من يحدد الجرعة المناسبة حتى لا يحصل خرف للقواعد المحددة استناداً إلى حاجة الشخص إلى العلاج.
معالجة الإدمان أياً كانت المادة
أياً كانت المادة المخدرة ونوعها فإن الهدف الأساس من العلاج هو مواجهة الضرر من استخدامها، علماً أن أية وسيلة علاجية يمكن أن تنجح مع البعض ويمكن ألا تنجح مع آخرين. لكن في كل الحالات، الهدف من رحلة العلاج في مواجهة الإدمان هو الحد من الخطر الذي يمكن التعرض له الشخص بالحصول على المادة. فتشدد حداد على أنه من المفترض تقبل المدمن كيفما كانت حالته، لتقديم المساعدة له حتى لا نخسره. فالمهم ليس ما يريده الاختصاصي في العلاج النفسي، بل ما يريده المدمن، ولا بد من التماشي مع هدفه هو، فتكون المساحة له مع توجيه بما يتناسب مع أهدافه. هذا، في وقت يختلف المسار العلاجي بحسب علاقة المدمن مع المادة المخدرة، وأحياناً تكون هناك حاجة إلى طبيب نفسي لمساعدته على خفض الجرعات التي يحصل عليها حتى يشعر بتحسن، فيمكن الوصول إلى الهدف بعلاج نفسي بالتوازي مع متابعة الطبيب النفسي بما أن الجسم يكون معتاداً على المادة، ولا بد من مساعدته على التخلي عنها وإن كانت لديه الإرادة لذلك وثمة حاجة أيضاً إلى التحفيز على التغيير بما يلائم كل حالة، لتحقيق الهدف المرجو ومتابعة الحياة بطريقة طبيعية.
كارين اليان ضاهر