حرية – (20/7/2024)
“أن تكون يمينياً يعني أنك تريد عظمة فرنسا. أن تكون يسارياً يعني أنك تريد سعادة الفرنسيين”. كانت هذه الإجابة التي يقول الفيلسوف الفرنسي أندريه كونت – سبونفيل إن والده قدمها له في سنٍّ مبكرة عندما سأله عما يعنيه كلّ من اليمين واليسار.
بهذه العبارة اختصر الرجل الانقسام الأيديولوجي الذي ولد في فرنسا إبّان الثورة الفرنسية عام 1789، ثم صُدّر إلى الحياة السياسية في أوروبا وفي معظم أنحاء العالم حتى يومنا هذا.
ولا يزال هذا الانقسام طاغياً في فرنسا حيث هيمن على الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي فاز فيها اليسار الممثل بائتلاف الجبهة الشعبية الجديدة بشكل لم يكن متوقعاً، فيما هُزم اليمين المتطرف الممثل بالتجمع الوطني والذي بدا في الجولة الأولى من الانتخابات قريباً من الفوز.
ما هو أصل التسمية؟
تفيد القصة الشهيرة أن مصطلحي “اليمين” و”اليسار” ولدا من ترتيب الجلوس في الجمعية الوطنية للثورة الفرنسية عام 1789، ولكن المؤرخ الفرنسي مارسيل غوشيه يقدّم تحليلاً أكثر دقةً لأصل هذه التفرقة.
وبحسب القصة الشائعة، فإنّ اعتماد مصطلحي “اليمين واليسار” للتصنيف على أساس الميل السياسي، جاء من تقسيم المقاعد في الجمعية الوطنية أو البرلمان الفرنسي، إذ تحرّك أنصار الملك والنظام تدريجياً صوب يمين الرئيس، فيما انتقل أنصار الحرية والمساواة إلى اليسار.
ولكن، بحسب غوشيه، فإن هذا التصنيف الثنائي لم يصبح استعارة سياسية هامة إلا في وقتٍ لاحق، لا سيما مع صعود الاشتراكية في أواخر القرن التاسع عشر.
ويجادل بأن المعنى السياسي الحقيقي والأثر الاجتماعي الأوسع لهذا التفرقة اليسارية – اليمينية لم ينشأ فقط من أحداث الثورة الفرنسية، أو ترتيب مقاعد البرلمان الفرنسي بحسب الموقف من الملكية، بل من خلال تطور الأيديولوجيات السياسية، وبخاصة ظهور الحركات الاشتراكية.
ينتقد غوشيه تبسيط السرد التاريخي، مشيراً إلى أن استعارة اليسار واليمين اكتسبت أهميتها السياسية الكبيرة وعالميتها مع نمو الاشتراكية الديمقراطية. ويقول إن هذا التصنيف الذي كان ينطبق في البداية على ترتيبات الجلوس البرلمانية، أصبح في النهاية يرمز إلى صراعات أيديولوجية أعمق حول المساواة، والعدالة الاجتماعية، وتنظيم المجتمع.
وفيما أصبح المصطلحان يستخدمان بمرور الوقت على نطاق واسع لوصف الأيديولوجيات والمواقف السياسية خارج سياق الثورة الفرنسية، يعود بنا تأصيل المعاني التي اقترنت باليسار واليمين تاريخياً إلى ملاحظة الدلالة الأخلاقية التي ترتبط بهما والتي رسّخت التسمية على الأقلّ في بداياتها.
في هذا السياق، يلاحظ كتاب “اليسار واليمين” لمؤلفَيه آلان نويل وجان فيليب تيريان أنه في اليونان القديمة مثلاً، كانت اليد اليمنى مرتبطة بالذكورة، بالخط المستقيم، بالنور وبالخير، بينما كانت اليد اليسرى تشير إلى صورة المرأة، وكل ما هو معوجّ، وإلى الظلام والشر. ثم نجد في التقاليد اليهودية، ثم المسيحية والإسلامية، أنّ “المختارين يكونون على يمين الله والملعونين على يساره”. كما يعتبر البوذيون أنه بعد الموت، نقف أمام مفترق طرق، وأن الطريق اليمين هو الذي يؤدي إلى النيرفانا أو حالة الخلاص.
وينقل الكتاب عن عالم الاجتماع روبرت هيرتز أن “اليد اليمنى شكّلت دائماً رمزاً ونموذجاً للأرستقراطية فيما تمثل اليد اليسرى العامة والشعب”. ويلفت المؤلفان إلى أن لغات العالم كافة تنقل الرسالة نفسها، حيث أن المصطلحات التي تشير إلى اليمين ترتبط عموماً بصفات حميدة والمصطلحات التي تشير إلى اليسار ترتبط بالعيوب. في اللاتينية على سبيل المثال، الكلمة التي تعني اليمين هي dexter، والتي جاء منها مصطلحdexterity أي المهارة، أما الكلمة التي تعني اليسار فهي sinister التي باتت تشير إلى الشرّ والأذى.
كذلك، في اللغة المحكية في مصر على سبيل المثال نجد عبارة “السكّة الشمال” أي الطريق إلى اليسار والتي ترتبط بالرذائل والأفعال المكروهة اجتماعياً.
ثم انتهى المطاف بانقسام اليسار واليمين ليصبح الاستعارة السياسية العالمية الأشهر حتى يومنا هذا. هذا “التصنيف الثنائي الفقير والتبسيطي” كما يقول غوشيه بتعجّب، “تمكّن من تجسيد المشاعر، والعواطف، والأفكار والذكريات لأجيال بأكملها، في كل أنحاء العالم”.
انقسامٌ متحرّك
على الرغم من كون اليسار معروف تاريخياً بتبنّيه قيم المساواة والعدالة الاجتماعية والتقدّم، فيما يرتبط اليمين بقيم المحافظة والرجعية وعدم إيلاء المساواة أهمية كبرى، يظهر تاريخ نشأة هذا الانقسام في فرنسا أنه لطالما كان انقساماً سلساً أو مرناً أو متحرّكاً (سائلاً بالتعبير الحرفي أي بعكس الجامد).
تاريخياً، تبادل المعسكران العديد من القيم والأدوار، كما أن الحركة السياسة جعلت الجهات والتنظيمات تتبدل، فمن كان يُصنَّف يسارياً في مرحلة ما اقترب شيئاً فشيئاً من اليمين وأحياناً بالعكس.
في فرنسا كما في أماكن أخرى، تحت النظام القديم قبل الثورة، لم تكن الاستعارة السياسية الأساسية أفقية بل عمودية، أي بين من هم “فوق” ومن هم “تحت”.
ويقول غوشيه إنه خلال معظم القرن التاسع عشر، بقي التمييز بين اليسار واليمين محصوراً في مؤسسة واحدة وفي بلد واحد فقط. وكان يخص حياة الجمعية الوطنية الفرنسية وجزءاً من المفردات التقنية للشؤون البرلمانية فقط.
وعند تبنّي حقّ الاقتراع العام للذكور في عام 1848، كان السياسيون والناخبون الفرنسيون يتحدثّون بدلاً من ذلك عن المعارضة الحادة بين الجمهوريين والمحافظين، أو بين “الحمر والبيض”، وهما الفريقان اللذان انقسم بينهما المدافعون عن الثورة والمعارضون لها.
كان هذا الانقسام مشابهاً جداً للذي كان موجوداً بين اليسار واليمين في الجمعية الوطنية الفرنسية، لكن الاستعارة المكانية لم تكن قد انتقلت إلى الاستخدام العام، ولم تكن عالمية بعد.
حدث التحول في تسعينيات القرن التاسع عشر، مع صعود الاشتراكية في فرنسا. حتى ذلك الحين، كان اليسار البرلماني يعرف أساساً بدفاعه عن الجمهورية، الديمقراطية والعلمانية ضد اليمين الذي لا يزال متمسكاً بالمَلَكية، وبحق التصويت المحدود، وبالتمويل الحكومي للمؤسسات الدينية. ولكن في نهاية القرن التاسع عشر، برز يسار جديد، لم يكن جمهورياً فحسب، بل أيضاً اشتراكياً.
ومثّل الاشتراكيون طبقة عمالية متزايدة التنظيم تشارك في حركة أممية، وباتوا يشكلون تحديًا للجمهوريين الذين كانوا متمسكين بترك الأمور على حالها في ما يتعلق بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية.
وبدءاً من عام 1893، حققت الأحزاب الاشتراكية مكاسب انتخابية وسيطرت تدريجياً على اليسار في الجمعية الوطنية، مما دفع الجمهوريين إلى اليمين. وانضوى في كلا المعسكرين نواب يؤمنون بالجمهورية ويعتبرون أنفسهم من اليسار، ولكن الجمهوريين القدامى كانوا مضطرين إلى أن يصبحوا “رجال الوسط الذين أجبرتهم الظروف على الجلوس إلى اليمين”.
عندئذٍ، اكتسب انقسام اليسار واليمين المعنى الذي نعرفه اليوم.
وأصبحت الاستعارة المكانية تصف انقساماً أساسياً بشأن المساواة، وهو أمر عام بما يكفي لإعادة تشكيله بناءً على تطور الظروف والتحالفات، من دون إلغاء معناه كتمثيل جماعي للصراع الدائم الذي يقسم الديمقراطيات.
والأهم من ذلك، أن استعارة اليسار واليمين تجاوزت حدود الساحة البرلمانية لتنتشر إلى المجتمع الفرنسي ككل، “وتحدّد معسكرين سيقاومان الزمن ويشكلان ثقافتين سياسيتين متعارضتين”، بحسب نويل وتيريان.
نظرتان مختلفتان إلى العالم والزمن
يقول غوشيه إن استمرارية الانقسام بين اليسار واليمين يكمن إلى حد كبير في البُعد الأنثروبولوجي والعاطفي، إذ أن واقع الانقسام – خصوصاً في عصرنا هذا – لا تحدده برامج سياسية، بل هو أقرب إلى العواطف.
فبالنسبة لشخص يشعر بأنه ينتمي لليمين اليوم، فإن اليسار دائماً مكوّن من “السذّج” الذين لا يعرفون ما هي الحقيقة و”يعيشون في الغيوم”. وبالنسبة لشخص ذي ميل يساري، فإن اليمين دائماً “مأهول بالأوغاد”، أو الأشخاص غير الأخلاقيين الذين يتقبّلون كل ما هو سيّئ في العالم بحجة أن “هذا هو الحال”، في حين أن الموقف الشرعي الوحيد بالنسبة لليساريين يجب أن يكون الثورة.
من جهته، وضع الفيلسوف الفرنسي أندريه كونت سبونفيل أساسيات للتفرقة بين المعسكرين، على الرغم من أن الواقع الحالي أظهر تعقيدات وتداخلات تخطت تلك الفروقات الأساسية.
ويقول في كتابه “المعجم الفلسفي”، إن اليسار، منذ الثورة الفرنسية، يدعم التغييرات الأكثر جذرية أو الأكثر طموحاً. حيث أن الحاضر لا يرضيه أبداً، وهو يريد أن يكون ثائراً أو إصلاحياً – والثورة أكثر يساراً من الإصلاح بالطبع. أما اليمين فهو يستمتع أكثر بالدفاع عما هو موجود. إذاً، برأي كونت-سبونفيل، هناك جانب متحرّك من جهة، وجانب نظامي محافظ أو رجعي من الجهة الأخرى.
ويرى أن “الفارق التوجيهي” بين الإثنين هو أن اليسار يريد أن يكون متقدماً، إذ إن الحاضر يمثّل بالنسبة له مصدراً للملل أو خيبةً لآماله؛ والماضي يثقل عليه: فهو يفضل أن يمحوه، وأن يقوم، كما يقول نشيد الأممية، قلب “صفحة بيضاء”، أي البدء من جديد.
ويلاحظ أن الجهتين ليس لديهما العلاقة نفسها مع الزمن، ولا العلاقة نفسها مع الواقع أو مع الخيال. يقول إن “اليسار يميل أحياناً، بطريقة قد تكون خطيرة، نحو اليوتوبيا. بينما يميل اليمين أحياناً، بطريقة قاسية، نحو الواقعية. اليسار أكثر مثالية، بينما اليمين أكثر اهتماماً بالفعالية”.
ويضيف أن ذلك لا يمنع الرجل اليساري من أن يكون واقعياً أو أن يسعى إلى الفعالية، ولا يمنع الرجل اليميني من أن يمتلك أهدافاً سامية، و”لكنهما يخاطران في كلتا الحالتين بإيجاد صعوبة كبيرة في إقناع معسكراتهم الخاصة”.
الفرق الثالث بالنسبة للفيلسوف الفرنسي هو بشكل أساسي سياسي، إذ أن اليسار يريد أن يكون إلى جانب الشعب، مع منظماته (الأحزاب، النقابات، الجمعيات)، وتمثيله (البرلمان). فيما يكون اليمين، من دون أن يحتقر الشعب بالضرورة، “أكثر تعلّقاً بالوطن، والوطنية، وعبادة الأرض أو الزعيم”.
وفيما لدى اليسار فكرة معينة عن الجمهورية، توجد لدى اليمين فكرة معينة عن فرنسا، والحديث هنا عن السياق الفرنسي بالتحديد. اليسار يميل بشكل طوعي نحو البيروقراطية؛ بينما يميل اليمين نحو القومية، وكراهية الأجانب، أو السلطوية. “ليس لدى اليسار واليمين الأحلام نفسها ولا المخاوف نفسها”.
ويشير كونت-سبونفيل إلى أن اليسار يرفض الرأسمالية أو يتقبلها على مضض، ويثق بالدولة أكثر من السوق، ويدعم التأميم بينما يتأسف على الخصخصة. على النقيض، يثق اليمين بالسوق أكثر من الدولة ويدعم الرأسمالية بقوة، ويفضّل الخصخصة، ويدعم التأميم عند الضرورة فقط. بشكل عام، اليسار يميل إلى دولة الرفاهية والتخطيط، بينما يميل اليمين إلى السوق والمنافسة.
وعلى الرغم من أن بعض الأفراد في اليسار يمكن أن يكونوا ليبراليين اقتصادياً، وبعض الأفراد في اليمين يمكن أن يدعموا دور الدولة، يبقى الفرق الأساسي في توجهاتهم الاقتصادية واضحاً.
الفروقات الأخيرة بين اليسار واليمين تشمل القيم والسلوكيات. اليسار يركز على المساواة، الحرية الأخلاقية، الدفاع عن الضعفاء، والتضامن، بينما اليمين يركز على نجاح الفرد، الجدارة، الحرية الاقتصادية، الدين، والوطنية. العدالة عند اليسار تعني الإنصاف والمساواة الفعلية، بينما عند اليمين تعني المكافأة على المزايا الفردية.
ويذكر كونت-سبونفيل أن الفروقات الطبقية لا تزال تلعب دوراً كبيراً في الانتماء إلى كلا المعسكرين، حيث اليسار يمثل الطبقات الشعبية. في المقابل، اليمين يجد دعمه بشكل أساسي بين المستقلين مثل الفلاحين وأصحاب الأعمال الصغيرة الذين يمتلكون أدوات عملهم. وعلى الرغم من وجود تداخل بين الطبقات، تظل هذه الحدود واضحة. اليسار يجذب الطبقات الفقيرة والعمال، بينما اليمين يجد دعمه بين البرجوازية والمديرين التنفيذيين وأصحاب المهن الحرة.
غير أن عدداً من المفكرين لاحظوا في السنوات الأخيرة تغيّراً في هذا المؤشر الاجتماعي، إذ يعيدون صعود اليمين المتطرف في أوروبا إلى غضب الطبقات الفقيرة والمهمشين من ضحايا الاقتصاد النيوليبرالي في المدن الكبرى، والذين يشعرون بأنهم متروكون في نظام الجدارة الذي يزداد شراسة.
ووفقاً لعالم السياسة جيروم فوركيه والكاتب جان لوران كاسلي في كتابهما “فرنسا تحت عيوننا”، فإن التفكك الصناعي، وظهور “بروليتاريا جديدة من دون وعي طبقي”، وتعمق الفجوات بين “البوبو” (المنتمون إلى الطبقات الوسطى من أبناء المدن وذوي الميول اليسارية والليبرالية) و”البوف” (رجال الطبقات الشعبية الذين يتسمون عامةً بالابتذال وقلة الثقافة وضيق الأفق)، وعملية عزل المدن الصغيرة والمتوسطة، واختفاء الطبقة الوسطى تقريباً، والتحولات الاجتماعية في فئة المعلمين تشكل جزءاً هاماً من “التحول الكبير” الحاصل لمصلحة صعود اليمين.
ثقافة “اليقظة” و”اليسار الإسلامي”
“عندما يسألني أحدهم عما إذا كان لا يزال هناك معنى للفصل بين الأحزاب اليمينية والأحزاب اليسارية، وبين الأشخاص اليمينيين والأشخاص اليساريين، فإن الفكرة الأولى التي تخطر ببالي هي أن الشخص الذي يطرح هذا السؤال بالتأكيد ليس شخصاً يسارياً”، كتب الفيلسوف والصحافي الفرنسي آلان عام 1930.
يقول مارسيل غوشيه إن ظهور حركات سياسية جديدة مثل التنظيمات البيئية أو الحركات الشعبوية يقلب الانقسام التقليدي بين يمين يسار. ويعطي أمثلة على ذلك أن الحركات البيئية موجودة على طرفي الطيف في أوروبا، ولا يقتصر حضورها على اليسار، بل هناك حركة بيئية يمينية بارزة لا سيما في ألمانيا. وفيما تتميّز الشعبويات اليسارية بخطابها عن إعطاء الصوت إلى الشعب، تنطوي تطلعات اليمين الشعبوي في أوروبا على أفكار وقيم قومية وهوياتية تتسم برهاب الأجانب.
وفي حين أن الميل اليساري غلب على فرنسا منذ عام 1815، يرى غوشيه أنه بعد عام 1945 “ثمة شيء قد انكسر”، إذ لم تظهر بعد ذلك أي قوة جديدة على يسار الشيوعيين الذين حكموا بعد الحرب العالمية الثانية، حتى مع “الفوز الثقافي” لليسار بعد احتجاجات 1968، غير أن الرقعة التي يتحرك عليها اليسار شهدت برأيه جموداً منذ ذلك الحين.
ويرى أن اليمين بدأ يكسب المعركة شيئاً فشيئاً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
وفيما صاغ الناقد الأدبي ألبرت تيبودي مصطلحاً جديداً في فترة ما بين الحربين وهو “السينيستريسم” (من اللاتينية “سينستر”، وتعني “اليسار”) للإشارة إلى حركة استبدلت الأحزاب اليسارية بأخرى أكثر تطرفاً، والميل بشدة إلى الأفكار والقيم اليسارية.
يذكر المؤرخ جيرار نوارييل، أن التحوّل نحو التقشف المالي في عام 1983 أدى إلى تقسيم اليسار الشعبي واليسار المجتمعي الذي يهتم أكثر بمكافحة التمييز من مكافحة تجاوزات الرأسمالية.
ثم وصلت ثقافة “اليقظة” (Wokism) التي نشأت في الولايات المتحدة وتنامى الحديث عنها في السنوات القليلة الماضية لوصف الأفراد والمجموعات المؤيدين للعدالة الاجتماعية. ورسخّت هذه الثقافة ما يعرف بـ”الحروب الثقافية” وأثرت على شكل الاصطفافات والقيم والقضايا التي تهم طرفي الطيف السياسي.
وقد شهدت فرنسا في الأعوام القليلة الماضية، لا سيما في الأوساط الأكاديمية والإعلامية، نقاشات حادة حول قضايا مرتبطة بالإسلاموفوبيا والنسوية وقضايا مجتمع المثليين والعابرين جنسياً وما بعد الاستعمار، حتى أن من يصنّفون أنفسهم كمناهضين لثقافة اليقظة، أطلقوا على مجموعات معيّنة في الأكاديميا والمجال العام اسم “اليسار الإسلامي” بغية اختزال هؤلاء في هوية تتبنى أفكار يسارية وليبرالية وتتعاطف مع المسلمين والمهاجرين في فرنسا وأوروبا.
عند هذا الحد تساءل العديد من المفكرين عن تأثير هذه الثقافة ومن خلفها “سياسات الهوية” التي تركز على حقوق الأقليّات، على أفكار اليسار ودوره.
وذهب بعض هؤلاء، مثل الفيلسوفة الفرنسية ستيفاني روزا إلى طرح سؤال مفاده “هل أصبح اليسار ضد التنوير؟” وهو عنوان لكتاب لها أصدرته عام 2020.
وتشكك روزا في موقف اليسار الفرنسي اليوم من ثلاثة مبادئ رئيسية موروثة من هذه الفترة التاريخية: العقلانية، والتقدمية، والكونية. وترى أن بعض مواقف اليسار، خصوصاً تلك التي تتبناها مجموعات مثل “فرنسا الأبية” بقيادة جان لوك ميلانشون، قد تبدو وكأنها تنفصل عن إرث التنوير، بخاصة في مجال التعاطف والتضامن العالمي.
وترى مثلاً أن اليسار منقسم بعمق بين التقليد والتقدمية في القضايا الدينية، خصوصاً في ما يتعلق بالإسلام. وتقول إن “سلطة تقاليد الشعوب هي فكرة يمينية في الأساس، لكننا نجدها اليوم موضع دفاع من قبل بعض الأطراف في اليسار. هذا انقلاب متناقض”.
وتنطلق من هنا لتشير إلى المكانة التي تحتلها الآن النقاشات حول الهوية مقارنةً بالاهتمامات الاجتماعية. وتقول: “لقد توسع اليسار في المجال المتعلق بالحقوق الفردية. وإذا كانت هذه الحقوق ضرورية، فلا يجب أن تحتكر كل اهتمامه، لأن الليبراليين أكثر استعداداً لهذا الدور. لذلك، ترك اليسار مجالاً كاملاً، ليس بالضرورة الضواحي الكبرى ولكن بشكل عام ذلك المجال المتعلق بالسكّان المهمشين، المنفصلين عن المراكز، عن الوظائف وعن الوصول إلى وسائل النقل”.
وترى أنه يجب على اليسار مخاطبة الشعب الفرنسي خارج المدن الكبرى. وأنه يجب إعادة التوازن بين النضالات في الدفاع عن حقوق الأقليات، التي تظل ضرورية، وبين حقوق العمل.
“مقاومة جديدة”
غداة فوز “التجمع الوطني” في الجولة الأولى من الانتخابات البرلمانية الفرنسية بنسبة حوالي 33 بالمئة، تساءلت الأديبة الفرنسية الحائزة على جائزة نوبل، آني إرنو: “كيف وصلنا إلى هنا؟ 10 ملايين ناخب لحزب عنصري؟”، وفيما ترى أن هؤلاء ليسوا بالضرورة كلهم عنصريين، “لكننا نعلم أنه لسنوات، منذ جان ماري لوبان، سُمح بنمو الفكرة القائلة إن الهجرة هي المشكلة”.
وتشير إرنو في مقابلة مع صحيفة “ليبراسيون” الفرنسية، إلى أن هذه الفكرة اكتسبت أهمية متزايدة مع استطلاعات الرأي حول ما إذا كنت “تعتقد أن هناك الكثير من المهاجرين في فرنسا؟”. وتقول إن وسائل الإعلام المهيمنة شاركت في تصنيف الأجنبي “ككبش فداء” بشكل متكرر، حتى انتهى بها الأمر إلى إقناع المناطق الريفية بذلك على وجه الخصوص، حيث لا يتواجد المهاجرون كثيراً.
وترى أنه يضاف إلى ذلك حملة تشويه سمعة اليسار، واستخدام الإسلاموفوبيا من خلال اتهام اليسار بمعاداة السامية. هناك أيضاً تخلّي تدريجي عن العمال، مع الإغلاق المتتالي للمصانع الذي يغذي الشعور بالظلم الاجتماعي وهو أساس تصويت للتجمع الوطني. وترى إرنو أن تدمير الخدمات العامة والمستشفيات والمدارس حقيقة يعاني منها الجميع اليوم، وبخاصة المناطق الريفية. لكن “الخطأ هو الاعتقاد بأن التجمع الوطني لديه الحل”.
من جهته، قال عالم الاجتماع الفرنسي إدغار موران في مقابلة أجرتها معه الصحيفة نفسها في أعقاب نتائج الجولة الأولى من الانتخابات الأخيرة، إننا “نعيش في عصر يتسم بانتصار الوهم والكذب، مما يشكل هزيمة كبيرة لفرنسا وأوروبا والإنسانية”.
ورأى الرجل الذي احتفل قبل أيام بعيد ميلاده الـ103، أنه “حان وقت المقاومة الجديدة”. وتابع: “المقاومة قبل الأمس كانت ضد الاحتلال النازي، ومقاومة الأمس كانت ضد عودة الوحشية القديمة المتمثلة بالكراهية والازدراء والمرتبطة بالوحشية الجديدة المتمثلة بالحساب الأعمى والربح المتفلت”.
ويضيف موران أن “المقاومة الجديدة هي في المقام الأول مقاومة للروح ضد الأكاذيب والأوهام والهستيريا الجماعية التي يتسلّقها اليمين المتطرف في فرنسا وأوروبا. المقاومة الجديدة تتخذ جانب إيروس، قوة الإبداع، ضد بوليموس وثاناتوس، قوة الحرب ونزعات الموت، وتسعى إلى إنقاذ الجنس البشري من نفسه”.