حرية – (18/7/2024)
كيف يعيد تنامي نفوذ المتدينين إسرائيل لطريق “الدولة الدينية” بعد 8 عقود من ارتدائها ثوب “العلمانية”؟
في البلدة القديمة في مدينة القدس، وتحديدًا في غربها بالقرب من شوارع يافا وهيلل، حيث يكتظ السياح والمتجولون الأوروبيون، يقع متحف متطور وتفاعلي يحمل اسم “متحف أصدقاء صهيون” (Friends of Zion Museum). في أولى قاعاته، يعيد المتحف الرواية التوراتية ونشأة “الشعب اليهودي ودولة إسرائيل”، من خلال سرده لقصة إبراهيم وسارة والوعد الإلهي بالأرض وأبنائه من بعده، متابعًا بسرد تاريخي لاحتلال المنطقة وتأسيس إسرائيل، للقول إن “هذه هي بداية “إسرائيل” الحقيقية”، رابطين دولة الاحتلال بالرواية التوراتية وبتاريخ الأنبياء، لوهم الزائرين إلى أن تاريخ اليهود في فلسطين بشكل عام، وفي القدس بشكل خاص ممتد لآلاف السنين وليس تاريخًا طارئًا.
ويضم المتحف أيضًا قصصًا عن بعض المسيحيين الصهاينة الأوائل الذين دعموا وتحدثوا عن عودة اليهود إلى أرض فلسطين، حتى قبل مفهوم الصهيونية الحديثة. واحدة من هذه الشخصيات هي جورج بوش، الذي كتب في عام 1844 كتاب “وادي الرؤية، عظام إسرائيل الجافة تعود للحياة”، حيث استلهم من رؤية نبي السبي “حزقيال” عن عودة اليهود إلى أرض فلسطين. وليس تشابه أسماء، جورج بوش هو الجدّ الأكبر لكل من رئيسي الولايات المتحدة الأمريكية الذين دخلا في حرب مباشرة في العراق، جورج بوش الأب عام 1991، وجورج بوش الابن عام 2003.
يذكر هذا المتحف زواره ويذكرنا أيضًا، بجوهر المشروع الاستعماري الصهيوني “إسرائيل” الذي يميزه عن غيره من باقي المشاريع الاستعمارية، ألا وهو أساسه القائم على أساطير دينية التي آمنت ولا تزال تؤمن أن دولة اليهود يجب أن تقام على أرض فلسطين حتى يعود المسيح.
ولعل ذلك يساعدنا على فهم هذا الجوهر الديني المتطرف والمغلق لهذا الاحتلال ودولته، الذي يعاد وبصورة عنيدة للاختلاط بالآخرين والذوبان فيهم؛ بل لا يسعى حتى لتحويل الآخرين إلى دينهم وملّتهم أو حتى طريقة عيشهم، ولذلك قامت سياساتهم بإيمان تام على إبادة “الفلسطينيين” السكان الأصليين عن طريق استحواذ الصهيونية على الأرض بالكامل، وقد حدث ذلك في أبهى صوره عام 1948، عندما قامت الحركة الصهيونية وبصورةٍ مدروسة بأحد أكبر عمليات التطهير العرقي في العصر الحديث.
البدايات الأولى
لم تخفِ إسرائيل أبدًا في أي وقت أساسها الديني، لكن ومن أجل إدخالها في النظام الدولي والشبكات الرأسمالية العالمية كان لا بد من إلباسها لباس “الدولة القومية”، فكان لا مناص من “صناعة هوية وطنية علمانية، كإحلالٍ عن التقييد الديني كأساس وحيد للهوية اليهودية مع الحفاظ على أسسها “العرقية/العنصرية” الأساسية، مادّتها الخام لصناعة “شخص عبري جديد”.
رغم ذلك، لم تستطع إسرائيل أن تكون دولة طبيعية إطلاقًا، فمنذ نشأتها الاستعمارية على أساطير كفكرة الشعب المختار للأرض الموعودة التي ليس لها حدود معروفة، كان دائمًا ضد مفهوم الدولة الحديثة، وحتى ما قبل إنشاء الدولة، وخلال انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول بمدينة بازل السويسرية في 1897، أكد أتباع الحركة الصهيونية أنها “تحقيق للإرادة الإلهية التي تجلّت في هروب اليهود من مصر”.
وخلال نفس المؤتمر أعلن “العلماني” تيودور هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية “لاءاته” الشهيرة: “لا معنى للصهيونية بدون إسرائيل، ولا معنى لإسرائيل بدون أورشليم، ولا معنى لأورشليم بدون الهيكل”، مما يجعلنا أمام شعار ديني توراتي تلمودي، لا يمتّ للسياسة والليبرالية والعلمانية بأي صلة أو مفهوم الدولة الحديثة بأي صلة.
حتى أن حاييم وايزمان القائد الصهيوني العلماني، زعم أمام المؤتمر الصهيوني العشرين سنة 1937 أن “الله وعد اليهود بمنحهم أرض إسرائيل”، وقال أمام اللجنة الملكية البريطانية سنة 1939 إننا “لا نكتسب حقنا على أرض إسرائيل من الانتداب البريطاني، بل من التوراة”.
وعند إقامة الدولة، اختاروا لها اسمًا قوميًا ودينيًا في آن واحد، حيث يعود اسم إسرائيل إلى العهد القديم، ويشير للنبي يعقوب عليه السلام، جدّ الإسرائيليين القدماء، أما عَلَم الدولة فيحمل الكثير من المعاني أهمها نجمة النبي داوود التي تتوسّطه، واتخذت الدولة “الشمعدان السباعي” رمزًا لها، كما يوصف في التوراة، بزعم أن النبي موسى وضعه في خيمة الاجتماع في البرية، ثم في الهيكل بالقدس، ثم أصبحت هذه المنارة شعارًا لجهاز الموساد أيضًا!
وبذلك، تحولت تلك الأسطورة الدينية لكيان يعرف بإسرائيل وظل واحدًا من أكبر الاستثناءات في النظام العالمي، فهو ليس دولة قومية ولا تلتزم بالأعراف والقواعد الدولية، إذ على عكس جميع الدول القومية الأخرى في العالم، فإن حدود إسرائيل غير معروفة إلى الآن. ومن ناحية أخرى، إسرائيل ليست دولة لساكنيها فقط. فوفقًا ل”قانون العودة” في إسرائيل الصادر عام 1950، والموقَّع من أول رئيس وزراء لـ”إسرائيل”، دافيد بن غوريون، ينص على أن كل اليهود غير الإسرائيليين، والمتحولين إلى اليهودية، يحق لهم القدوم والاستقرار في إسرائيل والحصول على جنسيتها. وبذلك تنتهك دولة الاحتلال شرطين أساسيين للدولة القومية: الحدود المعروفة والمواطنة.
إسرائيل من التدين إلى التطرف
ورغم مرور الزمن وتأثيرات الحداثة الشديدة التي نزعت القداسة الدينية عن مفاصل دول كثيرة في العالم والمنطقة، تتصاعد النزعة الدينية لإسرائيل بشكل فج، وذلك أمر لا غرابة فيه إذ كما قلنا يرجع أساس الدولة إسرائيل كدولة دينية إلى جوهر حركة الاستعمار الصهيونية نفسها التي تتسم بعنصرية متجذرة، مستمدة من تعاليمها ونصوص وأساطير دينية مغلقة، ترفع فقط معتنقيها إلى مستوى أعلى من البشر. هذه العنصرية الدينية المثقلة تستند أيضًا إلى تراث تاريخي مليء بادعاءات المظلومية التاريخية التي صُبغ بها مسار الأقليات اليهودية عبر العصور.
وبذلك نجد أنفسنا أمام دولة مغلقة بتعريف ديني شديد العنصرية والانغلاق، لا يحاول حتى دمج الآخر، ولا يكتفي حتى برفضه، بل يتعالى عليه ويزدريه، بل لا يراه بشريًا في مثله، وكما قال وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت “حيوانات بشرية”، وهذا ليس نابع من فكر شخصي، بل فكرة الدولة الدينية التي في تصورهم تمدهم بالحق الإلهي في قتل الآخر ومحوه، ولن نحتاج للذهاب إلى تحليلات بعيدة، فمنذ هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، استعمل رئيس وزراء إسرائيل، بنيامين نتنياهو الذي يعلم الجميع أنه “بعيد عن التدين” خطابًا ذا “نزعة دينية” من أي خطاب استعمله طوال مسيرته السياسية، فبات يستعين مرارًا وتكرارًا باقتباسات وإشارات إلى الكتاب المقدس، سواء في الخطاب الذي يريد به رفع الروح المعنوية للجيش، أم في خطابه العام، أم في الرد على الأسئلة التي يواجهها من الصحفيين وغيرهم.
ففي سياق التعليق على قصف غزة، قال نتنياهو: “في الكتاب المقدس، يقول لنا الرب: (تذكر ما فعله العماليق بك)، ولذلك فإننا نتذكر ونقاتل”. ويوصف العماليق في كتاب صموئيل من العهد القديم، بأنهم قبيلة قديمة هاجمت بني إسرائيل على حين غرة أثناء نزوحهم الجماعي من مصر. ويورد الكتاب أن الرب غضب أشد الغضب من هذا الهجوم المفاجئ والوحشي على بني إسرائيل، فأمر الملك شاول، عن طريق النبي صموئيل، بذبح العمالقة وإعمال القتل فيهم بلا وازع. ويحث النص صراحة على قتل “النساء والرجال والأطفال والرضع والماشية والأغنام”. وعندما أنقذ الملك شاول حياة ملك العمالقة وبعض الحيوانات، ناله غضب الله، وأنكره صموئيل النبي، ونُزعت عنه نعمة الله.
وبذلك ندرك دليلاً آخر على الطبيعة الدينية غير العادية لإسرائيل، التي تستدعي ليس فقط النزعة الدينية لدولة عند الشعور بالخطر بل الاستنفار الشامل “للتطرف الديني” (Radicalization)، والتمسك بطابعها التوراتي. ويمكن ملاحظة ذلك من خلال التزايد المطّرد للمتدينين في السنوات الأخيرة، حيث يبلغ عددهم 1.335 مليون نسمة، أي 13.6% من سكانها، ويتكونون من ثلاث فئات: الحريديم وهم اليهود الأرثوذكس غير الصهاينة، والمتدينون الصهاينة، والمحافظون التقليديون، وتعتبر معدّلات نموّهم الأسرع. ففي عام 2030، خلال ست سنوات فقط، سيشكلون 16% من الدولة، وفي غضون 30 أو 40 عامًا، سيصبح كل ثالث أو رابع شخص من المتدينين، بنسبة ربع السكان، وفي عام 2065 سيكونون ثلثهم.
إذ يسعى المتدينون لأن يشكلوا أغلبية في المجتمع الإسرائيلي من حيث معدل المواليد مقارنة بالعلمانيين، طمعًا لزيادة وزنهم المستقبلي، بزيادة مشاركتهم في شؤون الدولة، ولذلك يبلغ معدل نموهم 4% سنويًا، أكثر من ضعف المعدل الإسرائيلي، وتبلغ خصوبة نسائهم 6.6 طفل لكل امرأة، مقارنة بـ 2.25 طفل لغير المتدينة، و58% منهم تقل أعمارهم عن 19 عامًا.
البروفيسور أرنون سوفير، أستاذ الجغرافيا بجامعة حيفا، ومنظر فرضية “الخطر الديمغرافي الفلسطيني”، قدّر أن “إسرائيل بين 2010-2030 ستكون في طريقها نحو دولة دينية، يتمتع فيها المتدينون بتفوق من حيث الوزن العددي، الاجتماعي، الثقافي، والسياسي”.
إسرائيل الدولة الدينية (إسرائيل.. لا فصل لدين عن الدولة)
فور إعلان الدولة، أقرت مؤسساتها التشريعية جملة القوانين المنسجمة مع الشريعة اليهودية “هالاخاه”، ومنها الأحوال الشخصية؛ وعطلة يوم السبت حيث تعطّل الدولة كليًا، ولا تعقد فيه الاجتماعات الرسمية، ولا تحصل الفعاليات الخاصة، والتعليم الديني، وقوانين الغذاء “الكوشير”، وتعني في الفقه اليهودي “الطعام المباح شرعًا”.
اعتمدت إسرائيل التقويم العبري الديني، وليس الميلادي، بحيث تبدأ السنة العبرية بشهر نيسان ذي الأهمية الاستثنائية عند اليهود؛ ففيه خرج النبي موسى عليه السلام بقومه من مصر، ويقع فيه أهم أعيادهم.
وارتبطت جميع أعياد الدولة الرسمية بالديانة اليهودية مثل عيد يوم الغفران “كيبور”، ويعني “الكفّارة” وهي كلمة بابلية، يصوم فيه اليهود لتطهير أنفسهم من كل ذنب، وحسب التراث الحاخامي، فإنه اليوم الذي نزل فيه سيدنا موسى من سيناء، للمرة الثانية، ومعه لوح الشريعة، وأعلن أن الرب غفر لليهود خطيئتهم في عبادة العجل الذهبي، وعيد الثامن الختامي “شميني عتسيريت”، الوارد في سفر اللاويين الديني، وجاء فيه “في اليوم الثامن يكون لكم محفل مقدس”، وعيد بهجة التوراة (سمحات تواره)، وهو اليوم الذي وقع فيه هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
أما عيد الفصح “بيساح”، فيرمز لخلاص بني إسرائيل من العبودية في مصر، وخروجهم منها بقيادة موسى وهارون ويوشع، أما عيد النصيب “البوريم”، فهو اليوم الذي أنقذت فيه “إستير” يهود إيران من المؤامرة التي دبرها “هامان” لذبحهم، حسب الرواية التوراتية، وهناك عيد المظلة “سوكوت”، إحياءً لذكرى خيمة السعف التي آوت العبرانيين في العراء أثناء الخروج من مصر، وعيد الأسابيع “شفوعوت” المتعلق بنزول التوراة، والوصايا العشر على موسى فوق جبل سيناء، وعيد “التاسع من آب” ترجمة لعبارة “تشعاه بآف”، وهو يوم صوم وحداد في ذكرى سقوط القدس، وهدم الهيكلين: الأول والثاني، ويحرّم فيه الاستحمام والأكل والشرب والضحك.
بل إن جيش الاحتلال الذي يفترض فيه العمل بموجب تعليمات قيادته العسكرية، يستند لفتاوى دينية أصدرها كبار الحاخامات، على رأسها “المسوغ الفقهي” للحاخام إسحاق غيزنبيرغ، و”شريعة الملك” للحاخام إسحاق شابيرا، تستند إليهما الجماعات اليهودية المتطرفة بجرائمها الدموية ضد الفلسطينيين، باعتبارها مقدمة طبيعية للخلاص اليهودي، وتنفيذًا لفريضة شرعية.
وقد دأب قادة الدولة منذ تأسيسها، بمن فيهم الأشد علمانية، على اتباع الطقوس اليهودية الدينية، وارتداء الزي الديني إبان إحياء الاحتفالات والأعياد، لاسيما وضع “الكيبا” على الرأس، و”التفليم” وهي عبارة عن قطعتين من ورق مكتوب على كل منهما أربعة إصحاحات من التوراة داخل حافظتين صغيرتين من جلد، تُثبّت الأولى فوق الذراع الأيسر مقابل القلب، والثانية كعصابة حول الرأس، لكن أول رئيس حكومة ارتدى هذه القبعة بصورة دائمة هو نفتالي بينيت، وكذلك الرئيس السابق لجهاز الأمن العام- الشاباك يورام كوهين، وقائد عام الشرطة السابق روني ألشيخ، فضلًا عن عدد لا بأس به من كبار الجنرالات.
أكثر من ذلك، فقد استخدمت إسرائيل الأسماء الدينية في أسماء أسلحتها؛ فدبابة الميركافا هي مركبة النبي حزقيال التي صعد بها للسماء، وحركة “كاخ” الاستيطانية تعني أن “التوراة في يد، والسيف في يد أخرى”، حتى الأحزاب العلمانية لا تنتقد الديانة اليهودية، أما اسم صحيفة “هآرتس” الأكثر يسارية فيعني “أرض إسرائيل”.
إسرائيل من التدين إلى التطرف
ورغم مرور الزمن وتأثيرات الحداثة الشديدة التي نزعت القداسة الدينية عن مفاصل دول كثيرة في العالم والمنطقة، تتصاعد النزعة الدينية لإسرائيل بشكل فج، وذلك أمر لا غرابة فيه إذ كما قلنا يرجع أساس الدولة إسرائيل كدولة دينية إلى جوهر حركة الاستعمار الصهيونية نفسها التي تتسم بعنصرية متجذرة، مستمدة من تعاليمها ونصوص وأساطير دينية مغلقة، ترفع فقط معتنقيها إلى مستوى أعلى من البشر. هذه العنصرية الدينية المثقلة تستند أيضًا إلى تراث تاريخي مليء بادعاءات المظلومية التاريخية التي صُبغ بها مسار الأقليات اليهودية عبر العصور.
وبذلك نجد أنفسنا أمام دولة مغلقة بتعريف ديني شديد العنصرية والانغلاق، لا يحاول حتى دمج الآخر، ولا يكتفي حتى برفضه، بل يتعالى عليه ويزدريه، بل لا يراه بشريًا في مثله، وكما قال وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت “حيوانات بشرية”، وهذا ليس نابع من فكر شخصي، بل فكرة الدولة الدينية التي في تصورهم تمدهم بالحق الإلهي في قتل الآخر ومحوه، ولن نحتاج للذهاب إلى تحليلات بعيدة، فمنذ هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، استعمل رئيس وزراء إسرائيل، بنيامين نتنياهو الذي يعلم الجميع أنه “بعيد عن التدين” خطابًا ذا “نزعة دينية” من أي خطاب استعمله طوال مسيرته السياسية، فبات يستعين مرارًا وتكرارًا باقتباسات وإشارات إلى الكتاب المقدس، سواء في الخطاب الذي يريد به رفع الروح المعنوية للجيش، أم في خطابه العام، أم في الرد على الأسئلة التي يواجهها من الصحفيين وغيرهم.
ففي سياق التعليق على قصف غزة، قال نتنياهو: “في الكتاب المقدس، يقول لنا الرب: (تذكر ما فعله العماليق بك)، ولذلك فإننا نتذكر ونقاتل”. ويوصف العماليق في كتاب صموئيل من العهد القديم، بأنهم قبيلة قديمة هاجمت بني إسرائيل على حين غرة أثناء نزوحهم الجماعي من مصر. ويورد الكتاب أن الرب غضب أشد الغضب من هذا الهجوم المفاجئ والوحشي على بني إسرائيل، فأمر الملك شاول، عن طريق النبي صموئيل، بذبح العمالقة وإعمال القتل فيهم بلا وازع. ويحث النص صراحة على قتل “النساء والرجال والأطفال والرضع والماشية والأغنام”. وعندما أنقذ الملك شاول حياة ملك العمالقة وبعض الحيوانات، ناله غضب الله، وأنكره صموئيل النبي، ونُزعت عنه نعمة الله.
وبذلك ندرك دليلاً آخر على الطبيعة الدينية غير العادية لإسرائيل، التي تستدعي ليس فقط النزعة الدينية لدولة عند الشعور بالخطر بل الاستنفار الشامل “للتطرف الديني” (Radicalization)، والتمسك بطابعها التوراتي. ويمكن ملاحظة ذلك من خلال التزايد المطّرد للمتدينين في السنوات الأخيرة، حيث يبلغ عددهم 1.335 مليون نسمة، أي 13.6% من سكانها، ويتكونون من ثلاث فئات: الحريديم وهم اليهود الأرثوذكس غير الصهاينة، والمتدينون الصهاينة، والمحافظون التقليديون، وتعتبر معدّلات نموّهم الأسرع. ففي عام 2030، خلال ست سنوات فقط، سيشكلون 16% من الدولة، وفي غضون 30 أو 40 عامًا، سيصبح كل ثالث أو رابع شخص من المتدينين، بنسبة ربع السكان، وفي عام 2065 سيكونون ثلثهم.
إذ يسعى المتدينون لأن يشكلوا أغلبية في المجتمع الإسرائيلي من حيث معدل المواليد مقارنة بالعلمانيين، طمعًا لزيادة وزنهم المستقبلي، بزيادة مشاركتهم في شؤون الدولة، ولذلك يبلغ معدل نموهم 4% سنويًا، أكثر من ضعف المعدل الإسرائيلي، وتبلغ خصوبة نسائهم 6.6 طفل لكل امرأة، مقارنة بـ 2.25 طفل لغير المتدينة، و58% منهم تقل أعمارهم عن 19 عامًا.
البروفيسور أرنون سوفير، أستاذ الجغرافيا بجامعة حيفا، ومنظر فرضية “الخطر الديمغرافي الفلسطيني”، قدّر أن “إسرائيل بين 2010-2030 ستكون في طريقها نحو دولة دينية، يتمتع فيها المتدينون بتفوق من حيث الوزن العددي، الاجتماعي، الثقافي، والسياسي”.
تطور التطرف الديني داخلياً
ما زالت أقوال أبراهام كوك، الحاخام الأكبر الأول لليهود الأشكناز الغربيين، تشكل قاموس عمل للمتدينين اليهود حين قال إن “دور العلمانية في إسرائيل انتهى، أما اليوم، لأن المتدينين أصبحوا قادرين على تدبر أمور إدارة الدولة والجيش، ويحتلون جميع المواقع فيهما”.
وقد سعى المتدينون منذ سنوات لمزاحمة العلمانيين في تحصيل أكبر قدر من المواقع السياسية والحكومية والرسمية، لاسيما الحكومة التي تشكل خليطاً من الأحزاب الدينية، أهمها: شاس والصهيونية الدينية والعصبة اليهودية ويهودوت هتوراة، مما يجعل قرابة نصف وزرائها يرتدون القبعة الدينية.
يستغل المتدينون اليهود وجود الحكومة الحالية لفرض شعائرهم وطقوسهم، ومنها الفصل بين الجنسين في المرافق العامة، وألزموا جامعة “بن غوريون” بتدشين برامج أكاديمية يُفصل فيها بين الرجال والنساء، ونظمت كثير من المجالس البلدية احتفالاتها غير المختلطة، وخصّصت مناطق سباحة منفصلة، واشترطوا انخراطهم في الجيش بخلوّ القواعد العسكرية التي يخدمون فيها من المجندات، فيما يطلب بعض سائقي الحافلات من النساء الجلوس في الخلف، ومنح أحدهم مجموعة فتيات يرتدين ملابس قصيرة قطعة قماش كبيرة لتغطية أجسادهن!
أما القانون الإسرائيلي فيعترف بعقود الزواج المسجلة في المحاكم الدينية فقط، وينزع الشرعية عن عقود الزواج المدني، مع تأكيد 63% من الإسرائيليين أنهم سيختارون لأنفسهم ولأولادهم الزواج حسب الشريعة اليهودية، ورغم أن القانون لا يلزم العائلات اليهودية بختان أطفالها الذكور، فإن 97% منها تقوم بذلك.
معهد غوتمان للأبحاث الاجتماعية أكد أن إسرائيل تمرّ في ذروة سيرورة اتساع التديّن، وتعمّقه، وكشف أن 80% من اليهود فيها يؤمنون بالله، 76% يحافظون على حرمة يوم السبت، 92% يحيون ليلة الفصح، 78% لا يتناولون أطعمة غير حلال، 40% من العلمانيين اليهود يحافظون على قواعد وأحكام الطعام الحلال، و26% من العلمانيين يصومون في يوم الغفران، وغالبية كبيرة منهم تضيء الشموع في عيد الأنوار (حانوكا).
فيما صادق الكنيست على مشروع قانون “القضاء العبري”، لتعميق تأثير “الشريعة اليهودية” على قرارات المحاكم، باعتباره مصدر إلهام للقضاة، وهو خطوة أخرى نحو تحويل إسرائيل إلى دولة شريعة يهودية.
التجنيد العسكري
رغم الصورة النمطية المعروفة باعتراض المتدينين على الخدمة العسكرية، لكن السنوات الأخيرة شهدت مزيدا من انخراط أعداد المجندين منهم أعلى بعدة مرات مما كان في السابق، ولئن كنا لا نرى أحدا من كبار الضباط يلبسون القلنسوة الدينية “الكيبا” على رؤوسهم، فإنهم يتصدرون اليوم مواقع متقدمة في هيئة أركان الجيش، تمهيدا لتشكيلهم قوة كبيرة فيها، مع اقتراب اليوم الذي سيخدم فيه المتدينون والعلمانيون معاً في نفس الوحدات القتالية.
وفيما أعلن وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير قبل أيام عن إقامة الوحدة العسكرية الأولى للحريديم في حرس الحدود، فقد صادقت اللجنة الوزارية للتشريع بالإجماع قبل ساعات على مشروع قانون مثير للجدل في أوساطه، بشأن تجنيد المتدينين في الجيش، في خطوة تسعى لمزيد من إدماجهم في صفوفه.
تشير الاستطلاعات بين المتدينين إلى تغيير لافت في الاتجاه نحو الخدمة العسكرية، وأكد استطلاع أجراه معهد “نانثو إيميت” أن هناك زيادة بنسبة 25٪ في نسبة المتدينين المؤيدين للتجنيد العسكري، وخلال العدوان الحالي على غزة قال 51% منهم إنه يجب عليهم المساهمة في المجهود الحربي، بجانب ما يقومون به من تبرعات للجيش، وتقديم مساعدات لأسر الجنود، بعد أن كان التجنيد بالنسبة إليهم تهديدًا وجوديًا لأسلوب حياتهم، وإضرارًا بعالم التوراة، لكن الأمر اختلف في السنوات الأخيرة، وزاد عقب هجوم حماس في السابع من أكتوبر 2023، حيث طلب عدة آلاف منهم فوق سنّ الإعفاء من الخدمة العسكرية التجنيد في قوات الاحتياط.
التعليم الأكاديمي
بعد أن انحصرت دراسة المتدينين طوال العقود الماضية في تخصص التوراة والتعليم الديني، فقد شهدت السنوات الأخيرة ارتفاع أعداد الخريجين منهم ممن حصلوا على شهادة أكاديمية بنسبة 25٪، وبشكل رئيسي في المهن الطبية والتدريسية، وارتفعت نسبتهم في مؤسسات التعليم العالي من 2% إلى 5% بين 2009-2022.
ويُظهر الكتاب السنوي للمجتمع الحريدي لعام 2023 الصادر عن معهد الديمقراطية الإسرائيلي، أن هناك 29% من المتدينين منخرطين في التعليم الجامعي، وبلغة الأرقام فقد ارتفع عددهم من 3599 طالبًا في عام 2010 إلى 9028 في عام 2019.
وأمام قلق الحاخامات من اندماج أتباعهم في المجتمع الأكاديمي الإسرائيلي بما يشكل تهديدًا محتملاً لمسلكياتهم الدينية، فقد تم إنشاء مؤسسات تعليمية متكيفة مع البيئة الدينية مثل “كلية بني براك الأرثوذكسية المتطرفة، المعهد الأرثوذكسي المتشدد للتدريب المهني، معهد تدريب المعلمين، كلية هداسا، مركز مستشاري الزواج الحاخامي، ومعهد أهيا لتدريب المعلمين”، يدرسون تخصصات العلوم الطبيعية والكمبيوتر والرياضيات.
سوق العمل
بعد أن كان سائدا أن نسبة عالية من المتدينين اليهود لا يعملون مقارنة بزوجاتهم اللاتي يكسبن لقمة العيش، وترتفع نسبة مشاركتهن في سوق العمل، فإن بيانات مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي لعام 2023 كشفت أن غالبية الأشغال العامة الحريدية تصل إلى 68.4٪، وهذا رقم مرتفع مقارنة بالسنوات السابقة، ويشير لزيادة واضحة في أرقام التوظيف بين المتدينين، 81% بين النساء، و 55.5% بين الرجال، وينخرطون في مهن جديدة لم يطرقوا أبوابها من قبل مثل الرعاية الصحية والاجتماعية، والعقارات والتجارة، وريادة الأعمال.
باتت نسبة مشاركة النساء في القوى العاملة 79%، ونسبة الرجال 56%، وبلغ عددهم الإجمالي 81.840 موظفًا، يعملون في 102 دائرة حكومية والقطاع العام بأكمله، بما فيها السلطات المحلية والمستشفيات وصناديق التأمين الصحي والشرطة وجهاز الأمن والشركات العامة وغيرها.
فيما كشفت وزارة الاقتصاد أن العديد من الشركات مملوكة لرجال أعمال متدينين، وتشمل “شركات إلعال، آشر آد، إيكيا”، والعديد من الشركات العقارية، مع العلم أن نسبة انخراط المتدينين في مجال الخدمة العامة تتجاوز الحصول على وظيفة فقط، بل باعتبارها فرصة كبيرة لهم لتحمل مزيد من المسؤوليات تمهيدا لقيادة الدولة.
وأظهر استطلاع أجرته وزارة الشؤون الدينية أن 72.1% من النساء و45% من الرجال المتدينين عبروا عن رغبتهم في الاندماج في القطاع العام، مما دفع رئيس الحكومة السابق نفتالي بينيت لإصدار قرار بإنشاء لجنة لدمجهم في مؤسسات الدولة، ومنحهم مناصب مرموقة في المكاتب الحكومية، وتخصيص 50 منها كل عام لهم، وتوجيههم للمهن المطلوبة في خدمة الدولة، لاسيما في النظام الصحي الحكومي والهندسة المدنية ونظام الإطفاء والإنقاذ من الناحية العملية.
دولة داخل الدولة
بالتزامن مع تنفيذ الانقلاب القانوني الذي حاولت حكومة اليمين تنفيذه بداية عهدها في 2023، وقبيل اندلاع الحرب الحالية في غزة، فقد سعت لمنح خطة لانفصال المتدينين عن الدولة، وتعبيد الطريق أمامهم لإقامة نوع من “الحكم الذاتي”، ويتجلى ذلك في قطاعات: التعليم، المواصلات، السكن، العبء الأمني، مما يعرّض قوة الدولة للخطر، لأنه يجسّد حالة انقسامها: قانونًا وفعلًا، إلى كانتونات وولايات مختلفة، ومع مرور الوقت، لن تكون قادرة على الوجود، وفق التقدير الإسرائيلي.
وتعزيزا للتوجه الانفصالي للمتدينين داخل إسرائيل، فقد أقاموا العديد من منظمات المجتمع الديني مثل “ياد سارة، زاكا، يديديم، عيزر متصيون”، صحيح أنها أنشئت لمساعدتهم فقط، لكنها مؤخرا تقدم المساعدة لكل الإسرائيليين ، على اختلاف مشاربهم الأيديولوجية، كما يحصل في مواجهة عمليات المقاومة، أو في حرب غزة الحالية، حيث تعمل المنظمات على جمع المؤن الغذائية والسترات الواقية لصالح جنود الاحتلال، أو منظمة “أصدقاء العطاء” التي توزع الآيباد والحلويات على الجنود الجرحى، كما يطلب الحاخامات من طلابهم الذهاب لجنازات القتلى من الحرب.
في الوقت ذاته، يتمتع المتدينون اليهود بالكثير من المرافق المنفصلة عن الدولة، ومنها المحاكم الدينية، والإمبراطورية الاقتصادية، وشبكة العقارات المقدرة قيمتها بمليارات عديدة من الشواكل، وتضم 1,100 وقف ديني تابعة للمجتمع الديني تسيطر على أراضٍ، عمارات، شقق وحوانيت بقيمة هائلة، وتتولى الحاخامية الرئيسية ومحاكمها الدينية شؤون إدارتها، وليس مؤسسات الدولة.
الحقوق وليس الواجبات
حتى أن باقي اليهود لا يخفون رفضهم للغطرسة التي يبديها المتدينون تجاههم، وما تسببوا به من زراعة لبذور الكراهية نحوهم، ومحاولتهم فرض أنماط حياتهم وعاداتهم ومعتقداتهم على الدولة بأسرها، مما زاد من حدّة الاستقطاب بين التيارات المختلفة، لأن شعارهم الذي لا يترددون في ترديده أننا “جزء من كلّ إسرائيل من حيث الحقوق، لكننا معفيون من أي التزامات تجاهها”.
ليس ذلك فحسب، بل إن المتدينين اليهود يمارسون الضغوط للحصول على ميزانيات طائلة من دولة لا يعترفون بها، ويجمعون تبرعات دينية داخلها وخارجها، وينشئون آلاف المنظمات غير الربحية، ولا تبدو أموالهم مرئية للسلطات الضريبية، إما بسبب تقاعسها، أو غضّ الطرف المتعمد عن ميزانياتها، وفيما تبلغ مساهمة المتدين اليهودي في خزينة الدولة تُسع مساهمة سواه، فإن ربع دخل الأسر المتدينة يأتي من المخصصات والإعانات الحكومية.
في مجال الإسكان، سعى المتدينون لإنشاء أحياء مخصصة لهم، تحقيقا لقرار حكومي في 2016، بموجبه تبني الدولة مائتي ألف شقة في أحياء مخصصة لهم، ثم ارتفع العدد إلى 218 ألف شقة يتم بناؤها في أحياء حريدية في المدن المختلطة التي يقطن فيها الفلسطينيون واليهود معاً، ولا تتجاوز نسبة المتدينين فيها 15%، خاصة الرملة وعكا، لكن عددا كبيرا من رؤساء السلطات المحلية “الليبراليين” يخشون أن يؤثر هذا التوجه بتغيير التركيبة الديمغرافية والاستيطانية على مستوى الخدمات التي يقدمونها للإسرائيليين.
وصل النفوذ الذي يتمتع به المتدينون إلى حد المطالبة بإقامة “دولتين” لليهود، وفقاً لاستطلاع “غلوبز”، اولاهما “إسرائيل” العلمانية الديمقراطية الليبرالية، وثانيهما “يهوذا” الدينية التقليدية ذات القيم اليهودية، وبينما يرى 73% من العلمانيين أن إسرائيل أولاً دولة ديمقراطية، فإن الوضع معكوس بين المتدينين الذين يرون 90% إسرائيل أولاً وقبل كل شيء دولة يهودية، ويعتقد 58% منهم أنه لا يوجد مكان للنشاط الاقتصادي يوم السبت على الإطلاق، ويطالب 80% بعدم السماح لوسائل النقل العام بالعمل في ذلك اليوم، ويعارض 89%، وهي أغلبية كبيرة منهم الزواج المدني.
لعل الخاتمة الأهم لهذه القراءة المستفيضة لواقع المتدينين اليهود، وتوجهاتهم لسحب اسرائيل نحو مربع الدولة الدينية المتطرفة، عبارة ذكرها غدعون ليفي الكاتب الإسرائيلي الشهير، محاولاً توصيف ما تعيشه الدولة من حالة “تديين” شديد تصاعدية بقوله إن “إسرائيل باتت أكثر قربا إلى طهران من ستوكهولم، بدءً بمرحلة الولادة وانتهاء بحالة الوفاة، ومن الختان إلى الجنازة، لا يوجد زواج وطلاق مدنيان، ولا تكاد توجد جنائز مدنية، وقانون العودة وتعريف اليهودي، والقوانين الأساسية كلها تعتمد على الشريعة اليهودية”.
عربي بوست