حرية – (8/7/2024)
نبيل فهمي
تعقد منذ أشهر ندوات ومؤتمرات وحوارات مغلقة عدة نصفها تقريباً عن النظام الدولي المقبل، والآخر عن الشكل الجديد في الشرق الأوسط، وهناك عناصر مشتركة في الموضوعين، وعلى رأسها أن الاوضاع الدولية في مرحلة تغير وتطور الآن وخلال المرحلة المقبلة، وهناك شبه توافق كذلك أننا سنشهد بروز قوة جديدة تضاف إلى أو على حساب الزيادات التقليدية.
بات واضحاً عدم وضوح الرؤية على المستويين الدولي والإقليمي بالنسبة إلى السياسات والأحداث المقبلة، وهل تتبنى الدول الريادية فيها سياسات نشطة تدخلية وتفاعلية على المستوى الدولي الإقليمي أو تميل نحو الانكماش والانعزال بقدر الإمكان والتركيز فقط على المصالح الوطنية الجوهرية والمباشرة.
وفي ضوء الأوضاع الاستثنائية التي نمر بها دولياً وإقليمياً، لعله من المناسب الخروج عن النمط التقليدي بطرح المبررات قبل الإسهام بآرائي، وأبكر بطرح أهم خلاصة من ملاحظاتي بعد مشاركاتي ومتابعاتي المختلفة لعدد من هذه المحافل والمناسبات، ألا وهي أننا دولياً وإقليمياً نمر بمرحلة تناقضات ممتدة لجهة من هم أصحاب الريادة وسياساتهم ومواقفهم وممارساتهم، ومن الواضح أننا في مرحلة مخاض وتشكيل.
وهناك مؤشرات كثيرة وممتدة ومواقف متناقضة وغير منطقية ترجح أننا وصلنا حالياً إلى مرحلة اللافهم.
أركز اليوم فقط على الوضع الدولي ومنه على سبيل المثال وليس الحصر أنه منذ ظهور نظرية العولمة والموضوع يثير كثيراً من الجدل والآراء المتضاربة، ودافع العالم في البداية بأنها وسيلة مثالية لاندماج المجتمعات ومؤشر واضح لتميز وتفوق الفلسفات المجتمعية الغربية الليبرالية وبالنسبة إلى تحديد الحقوق الشخصية للفرد، إلى جانب أنها أفضل وسيلة لضمان كفاءة أداء اقتصادات السوق ووصول السلع إلى المستهلك بأقل سعر وأعلى هامش ربح للمصنعين.
وفي أول الأمر استقبل “ترند” العولمة بإيجابية حتى من بين أعداء ومنافسي الغرب في الاتحاد السوفياتي والصين، حيث تزامن ذلك مع مرحلة إصلاحية لديهما، ما بعد الحرب الباردة في الاتحاد السوفياتي والثورة الثقافية في الصين، شهدت تحولات اقتصادية كبيرة في البلدين.
في حين استشعر العالم النامي بأن العولمة سمة من سمات الاستعمار الحديث يتحقق من خلال آليات اقتصادية متطورة، ويغلّب مصلحة الكيانات الاقتصادية الكبرى متعددة الأطراف ويخنق ويقتل الكيانات الصغيرة والمتوسطة والمنتشرة بمعدلات أوسع في الدول النامية.
ومع تعدد التجارب والأحداث تغيرت وتشكلت كثير من الرؤى تجاه المنظومات الاستهلاكية الكبرى والعولمة خصوصاً، فأصبحت هناك قناعة عالمية متنامية بأننا نعيش ونتقدم أو نفشل معاً.
ومن ثمّ علينا دائماً إعطاء مزيد من الاهتمام للتنمية المستدامة للكل ومراعاة تأثير العجلة التنموية في البيئة والمناخ والمصادر المائية وغير ذلك، وأن المعادلات الصفرية هي إنجازات قصيرة الأجل في كثير من الأحيان على حساب المصلحة العامة في الأمد الطويل وحتى متوسط المدى.
وعلى رغم كل المحاذير والكلفة الاجتماعية، بدأت الدول النامية تنظر إلى العولمة بمزيد من الإيجابية مع تجاوز عدد غير قليل خط الفقر العالمي وخلق عدد هائل من الوظائف.
ومع مرور الوقت وتعدد التجارب، احتدت التحفظات الروسية والصينية وقلقها من أن آليات العولمة الاقتصادية الغربية غطاء سياسي واجتماعي لمحاولة فرض الهيمنة السياسية الغربية على النظام الدولي، وبرز ذلك خصوصاً مع مرحلة القطب الأوحد التي تلت الحرب الباردة، ووجدت تيارات سياسية غربية تحذر من الانفتاح المتزايد على العالم وتبني السياسات الاقتصادية.
وكانت الحرب الأوكرانية من تداعيات المتناقضات والتضاربات الدولية الحديثة التي قضت على أكذوبة أن الساحة الأوروبية هي ساحة سلام وحوار، وأنها منذ الحرب العالمية الثانية تجاوزت بلا رجعة المواجهات والصدامات العسكرية، ونحن الآن بأوكرانيا في مرحلة يدعي فيها كل طرف أنه يحقق نتائج إيجابية، في حين تعكس النتائج أن الوضع على الأرض الآن أسوأ بكثير مما كان عليه قبل اندلاع المعارك.
في روسيا لم يفرض عليها الغرب الانسحاب من الأراضي التي احتلتها، وتواجه روسيا الآن على حدودها كدول مجاورة عدداً أكبر من الدول الأعضاء في الحلف الأطلنطي بعد انضمام فنلندا والسويد، وتغيير بوتين لبعض قياداته العسكرية أخيراً، فضلاً عن المسرحية الكوميدية الخاصة بقيادة مؤسسة “فاغنر” العسكرية هي مؤشرات اضطرارية وضبابية.
وكانت هناك أحداث وتطورات مفاجئة في الساحة الأوروبية اعتُبر بعضها ردود فعل لأحداث متنوعة مثل تحديات العولمة والرغبة في الحفاظ على الهوية الوطنية، ومنها ضغوط نزوح اللاجئين إلى أوروبا، أو تداعيات الحرب الأوكرانية التي نمّت الاستقطاب ضد روسيا من ناحية، والانعزالية من ناحية أخرى.
قد تكون هذه الأحداث هي السبب في كثير من المواقف الأوروبية التي تبدو متناقضة، منها تنامي التيارات اليمينية في دول أوروبية عدة وخلال انتخابات البرلمان الأوروبي، مما دفع رئيس فرنسا للدعوة إلى عقد انتخابات برلمانية فرنسية سريعة انتهت عكس توقعاته بتفوق التيار اليميني، ونسب ذلك الفشل إلى أن الحملة الانتخابية لتجمع ماكرون ركزت أكثر من اللازم على مواقفه القوية ضد بوتين في ما يتعلق بقضية أوكرانيا، وتعقب ذلك دعوة رئيس وزراء بريطانيا إلى انتخابات سريعة في نهاية الأسبوع الماضي على رغم أن استطلاعات الرأي العام في غير مصلحة حزبه المحافظ.
وشهدنا تقارباً روسياً- صينياً بهدف موازنة الحراك الأميركي- الغربي، وكذلك زيارات رئاسية روسية- كورية للمرة الأولى منذ أكثر من عقدين من الزمن، نظراً إلى حساسيتها غربياً وصينياً، التي كان لها دور مميز مع كوريا الشمالية، وشهدنا توترات صينية- آسيوية، فضلاً عن توترات حتى في أميركا اللاتينية بين البرازيل والأرجنتين أكبر الاقتصادات في المنطقة لجنوحهما في اتجاهات مضادة، وصلت إلى تجنب الرئيس البرازيلي عقد لقاء مع رئيس الأرجنتين المنتخب يميني التوجه.
وهناك تساؤلات عدة عن الوضع الأميركي في ضوء عدم وضوح توجهات المجتمع الأميركي في القرن الـ21، والانتخابات الأميركية الرئاسية خير دليل على الارتباك، وتعقد بين مرشح يشك كثيرون بقدراته على أداء وظيفته لأسباب عمرية صحية، ومرشح آخر متهم وحكم عليه في قضايا عدة، فضلاً عن الشك باهتمامه بالقضايا العامة من الأساس، وأيّاً كانت النتيجة بينهما أو بين تغيرات مفاجئة خلال الأسابيع المقبلة.
وكانت هناك مواقف دولية متناقضة من دول العالم الداعمة للقانون والحقوق التي ترفع راية الحرية وحقوق الإنسان من الأحداث الدموية في غزة والجرائم الإسرائيلية ضد الأبرياء هناك، وهي تناقضات وتجاوزات سيكون لها انعكاس واضح وسريع على المعدلات والنظام الدولي المعاصر خلال المرحلة المقبلة.
وليس من المبالغة وصف ما نمر به الآن بأنه مرحلة لا فهم لصعوبة وضع تقديرات مكتملة، مرحلة حساسة تستدعي التريث والاحتياط والحسابات الدقيقة لخطوات محددة ومحسوبة، تمهيداً لما هو مقبل من فرص وتحديات.
ومزيد عن إعادة تشكيل الشرق الأوسط في مقالة مقبلة ومخصصة لمنطقتنا المضطربة.