حرية – (15/7/2024)
أسماء النعيمي
في خضم التغيرات الجذرية التي عايشها العالم في العقد الأخير، استفقنا جميعًا على عالم مختلف تمامًا عما عهدناه. شملت هذه التغيرات كل مناحي الحياة، بدءًا من الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية.
إلا أن كل هذه الظروف، مهما كانت صعوبتها لا تساوي شيئًا أمام التغيرات التي طرأت على الإنسان نفسه. فبينما قد تكون هذه الظروف مؤقتة، إذا عرف العالم كيف يتعامل معها ويتجاوز تبعاتها، تبقى التغيرات النفسية والفكرية التي أصابت الإنسان أكثر تأثيرًا وجذرية. من بين هذه التغيرات، برزت عقلية الضحية كأحد السمات الأساسية التي تميز أفراد المجتمع الحالي في بنياته وتركيباته الإنسانية.
عقلية الضحية التي تعرف كونها حالة نفسية تجعل الفرد منا يشعر بأنه مضطهد أو مظلوم بشكل دائم، ويرى نفسه دائمًا كضحية للأحداث والظروف الخارجية دون أن ينظر لنفسه وللأخطاء التي يرتكبها والتي تجعله يقع في مآس يومية. وهذا الشعور يكون في الغالب مصحوبًا بعدم القدرة على تحمل المسؤولية عن الأفعال أو القرارات الشخصية التي يتخذها مما يدفعه دائمًا إلى إلقاء اللوم على الآخرين أو الظروف المحيطة به.
ومن ضمن أهم التغيرات العالمية على الإنسان والتي ساهمت بشكل كبير في تفاقم الأوضاع التي جعلته يتشبث بمنطق “عقلية الضحية”.
نجد التغيرات التي شهدها العقد الأخير من بينها :
التغيرات الاقتصادية: والتي أدت إلى ظهور الأزمات المالية والاقتصادية العالمية إلى زيادة معدلات البطالة وتراجع مستويات الدخل، مما جعل الكثيرين يشعرون بعدم الأمان المالي.
التغيرات الاجتماعية: حيث شهد العالم تحولات في بنية الأسرة، وتزايد معدلات الطلاق والانفصال العائلي مما أثر على الاستقرار النفسي والاجتماعي للأفراد.
التغيرات السياسية: إذ تزايدت الاضطرابات السياسية والنزاعات المسلحة، مما خلق حالة من الفوضى وعدم الاستقرار والخوف.
التغيرات الثقافية: التي أدى من خلالها الانتشار الواسع للتكنولوجيا والتواصل الاجتماعي إلى تغيير طريقة تفاعل الناس مع بعضهم البعض، وزيادة العزلة الاجتماعية.
وفي ظل مواجهة كل هذه التغيرات الجذرية لجأ الكثيرون إلى تبني عقلية الضحية كوسيلة للتكيف مع الأوضاع المستجدة ومع التحديات والمحن. فمن خلال تبني هذه العقلية، يتمكن الفرد من تجنب المواجهة المباشرة مع مشكلاته والتهرب من تحمل المسؤولية، فعندما يقع في مواقف الحياة اليومية التي لا ترضيه وتجعله مضطرًا للخروج من منطقة الأمان التي تحميه حينما تشتد الصعوبات، يبدأ الشخص بإلقاء اللوم على كل شيء حوله: الأشخاص، الظروف، وحتى الأشياء الجامدة. عدا هو، حيث يصبح وكأنه لا دور له فيما يحدث، محاولًا بذلك تبرير فشله أو معاناته أو عدم كفاءته في حل الأزمات وأحيانًا لتغطية عجزه وعدم قدرته على الصبر.
وينسى أن هذه السمة لها جوانب سلبية عدة بإمكانها التأثير على مسار حياته،
فتبنيه لعقلية الضحية يجعل منه إنسانًا فاقدًا للتحكم في زمام الأمور إذ يشعر بأنه غير قادر على السيطرة على تفاصيل حياته أو تغيير مصيره، مما يؤدي إلى تفاقم شعور العجز والإحباط داخله.
بالإضافة إلى تدهور العلاقات الاجتماعية، حيث يتجنب الشخص تحمل المسؤولية عن أفعاله ويبدأ بإلقاء اللوم على الآخرين مما يخلق فجوة بينه وبينهم وفي كثير من الحالات تُقطع العلاقات بصفة نهائية جراء ذلك.
ناهيك على الصعيد الشخصي فعقلية الضحية تعيق التطور الشخصي والنمو، حيث تجد الفرد فاقدًا للشغف والحافز للعمل على تحسين نفسه وصقل مهاراته أو مواجهة تحديات الحياة.
ومن أسوأ تأثيراتها الانتشار المجتمعي فعندما تنتشر عقلية الضحية بطريقة مبالغ فيها تتشكل ثقافة التذمر والشكوى، مما يعوق تنمية وتقدم المجتمعات.
ولتجنب الوقوع في فخ عقلية الضحية علينا جميعًا أن نكون أشخاصًا ملتزمين وألا نترك أنفسنا فريسة سهلة لهذه العقلية بدءًا من:
تحمل المسؤولية: على الفرد أن يتحمل المسؤولية عن أفعاله وقراراته، ويعترف بأن لديه القدرة على تغيير واقعه مهما كانت الظروف.
التفكير الإيجابي: يجب تبني نظرة إيجابية تجاه الحياة، والتركيز على الفرص بدلاً من الصعوبات.
التعلم من الفشل: يجب اعتبار الفشل فرصة للتعلم والنمو، بدلاً من اعتباره نهاية الطريق.
البحث عن الدعم: يمكن الاستعانة بالدعم النفسي والاجتماعي من الأصدقاء والعائلة والمختصين.
وفي نهاية المطاف علينا أن ندرك أن تبني هذه العقلية يمثل عقبة كبيرة أمام التقدم الشخصي والمجتمعي. فمن خلال الوعي بتأثيراتها السلبية والعمل على تجاوزها، يمكن للأفراد جميعا أن يعيشوا حياة أكثر تحفيزا ورضا، وأن يساهموا بشكل إيجابي في بناء مجتمعات أقوى وأكثر تماسكًا. كما قال ستيف مارابولي: “إن عقلية الضحية ستجعلك ترقص مع الشيطان ثم تشتكي أنك في الجحيم”، فإن التحرر من هذه العقلية يعد خطوة أساسية نحو حياة أفضل وإلا ستظل عالقًا في دواماتها طيلة حياتك.