حرية – (1/7/2024)
رفيق خوري
مسار التاريخ متعرج، ولا فرق سواء كان يكرر نفسه على طريقة هيغل، أم على طريقة ماركس، أم يصنع شيئاً جديداً. والقوى التي تتصور أنها تسير على الجانب الصحيح من التاريخ، تتحالف وتتخاصم ثم تعود للتحالف. والدورة الأخيرة هي الأشد تعبيراً عن ذلك، من ستالين وكيم إيل سونغ وماوتسي تونغ إلى بوتين والحفيد كيم جونغ أون بعد الابن كيم جونغ إيل وشي جينبينغ.
عام 1950 استدعى ستالين الزعيم الكوري الشيوعي كيم إيل سونغ وأمره ببدء حرب لتوحيد شبه الجزيرة الكورية تحت نظام شيوعي مناهض للوجود العسكري الأميركي، وفي ديسمبر (كانون الأول) من ذلك العام، بحسب الأرشيف في موسكو، بعث ستالين برسالة إلى حليفه الزعيم الصيني ماوتسي تونغ طالباً منه إرسال خمس فرق عسكرية إلى كوريا، ولو أدى ذلك إلى حرب عالمية ثالثة.
وجاء في الرسالة “إذا كانت الحرب حتمية بين عمالقة الشيوعية وقوى الغرب، فلتكن الآن وليس بعد سنوات حين يصبح الحلف بين أميركا واليابان أقوى، فنحن اليوم أقوى من أميركا وبريطانيا، وبقية الدول الرأسمالية الأوروبية غير قادرة على تقديم مساعدة باستثناء ألمانيا”. استجاب ماو للطلب جزئياً، ورد في رسالة إلى ستالين بالقول “أرسلنا بعض قواتنا باسم متطوعين لمحاربة أميركا وكلبها الكوري الجنوبي”، ثم عاد وأرسل ما طلبه ستالين.
والمفارقة أن التقويم الأميركي حالياً يرى أن ستالين كان على حق، لكن القائد الأميركي الجنرال ماكارثر استطاع وقف الهجوم الكوري الشمالي – الصيني، وهو يقود تحالفاً دولياً بقرار من مجلس الأمن بعد الرئيس ترومان.
كان منطق ماو الاستعانة بمثل صيني يقول: “إذا ضعفت الشفاه تصاب الأسنان بالبرد”، الشفاه هي كوريا والأسنان هي الصين. وما كان من المفاجآت بعد حرب كوريا التي دامت ثلاث سنوات وأدت إلى التسليم بكوريا الجنوبية وكوريا الشمالية والفاصل بينهما هو الخط 38 وقوات دولية في منطقة مجردة من السلاح أن يردد موالون لأسرة كيم في حكم بيونغ يانغ الجانب الآخر من المثل الصيني، وهو إن الأسنان يمكن أن تعض الشفاه، فالدنيا تغيرت. ماو تفاهم مع الرئيس الأميركي نيكسون ضد الاتحاد السوفياتي، والعلاقات بين بكين وبيونغ يانغ بقيت في حدود مزيج من التفاهم والحذر من تطرف أسرة كيم. فلا مصلحة للصين في انهيار النظام الكوري الشمالي، لأن ذلك يدفع ملايين الكوريين إلى الصين، ولا في ترك بيونغ يانغ لمصيرها خشية توحيد شبه الجزيرة على أيدي كوريا الجنوبية وأميركا التي يقوى نفوذها ووجودها في شرق آسيا.
واليوم يأتي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في زيارة إلى بيونغ يانغ وتوقيع “شراكة استراتيجية” واتفاق “دفاع مشترك”، بحيث يساعد كوريا الشمالية في برنامجها الفضائي والتكنولوجي، ويحصل على صواريخ وقذائف من أجل الحرب في أوكرانيا. ولا مشكلة بالنسبة إلى النظام الشيوعي في كوريا الشمالية في كون روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي تدار كنظام رأسمالي، لا بل ضمن ما تسمى “رأسمالية الشلة” الأوليغارشية المقربة من بوتين.
ولا غرابة في الصراع بين نظامين شيوعيين في الصين والاتحاد السوفياتي، ثم في “شراكة بلا حدود” بين نظام شيوعي صيني ونظام رأسمالي روسي، فالجيوبوليتيك يتقدم على الأيديولوجيا. وليس تعاطف “الجنوب العالمي” ومعه اليسار في كل بلد مع روسيا التي تضم أجزاء من جورجيا وأوكرانيا، وتخوض حرباً ضد كييف سوى تعبير عن صدام المصالح مع أميركا التي هي بالنسبة إلى بعضهم العدو المكروه.
ولا يخلو دعم الصين لكوريا الشمالية من النظر بعين حمراء إلى تقاربها مع موسكو خوفاً من أن يتشجع كيم جونغ أون ويحدث اضطرابات في شمال آسيا ويستجلب حضوراً عسكرياً أميركياً أكبر ضد ما تريده بكين، فالصين صوتت في مجلس الأمن على قرار يفرض عقوبات على بيونغ يانغ بسبب برنامجها النووي المقلق للعالم ومنه بكين، وهي رأت كيم جونغ أون يرسل عام 2017 إلى الخارج من قتل أخيه غير الشقيق كيم جونغ نام الذي كان في الخارج بحماية الصين.
والكل يعرف أن المصالح الحيوية الجيوسياسية والاستراتيجية لروسيا هي نفسها تقريباً أيام القياصرة من آل رومانوف وأيام الاتحاد السوفياتي تحت سلطة لينين وستالين وخلفائهما، وأيام بوتين الذي اعتبر ستالين “أنجح حكام روسيا في القرن الـ20”. ووصف انهيار الاتحاد السوفياتي بأنه “أكبر كارثة جيوسياسية في القرن الـ20″، لماذا؟ لأن ستالين في رأي بوتين “مد الإمبراطورية إلى أبعد من آل رومانوف، وخلق روسيا القوة العظمى النووية، وإعداماته كانت ضرورية للاستقرار”، فكل حاكم روسي يرى الخطر على السهل الروسي من الجوار.
بوتين يطبق قول أحد القياصرة: “أنا لا أطمئن إن لم يكن جيشي على طرفي الحدود”، والمصالح الحيوية ليست واحدة مهما يكن نوع التحالف بين الصين وروسيا وكوريا الشمالية. أولاً لأن كيم جونغ أون يراوغ بدل الإذعان لحلفائه مهما تكن حاجته إليهم وسط حاجة موسكو إلى أسلحته وحاجة بكين إلى تطويقه، للحيلولة دون أن يضعف أمام الإغراءات الأميركية التي توالت على بيونغ يانغ حتى أيام الرئيس دونالد ترمب الذي التقى كيم على أرض كوريا الشمالية، وثانياً لأن اهتمامات الرئيسين الصيني والروسي أوسع بكثير من اهتمامات الزعيم الكوري الشمالي الذي كانت هدية بوتين له سيارة روسية مع كمية من الشاي.
في مقالة عن المحور الروسي – الصيني – الكوري الشمالي – الإيراني تحت عنوان “محور الاضطراب” يرى الكاتبان أندريا كيندال – تايلور وريتشارد فونتين أن المحرض على قيام المحور هو روسيا، والقاسم المشترك بين أعضائه هو الاعتراض على النظام الدولي الذي تديره أميركا، ولا يراعي مكانتهم ولا يعطيهم حرية الحركة في أماكن حيوية لهم. “روسيا في الجوار القريب، والصين في تايوان وبحر الصين الجنوبي، وإيران في النفوذ في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وكوريا الشمالية في توحيد شبه الجزيرة الكورية”، لكن هؤلاء “ليسوا في حاجة إلى مشروع مشترك لكي يحدثوا فوضى”، والتعاون بينهم شغال. روسيا اشترت 3700 مسيرة من إيران التي ستبني معملاً في روسيا لإنتاج المسيرات بما يزيد من قدرة موسكو على إنتاج أكثر من 360 مسيرة شهرياً، كوريا الشمالية قدمت لها صواريخ باليستية و2.5 مليون قذيفة مدفعية.
وفي رأي الكاتبين، فإن هذا المحور “غير صورة الجيوبوليتيك، لكن أميركا وشريكاتها لا تزال قادرة على تجنيب العالم ما يأمل فيه محور الاضطراب”، وليس ذلك سهلاً كما كان الأمر في الماضي، فأميركا تفرض كثيراً من الشروط على سلوك حلفائها، والثقة في استمرار سياستها مهتزة، وسلوكها يدفع بعض أصدقائها نحو الصين أو روسيا وحتى نحو إيران، سواء عندما تمارس غطرسة القوة أم عندما تمارس الاسترضاء.