حرية – (23/7/2024)
أسماء النعيمي
كل الأجيال المتعاقبة التي تعيش التراجيدية ‘الخوف’ تظل حياتها وكأنها قد التف حبلٌ سميك حول عنقها لا هي قادرة على فكه، ولا هي قادرة على العيش معه، تظل متخبطة جراء انعكاساته على سير حياتها .
بالرغم من أن شعور الخوف يعتبر من المشاعر الطبيعية التي توارثت معنا نحن البشر إلا أن هذا الشعور الغريب كلما زاد عن حده أدخل صاحبه في دوامة لا تنتهي ، ليس لأنه من العيب أن نخاف، ولكنّ العيب أن نظل محشورين في مستنقعه على الدوام حتى لو أنكرناه وظللنا نُنسِب سلوكياتنا لأشياء أخرى بعيدة تماماً عنه حتى لا يقال هنا “خوافين”، إلا أنه ملتصق بنا لا يمكن لنا التخلص منه بل يلزمنا أسلوباً خاصاً للتعامل معه ، فعلاقة الإنسان منا معه هي علاقة أزلية لذلك كلما خرجت عن المنطق تفاقمت مشاكلها، حيث من الطبيعي أن نخاف المرض ومن الحزن ومن الفشل ومن الفقد.. الخ. لكن وجب علينا ضبط هذا الشعور في الوقت المناسب كي لا يطغى علينا والتعامل معه بحكمة، لكن غالبيتنا لا يدرك أن هذا الأخير يعد كالمغناطيس تماماً يجذب له كل من يحاول تفادي الوقوع بجحره على الدوام، وكما يقول سيدنا علي ابن أبي طالب رضي الله عنه: “الناس من خوف الذلّ هم في ذلّ ومن خوف المرض في مرض ومن خوف الفقر في فقر”؛ لأن هذا الشعور الفطري إن لم نتحكم به نكون قد منحناه القدرة على استدعاء أحداث وهمية ومؤذية ترغمنا على العيش في تعاسة دائمة.
فلماذا مثلاً نجد شخصاً منا كل المحيطين به يرون أهمية الاستقرار والنعمة التي يمتلكها إلا هو مستسلم للخوف فقط خشية زوال النعمة بدل أن يستمتع بها؟ كيف للإنسان أن يتشبث بالخوف لدرجة الهروب من المواجهة خشيةً منها كونه يضخم تبعياتها؛ بسبب هذا الشعور الذي يطغى عليه ويُحمّل بذلك ذاته ضغوطاً نفسية تتخطى قدرات تحمله؟ فنجد هناك من يُقدِم على اتخاذ الكذب خوفاً من العتاب وادعاء المعاناة، خوفاً من الحسد وتجسيد دور “المنحوس” كلما همّ بعمل جديد خوفاً من الفشل والتشبث بالغيرة والشك الذي يحرق أي علاقة خوفاً من الخيانة والاستغناء، مع أنه يدرك تماماً أن هذه كلها سلوكيات تدفع المرء للاستسلام والعيش في بؤرة التوقعات اللامنطقية، رغم ذلك يلتجئ إليها فقط لتجنب نتيجة وهمية تتواجد بمخيلته وحده لفرط هذا الشعور داخله.
مع أنه لو قرر أن يستريح من الخوف، ومن القلق، ومن توقع الأسوأ، من عناء التفكير، من عشرات المعارك التي يخوضها بالتوازي، ويعتقد أنه أخفق حينما تأخر للحصول على انتصاره بها سيكون أفضل له بكثير.
لكن بعضنا عشق هذا الشعور كونه يجعله في نظر نفسه والبعض الآخر “ضحية”؛ ضحية للظروف للأشخاص؛ حيث كلما وقع في موقف يجبره على اتخاذ قرارات مصيرية تجده يرتكن جانباً بحجج واهية وسلاحه المثل الشهير “اللي خاف نجا” فيظل محشوراً بين ثنايا الخوف، ولا ينتبه للأعوام التي تُسرق منه لصالح كل شخص حارب ذاك الشعور واختار المعركة معه حتى يصل لما يطمح.
صحيح أننا صرنا نعيش في زمن يشهد مآسي وتغيرات حتمية لم يسبق لها أن حدثت، ومع ذلك هذا ليس مبرراً كافياً كي يظل الفرد منا قابعاً في ظلام الخوف، فالحياة لن تكون سهلة ولا يجب أن تكون كذلك، وظروفها حتماً ستلعب بنا بين الفينة والأخرى؛ بدءاً من الحروب والصراعات التي يشهدها العالم إلى الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية التي تصبح أكثر سوءاً مع الأيام انتهاء بالقوانين التي تتجدد من حين لآخر وتؤثر بشكل أو بآخر على مجرى مخططاتنا حتى لو لم تكن على هوى الكثير منا، ناهيك عن التغيير الجذري الذي عرفته النفس البشرية والذي سبب خللاً كبيراً في الثقة بين الناس كل هذا يؤثر على الحالة النفسية ويدفع المرء إلى المزيد من التشاحن داخله، لكن لا يجب بتاتاً أن يضعنا في خانة الضعفاء، ويجبرنا للتصرف كالجبناء ونختبئ في عالمنا خشية المواجهة وكأننا الوحيدون في هذا العالم من نعاني، المواجهة التي ذكر علماء العصر الحديث المهتمون بالموضوع أنها تعتبر من أهم وأفضل الاختيارات للتعامل مع الخوف بعدما قسمونا نحن البشر لأربعة أقسام في كيفية تعاملنا مع هذا الشعور؛ حيث منا من يتخذ الهروب كحل له كونه الوسيلة الأسهل، ومنا من يتخذ التمرد عليه من خلال التضاد معه ورفض تقبل كل المواقف التي تتطلب التعامل معه، ومنا من يستسلم له ويسمح له بجذبه نحو القاع، وأضمن ما ذكروه من يتخذ قرار مواجهته، المواجهة التي يُحكى بأنها الوسيلة التي تسمح له بالتخلص من هذا الشعور بشكل نهائي بعدما يتعامل معه الشخص بشكل منطقي وبحكمة ونضج.
واتخاذنا للمواجهة كحلّ يعني أننا أشخاص أسوياء نؤمن بأن “دوام الحال من المحال”، فبعد عتمة الليل حتماً سيشرق فجر جديد وينير الحياة بأشعة شمس النهار، والأهم من كل هذا كيف لنا أن نترك أنفسنا نخشى ونخاف، ولنا ربّ في السماء هو الوحيد المسؤول عن نبضات قلوبنا، ولديه القدرة على إيقافها متى شاء؛ لذلك لا ينبغي لنا أبداً أن نظل قابعين في دوامة الخوف فقط لوجود أسباب عديدة تدفعنا للوقوع في شباكه، تلك الأسباب التي يمكننا التعامل معها وتجاوز صعوباتها مهما اشتدت، يكفي أن تكون لنا الرغبة لتخطيها وللمواجهة.