حرية – (1/7/2024)
في خضمّ الحروب المدمرة التي تشنها قوة الرأسمالية والاستهلاك الشديد لكل شيء، وفي ظل التحديات البيئية الهائلة التي تواجه كوكبنا والمخاوف التي تلازمها ارتجالات لبناء مستقبلٍ يحقق جميع المعايير التي لطالما طمحت لها البشرية، يبرز مفهوم الاقتصاد الأخضر أو “green economy” كنهجٍ من شأنه جعل هذا المستقبل حقيقة. يتخطى هذا المفهوم كونه مجرد مصطلحٍ اقتصادي ليصبح فلسفةً شاملةً تسعى إلى تحقيق التوازن المثالي بين التنمية الاقتصادية، والرفاهية الاجتماعية، والمحافظة على البيئة.
تمثل شجرة الاقتصاد الأخضر نقلةً نوعيةً في مسيرة البشرية، حيث تعيد تعريف مفهوم “النمو” ليشمل ليس فقط الازدهار الاقتصادي، بل أيضًا الحفاظ على الموارد الطبيعية وصحة كوكبنا المتداعية.
وكما تحتاج كل شجرةٍ إلى عوامل أساسية لتثمر، فإن الاقتصاد الأخضر يستند إلى مبادئ ثابتة. تشمل هذه المبادئ الاستدامة، والتي تضمن استمرار قدرة البيئة على تلبية احتياجات الأجيال الحالية والمستقبلية دون استنزاف. وتتضمن أيضًا الكفاءة، وهي استخدام الموارد الطبيعية بذكاء وحكمة دون إهدار أو استنزاف، إلى جانب العدالة التي تشجع على توزيع المنافع البيئية والاقتصادية بشكل عادل بين جميع أفراد المجتمع. ومن ثم، يأتي الابتكار عبر دعم البحث والتطوير في مجالات التكنولوجيا الخضراء لإيجاد حلول مبتكرة للتحديات البيئية. وأخيرًا، التعاون الذي يتمثل في تضافر الجهود بين مختلف أصحاب المصلحة، من حكومات وشركات ومجتمعات مدنية، لتحقيق أهداف الاقتصاد الأخضر.
في هذا السياق، يمثل الأستاذ روبرت بولين من قسم الاقتصاد بجامعة ماساتشوستس الأمريكية مثالاً على وجود أمل لتحول للاقتصاد الأخضر، وذلك من خلال تسليط الضوء على التطورات المبشرة في مجال الطاقة الشمسية. يذكر بولين أن “البيانات الخاصة بتكاليف الطاقة الشمسية قد انخفضت بنسبة 80٪ في العقد الماضي”، مشيراً إلى أن كفاءة الألواح الشمسية قد تضاعفت من 18% إلى 40%، بينما انخفضت التكلفة إلى 3 سنتات للكيلوواط ساعة من 6 سنتات.
يُضيف بولين أن التكنولوجيات الحديثة قد سهلت توليد الطاقة الشمسية حتى في البلدان ذات المناخ البارد، بشرط توفر الأراضي اللازمة لإقامة التوربينات. يستشهد بمثال من جامعة ماساتشوستس التي تمتلك مبنى خالٍ من الانبعاثات الصفرية في مناخ بارد وبدون مستويات عالية من ضوء الشمس أو الرياح.
مع ذلك، يبرز بولين تحدياً كبيراً يعيق التحول نحو الاقتصاد الأخضر، وهو الاعتماد على المعادن كمصادر للطاقة المتجددة، بالإضافة إلى تمسك العديد من الدول والشركات باستخدام النفط والغاز البالغ قيمته 14 تريليون دولار. لكن رغم ذلك، يؤكد أن التغلب على هذا التحدي يمكن أن يفتح الباب لتحول طاقي شامل خلال العقد المقبل، لكن يتطلب ذلك جهودًا مضاعفة وتعاونًا عالميًا.
ولعل ما قد يحفز الجميع، على بذل الجهد والتعاون من أجل هذا التحول، أنه مع نمو شجرة الاقتصاد الأخضر، ربما حينها سنصبح قادرين على قطف ثمارها بدءاً من الهواء النقي والمياه العذبة، من ثم سيكون لدينا فرص لصناعة بيئة صحيةٍ تناسب العيش الكريم ومن ثم فرص ذهبية للعمل كي نفتح آفاق جديدة لخلق فرص عملٍ خضراءٍ في مجالاتٍ واعدةٍ مثل الطاقة المتجددة والزراعة المستدامة، وأيضًا طعام آمن للجميع حيث من شأن الاقتصاد الأخضر دعم الأمن الغذائي من خلال تحسين ممارسات الزراعة وحماية الموارد الطبيعية بالإضافة الى اقتصاد مزدهر يُعنى بجذب الاستثمارات في مجالات التكنولوجيا الخضراء، ممّا يُعزز النمو الاقتصادي ويُنشّط حركة التجارة وآخر الثمرات كوكب أخضر ينعم بالسلام ويحارب تغير المناخ من خلال خفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، ممّا يُساهم في الحفاظ على كوكبنا للأجيال القادمة.
إذ يشير تقرير لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، أن الإنعاش الأخضر يمكن أن يحقق نموًا اقتصاديًا أقوى، بينما يساعد في تحقيق الأهداف البيئية العالمية ومعالجة عدم المساواة الهيكلية. وللحفاظ على عقود من التقدم المحرز في مكافحة الفقر من الانحسار، ستحتاج البلدان منخفضة الدخل إلى تمويل بشروط ميسرة كبيرة من الشركاء الدوليين.
كما الأشجار تتعرض لعوائق عدة تمنع عملية نموها وكذلك الاقتصاد الأخضر فلا مهرب لنمو شجرته دون تعرضها لبعض العوائق، مثل الكلفة الباهظة حيث أنه قد تُشكل الاستثمارات الأولية في البنى التحتية الخضراء عبئاً اقتصادياً على بعض الدول متبوعة بوعي محدود فبعض فئات المجتمع قد تفتقر إلى المعرفة التامة بهذا المصطلح ولا سيما السياسات غير الداعمة التي تتمثل على شكل تقليص الحوافز الحكومية للشركات لتبني ممارساتٍ خضراء التي تتبعها مصالح متعارضة فقد تتعارض مصالح بعض الشركات مع أهداف الاقتصاد الأخضر، ممّا يُعيق تقدمه.
لكن هذا يمكن التغلب عليه، عن طريق اتباع سياسات تقوض ثقافة الاستهلاك التي تنخر المجتمعات، وتشجيع المؤسسات والأفراد على سياسات استهلاكية واعية كشراء المنتجات الصديقة للبيئة واستخدام وسائل النقل العام والتقليل من استهلاك الطاقة، وترشيد ضروري للموارد كترشيد استهلاك الماء والطاقة للحفاظ على الموارد الطبيعية، ودعم الشركات الخضراء عن طريق شراء منتجاتها وخدماتها وتشجيعها على الابتكار في مجال التكنولوجيا الخضراء وأخيراً نشر الوعي عبر المشاركة في مبادرات التوعية البيئية لنشر الوعي بأهمية الاقتصاد الأخضر.
في الختام، يتأكد اليوم، أكثر من أي وقت مضى، أن التحول إلى الاقتصاد الأخضر ليس مجرد خيار، بل ضرورة ملحة لضمان بقاء الحياة كما نعرفها. ورغم أن على الحكومات والشركات المسئولية الأكبر لتنفيذ هذا التحول، توجد أيضًا مسؤولية مشتركة تقع على عاتق كل فرد منا، حيث تساهم كل خطوة نتخذها نحو خيارات استهلاكية أكثر استدامة، كل قطرة ماء ندخرها، في رسم مسار مستقبلنا. إنها ليست فقط علامات فارقة في مسيرتنا نحو الاستدامة، بل هي البذور التي نزرعها اليوم لنجني غدًا عالمًا يشبه غابة وارفة الظلال، مترامية الأغصان، غنية بأشجار الاقتصاد الأخضر التي تعد بمستقبل أفضل للأجيال القادمة.