حرية – (17/7/2024)
إميل أمين
وقتَ كتابة هذه السطور، كان المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري، في طريقه للانعقاد، في مدينة ملووكي، بولاية ويسكونسن الأميركية، وبحضور المرشَّح الجمهوري العتيد، الرئيس السابق دونالد ترمب، الناجي حديثًا من بضع رصاصات طائشة، في مدينة بتلر بولاية بنسلفانيا.
يحمل مؤتمر الجمهوريين عنوانًا يدعو لمساءلة الأيقونات: “لنجعل أميركا غنية مرة أخرى”، وهو شديد التماهي مع شعار ترمب نفسه، خلال سنوات ولايته “اليتيمة” لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى” أو MAGA التي أضحت تشكل حراكًا سياسيًّا لافتًا مثيرًا وربّما خطيرًا في ذات الوقت.
وما بين غنية وعظيمة، يتساءل المرء: “هل أميركا في هذه الأوقات، مرشَّحة بالفعل لأن تعود غنية بالمفهوم الواسع للغنى، وعظيمة بمقاييس الإمبراطوريات التاريخية التي سادت وبادت ذات مرة من عمر البشرية؟”
لا يمكن للمرء أن يتعرض للشأن الأميركي هذه الأيام، من غير أن تعترضه محاولة اغتيال ترمب قبل بضعة أيام، والتي تحتاج إلى حبر كثير يُسال على الأوراق، إن أردنا فهم أبعاد ما جرى على خطورته.
بدايةً، لنَدَعْ جانبًا العديد من روايات المؤامرة التي راجت وستروج طويلا، وللموضوعية، يبدو بعضها من الوجاهة بمكان لأن يناقش بتؤدة وهدوء، وأبسط تساؤل يمكن أن يطرحه رجل الشارع، لا الخبراء الأمنيّين الثقات: “كيف قدر لفتى غرّ، لا يتجاوز العشرين من عمره، أن يصعد إلى سطح مبنى مجاور، لا يبعد سوى مائة ياردة من منصّة المرشح ترمب، وليوجّه له رصاصات سلاحه الآليّ الفتّاك؟
على أن ما كشف عنه الفتى كروكس عبر تسجيل مصوَّر، بشأن كراهيته العميقة للجمهوريين عامة، وللديمقراطيين خاصة، وانقلابه من جمهوريّ الهويّة، إلى ديمقراطيّ الهوى، وتبرعه ببضع دولارات للديمقراطيين، ربما يقرّبنا من عمق أزمة الولايات المتحدة الأميركية الحقيقية، أزمة الهوية، أو الهويات التي باتت قاتلة بالفعل، والتعبير للأديب اللبناني الأصل الفرنسيّ الجنسية أمين معلوف.
ما راج حتى الساعة عن كلمة المرشَّح ترمب، والتي سيلقيها مساء الخميس القادم، في نهاية أعمال المؤتمر، وستعد بمثابة خارطة طريق لولايته المنتظرة حال فوزه، وقد يكون قريبًا بالفعل، أنها ستدعو إلى الوفاق لا الافتراق، وستكون جامعة لا مانعة لعموم الأميركيين، من مختلف الملل والنحل، الطوائف والأعراق… هذا ما يتردّد عبر الأبواق الجمهورية بالفعل.
يَعِنّ لنا التساؤل: “هل يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، هل يمكن أن يحدث هذا التغير الجذري دفعة واحدة بعد محاولة الاغتيال؟
باختصار غير مُخِلّ، في الأمر خدعة، ومحاولة لتعظيم شخصية “ترمب الأسطوريّ”، الذي خرج من وراء المنصة رافعًا يديه بعلامة النصر، والدماء تسيل على وجهه.
لا يمكن أن تتغير دفّة القيادة على هذا النحو، حتى وإن قدم ترمب خطابًا عميقًا طهرانيًّا، فالجميع يدرك أن الرجل له ثأر عميق، مضى عليه أربع سنوات تقريبًا، منذ أن طُرِد من البيت الأبيض، كما لا ينفكّ يردّد، ومن ورائه أتباع بالملايين في طول البلاد وعرضها، شمالها وجنوبها.
ينتظر الأميركيون خطاب ترمب، وهم يدركون أن فكرة المصالحة حكمًا متعذِّرة في الوقت الحاضر، لا سيّما بعد أن أطلق الديمقراطيّون حملات شعواء متعدّدة لشيطنته، وإظهاره في صورة “الميثانتروب”، أو عدو البشر عند آلهة الأوليمب.
يتساءل القارئ: هل الخرق يتسع على بايدن وترمب، ويكشف خللاً في النظام المؤسّسيّ الأميركي، خللاً يعمّ النظام الفيدرالي دفعة واحدة؟
الجواب يأخذنا إلى عمق منطقة الهوية الأميركية، والتي لطالما تفاخرت بأنها معِدَّة حضارية قادرة على أن تقدم أنموذجًا خلاقًا، عُرِف دومًا باسم “بوتقة الانصهار” أو Melting pot، فيما حاضرات أميركا اليوم، تكاد تنقلب على عقبَيْها، وتتعالى الأصوات عبر محاصصات عرقية تارة، ومذهبية تارة أخرى، مجتمعية مرة، وثقافية مرات.
في مؤلفه العمدة “من نحن؟ المناظرة الكبرى حول أميركا”، يقر عالم الاجتماع السياسي الراحل، صموئيل هنتنجتون، رجل تقسيم العالم إلى فسطاطَيْن متقابلين ومتناحرين إلى حدّ التقاتل بالضرورة، بأن الأميركيين يواجهون بالفعل إشكالية الهوية القومية، والتساؤل دومًا على لسانهم: “هل نحن شعب واحد أم شعوب متعددة؟”.
أبعد من ذلك، وبما يتقاطع مع أفكار الغِنَى والعظمة: “هل الولايات المتحدة كما يقول البعض “أمة عالمية” تقوم على قيم مشتركة لكل الإنسانية، وتضم – من ناحية المبدأ – كل الشعوب، أم أنها أمة غريبة يحدد هوياتها تراثها الأوروبي؟
الجزئية الأخيرة المرتبطة بالتراث الأنجلوساكسوني، قد تكون سببًا عمّا قريب، ومن غير أدنى تزيّد أومغالاة، في إطلاق شرارة حرب أهلية أميركية كبرى مرة ثانية.. كيف ذلك؟
للجواب المستفيض، على القارئ أن يراجع ما بات يُعرَف بـ “مشروع 2025″، الذي قام عليها نفرٌ من المؤدلجين اليمينيّين، ممَّن رافقوا ترمب في رئاسته ما بين 2016- 2020، ويكاد يكون مشروعًا بيوريتانيًّا طهرانيًّا، يسعى في طريق “كنعان الجديدة”، التي حلم بها الآباء المؤسسون.
المشروع يتطلع لصبغ الولايات المتحدة الأميركية بصبغة يمينية مغرقة في المثاليّات، ما يعرض البلاد والعباد لمواجهة حَدّيّة قاتلة، بين أميركا المثالية، وتلك الواقعية، وبينهما حكمًا ستسيل الدماء، حال وصول رئيس محافظ إلى البيت الأبيض، وليس شرط أن يكون ترمب، فبنود المشروع الواقع في ألف صفحة، تتجاوز شخص الرئيس إلى مكانة الرئاسة، ومن هنا نراها تسعى لتقليص نفوذ الهيئات الفيدرالية، وتعظيم وتوسيع مساحة السلطة التنفيذية المتمثّلة في الرئيس، عطفًا على فصل نحو خمسين ألف من موظفي الدولة العميقة، والتي تقف حائلاً وسدًّا دون تنفيذ هذه الرؤية.
في هذه الأجواء يتساءل المرء: “كيف لليسار الديمقراطيّ، والذي تتوجه إليه كذلك أصابع لوم كثيرة لتشدده وتطرفه، أن يقابل مثل هذا المشروع؟
هنا يتوجَّب على المخيلة أن تفعل أفاعيلها، ذلك أنه إن كان فتى في العشرين من عمره، قد طالت يداه سلاحًا شديد الفتك على نحو ما رأينا، وكاد أن يقتل ترمب، تُرى ماذا سيكون من شأن جماعات يساريّة منظمة، تؤمن بالعمل الجماعي فوق الأرض وتحتها؟
على أن السؤال الأخطر: “هل هذا التقسيم المانوي، الذي يطال الهوية الأميركية في الداخل، بين أميركيين واسب “أنجلو ساكسون بروتستانت”، وآخرين هيسبانيك كاثوليك، وملايين من الآسيويّين البوذيّين، وبضع ملايين من شرق أوسطيّين عرب، مسلمين ومسيحيين، يمكن أن يضع حدًّا لفكرة الحلم الأميركي، والاستثنائية الأميركية، وينقض الجبل القائم فوقه مصباح ليضيء للعالم، طالما هي مصابة في أثمن ما لديها.
ما جرى في بنسلفانيا، يبقى حتى الساعة ولأسابيع وربما لشهور صدمة مريعة، سوف يستفيق منها الأميركيون بعد فترة بعينها، ليدركوا أنهم قد عادوا إلى سيرة التصفيات الهويّاتية الشخصانيّة، ما يعني أن الجيران في كندا، حين تساءلوا مؤخَّرًا عما هم فاعلون، حال نشوب حرب أهلية في الداخل الأميركي كانوا على حق.
على الأميركيين أن يواجهوا أنفسهم بتساؤلات المصير: “هل هم أساسًا مجتمع سياسي توجد هويّته فقط في عقد اجتماعي مجسَّد في إعلان الاستقلال وغيره من الوثائق الرسميّة؟ هل هم لوحة فسيفسائية أم بوتقة ينصهر فيها الجميع؟
بدون الجواب الصادق والأمين عن سؤال الهويات، غالب الظن سيكون الأسوأ لم يأتِ بعدُ، وهو ما لا نتمناه في الحال أو الاستقبال لأسباب مختلفة.. إلى قراءة قادمة.