حرية – (30/6/2024)
في مدينة لاهاي الهولندية التي أعيش فيها، يمتد ساحلها الرائع لـ 11 كم من الكثبان والشواطئ الرملية. وفي الصيف، غالبًا ما أرى سكانها في سخيفنينغن أو كيكدن (أشهر شواطئ المدينة) وهم يستمتعون بحمامات الشمس، أو يتجولون في الطبيعة أو يركبون دراجاتهم، ثم يجلسون على أحد المقاعد العديدة المتناثرة. في بعض الأحيان، يقرؤون أو يتحدثون مع أصدقائهم، لكن في كثير من الأحيان، يستمتعون بما يعرف لديهم بـ “نيكسن”.
و”نيكسن” هو موضة صحية هولندية، تعني “عدم القيام بأي شيء”. وقد لفتت انتباه العالم لأول مرة في عام 2019 كوسيلة للتخلص من التوتر والإجهاد أو التعافي من الإرهاق.
في ذلك الوقت، كان الكثير من الناس يشكون من الإرهاق والاكتئاب الناجم عن العمل الشاق، وكانوا يبحثون عن حلول.
هذا هو السبب في أن مفاهيم مثل “إيكيغاي” الياباني أو “هيغه” الدنماركي دخلت في قاموس اللغة الإنجليزية.
وبصفتي لغوية، فقد أحببت فكرة التعبير عن مفهوم عدم القيام بأي شيء، بكلمة واحدة قصيرة وسهلة اللفظ.
في كتابي “نيكسن: الفن الهولندي لعدم القيام بأي شيء”، عرفتُ الكلمة بـ “لا تفعل شيئا من دون غرض”، فلا أتصفح الفيسبوك أو أمارس التأمل.
وبينما يهتم التيقظ بالتركيز في الوقت الحالي، فإن نيكسِن يهتم بتخصيص وقت تسمح فيه لعقلك بالتفكير كيفما يشاء. وبما أننا نتعافى ببطء بعد الوباء، فمن المهم إعادة التفكير في طريقة أداء عملنا وقضاء وقتنا.
لغويا، نيكسن (لا تفعل شيئا) هو فعل مشتق من كلمة “نيكس” في الهولندية، والتي تعني “لا شيء”.
مونيك فليكن، متخصصة في علم اللغة النفسية بجامعة أمستردام، وتبحث في كيفية تأثير اللغات التي نتحدثها على نظرتنا إلى العالم، تقول إن اللغة الهولندية تميل إلى اشتقاق أفعال من الأسماء. ككلمة “فوتبول” التي تعني كرة القدم لتصبح الفعل “فوتبولِن” أي لعب كرة القدم، أو “إنترنت” لتصبح الفعل “إنترنتِن”، ومن “واتساب” إلى “واتسابِن”، وما إلى ذلك.
وتضيف فليكن: “إنه أمر يخص اللغة الهولندية؛ فقول “نيكسِن” بدلا من قول “عدم القيام بأي شيء” يتطلب مجهودا أقل، والهولنديون شعب عملي ومباشر ولغتهم تعكس ذلك”.
في هولندا، يمكن استخدام الكلمة بطرق عدة إيجابية وسلبية؛ وتضرب فليكن مثالا بقول أحد الوالدين لابنه: “زِت جي ويير تي نيكسِن؟ بمعنى هل تضيّع وقتك مرة أخرى؟ أو أن تقول “ليكِر نيكسِن”، والتي تُترجم إلى” من اللذيذ ألا تفعل شيئا”، وذلك عند التحدث بسعادة عن أمسية خالية من أي مهمة أو عمل، وفق فليكن.
أما تيس لاونشباخ، عالم النفس والمتحدث في تيدكس ومؤلف كتاب الانشغال الجنوني: البقاء عاقلا في عالم مرهق، فيعرّف كلمة نيكسِن على أنها “عدم القيام بأي شيء أو شغل نفسك بشيء تافه كأسلوب للاستمتاع بوقتك، بعدم الامتناع عن فعل كل شيء، لكن بفعله بأقل قدر ممكن”، مشيرا إلى أن هذا ينطبق في الغالب على كبار السن الذين لديهم وقت فراغ غير منظم.
من ناحية أخرى، تتعرض الأجيال الشابة للتوتر أكثر من أي وقت مضى، حتى في هولندا التي يُشاد بها في تحقيق التوازن بين العمل والحياة.
ويوضح لاونشباخ أن هناك الكثير من الأسباب لذلك؛ فقد “أصبحت حياتنا ووظائفنا معقدة بشكل متزايد. ونقضي الكثير من الوقت مع أجهزة الكمبيوتر. وهناك الكثير من الضغوط كي يكون أداؤك الأفضل، سواء كان ذلك في وظيفتك، أو من خلال توقعات الوالدين أو وسائل التواصل الاجتماعي. هناك الكثير من الضغوط لفعل ذلك”.
بالطبع، قد يكون بعض التوتر جيدا، كما تشير بيرنيت إلزينجا، أستاذة علم النفس بجامعة لايدن، التي تقول: “ليس من السيئ بالضرورة أن تشعر بالتوتر للحظة، حيث تكون في حالة انتباه وتركيز. المشكلة هي عندما يخرج هذا عن السيطرة”.
وتشرح إلزينغا كيف يمكن لـ”نيكسن” أن تساعدك في تلك الحالة: “عندما لا تفعل شيئا، فإنك تتصل بشبكة الوضع الافتراضي. وهذه الشبكة مسؤولة عن شرود الذهن والتفكير”.
ومن المفارقات أن “نيكسن” قد تجعلنا أكثر إنتاجية، ويرجع ذلك ببساطة إلى أن الاستراحات تسمح لأدمغتنا بالراحة والعودة بتركيز أفضل واهتمام مستمر. وربما هذا هو السبب في أن الهولنديين، رغم أنهم لا يعملون لساعات طويلة، إلا أنهم قد يكونون أكثر كفاءة في العمل. ولن تجد هناك من يشجعك على العمل لساعات إضافية بسبب ثقافة الهولنديين السائدة التي تؤمن بمبدأ “حسبُك أن تكون طبيعيا، فهذا جنوني بما يكفي”.
ويبدو أن هذه المقولة تنعكس على الواقع، فالهولنديون أمة مبدعة. فكر فقط في جميع الرسامين المشهورين مثل ريمبرانت وفيرمير وإيشر، بالإضافة إلى الحلول المبتكرة التي توصل إليها الهولنديون لمواجهة تهديدات الفيضانات المتكررة، ببناء السدود الضخمة والمنازل العائمة.
يحب الهولنديون أيضا الاستمتاع بالحياة، كما يتضح من كلمة “ليكر”، التي تعني “لذيذ”؛ لكن يمكن استخدامها للإشارة إلى أي شيء لطيف وممتع، مثل “ليكر وورم” والتي تعني الدفء اللذيذ، أو “ليكر سلابِن” والتي تعني النوم اللطيف، وبالطبع “ليكر نيكسِن” التي تعني ألا تفعل شيئا بشكل ممتع”. وهذا الأسلوب المتاح لقضاء أوقات الفراغ، يسهل على الناس ألا يفعلوا شيئا.
يحب السكان المحليون قضاء وقتهم في ممارسة أنشطة؛ كركوب الدراجات أو المشي لمسافات طويلة، ما يتيح الوقت لتصفية الذهن. وفي كل مرة تشرق فيها الشمس، يتدفق الهولنديون إلى المقاهي والمدرجات بشكل جماعي، حتى في فصل الشتاء، وهي بالنسبة لي أماكن مثالية لعدم القيام بأي شيء.
ومع ذلك، فإن لاونشباخ ليس من المعجبين بعدم القيام بأي شيء كأسلوب لمنع التوتر، ويقول: “أنا متشكك قليلا في فكرة أنه ينبغي عليك وضع حاجز بينك وبين التوتر. لا أعرف مدى إمكان تحقيق ذلك في ظل الأسلوب الذي نحيا ونعمل به اليوم”.
كما تفضل إلزينغا القيام بنوع من النشاط البدني لتشتيتك عن مخاوفك اليومية، ويفضل أن يكون ذلك متصلا بالطبيعة. ولحسن الحظ، فإن هولندا تجمع بين نيكسِن والطبيعة والنشاط.
ورغم أن البلاد لا تشتهر بمواردها الطبيعية، فإن الهولنديين يقدّرون المساحات الطبيعية المحدودة التي يمتلكونها. وتعد العديد من الكثبان، وهي المفضلة لديّ في هولندا، جزءا من شبكة كبيرة من المسارات المخصصة للمشي لمسافات طويلة وركوب الدراجات التي تمر عبر البلاد. حتى لو كنت في المدن الكبيرة مثل روتردام أو لاهاي أو أمستردام، لن تكون بعيدا عن هذه المسارات.
فاندلنت مؤسسة مخصصة لإنشاء وصيانة مسارات المشي، وقد تعاونت مع نظام السكك الحديدية الهولندي، لإنشاء “إن إس فاندلنجن”، وهو نظام من مسارات المشي التي يسهل الوصول إليها بالقطار أو وسائل النقل العام الأخرى، ويتراوح طولها بين 7 و 22 كم، ما يجعلها مثالية لرحلة يومية. ومع وجود مقاعد عديدة على طول الطريق، فهي مناسبة لنيل استراحة “نيكسن” الصغيرة.
إن تمضية وقت الفراغ ممكن للهولنديين؛ لأن هولندا بلد يتمتع بنظام رعاية اجتماعية ممتاز، وكما يميل الناس هناك إلى العمل الجاد، فهم أيضا يطلبون ويُمنحون عطلة لأيام عدة.
تقول إلزينغا: “إن وجود نظام دعم اجتماعي جيد، وأسلوب لخفض مستوى التوتر، يرتبط بالشعور بالأمان والتوازن. لذا، لن أبالغ في تقدير أهمية ذلك”.
ومع كل ما يحدث في العالم، من وباء كوفيد 19، والحرب في أوكرانيا، وغير ذلك، فإن تخفيف التوتر أصبح أكثر أهمية من أي وقت مضى.