حرية – (27/7/2024)
الحرب الباردة الدائرة في المحيطين الهندي والهادئ، بين الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها من جهة والصين وحلفها المستجد مع روسيا من جهة ثانية، تمتد حرارتها إلى المحيط المتجمد الشمالي لتزيده سخونة، بعدما فعل الاحتباس الحراري فعله بإذابة الجليد.
شمال المحيط الهادئ، يقع بحر بيرينغ الذي هو عملياً جزء من هذا المحيط الواسع، ويشكل الفاصل المائي بين ألاسكا الأميركية والبرّ الروسي، والممر نحو القطب الشمالي. وباتت هذه البقعة تشهد حركة نشطة إثر ذوبان الجليد في المحيط المتجمد الشمالي، ما حفّز النشاط الاقتصادي سعياً لاكتشاف آبار جديدة من النفط والغاز ومناجم المعادن، بالإضافة إلى فتح المجال أمام طرق شحن جديدة.
وفي شباط (فبراير) 2023، تم اعتراض طائرات حربية روسية هناك مرتين في أسبوع واحد. وفي الشهر نفسه، تم رصد منطاد تجسس صيني بالقرب من ألاسكا قبل أن يشق طريقه في النهاية عبر البر الرئيسي للولايات المتحدة ويتم إسقاطه قبالة ساحل ولاية كارولينا الجنوبية.
وفي تموز (يوليو) 2023 أعلن أسطول المحيط الهادئ الروسي، عن مهام الدورية البحرية المشتركة الثالثة مع البحرية الصينية في المحيط الهادئ، بهدف “الحفاظ على السلام والاستقرار في منطقة آسيا والمحيط الهادئ”.
وفي تشرين الأول (اكتوبر) 2023 أعلنت روسيا عن وصول أول سفينة من الصين عن “طريق بحر الشمال” الذي يربط آسيا بأوروبا عبر القطب الشمالي. وكانت السفينة الصينية غادرت شنغهاي عبر أرخانغيلسك الواقعة شمال روسيا، قبل أن تصل إلى بالتييسك في منطقة كالينينغراد.
وبحسب تقديرات وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) “قد يشهد القطب الشمالي أول صيف خالٍ من الجليد تقريباً بحلول العام 2030، وأن هذا سيزيد من جدوى طرق النقل البحري في القطب الشمالي والوصول إلى موارد تحت الماء”.
ومنذ سنوات تعمل روسيا على تطوير طريق بحري في القطب الشمالي يسمى “طريق بحر الشمال” كمسار تجاري جديد يربط بين أوروبا وآسيا لإيصال المواد الهيدروكربونية، بشكل خاص. كما تهدف السلطات الروسية إلى نقل حوالي 190 مليون طن من البضائع في العام 2030 عبر هذا الطريق.
خرائط عدة لصراع واحد
ولأن أي منطقة اقتصادية تحتاج إلى حماية عسكرية، سعت روسيا إلى تعزيز قواتها العسكرية في المحيط الشمالي، بينما كانت الولايات المتحدة تعمل على توسيع حلف شمال الأطلسي (الناتو) ليشمل الدائرة القطبية الشمالية. وكان للحرب الروسية في أوكرانيا آثار جيوسياسية أبرزها تطور العلاقات الصينية – الروسية. وعلى هامش اجتماع “آسيان” في لاوس، التقى وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف نظيره الصيني وانغ يي، وخلال اللقاء ناقش الرجلان “تطبيق هندسة أمنية جديدة” في أوراسيا، من دون الكشف عن مزيد من التفاصيل، وتعهدا بمواجهة “نفوذ القوى الخارجية”.
وقبيل هذا اللقاء، كان الجيش الأميركي يعلن عن اعتراض طائرتين عسكريتين روسيتين وطائرتين صينيتين كانت تعمل في منطقة تحديد هوية الدفاع الجوي في ألاسكا، رغم أنها ظلت في المجال الجوي الدولي. وبحسب قيادة الدفاع الجوي والفضائي لأميركا الشمالية (نوراد) فقد “ظلت الطائرات الروسية والصينية في المجال الجوي الدولي ولم تدخل المجال الجوي السيادي الأميركي أو الكندي” من دون أن تشكل تهديداً.
وفي تفاصيل هذا التحرك الاستراتيجي العسكري، فقد أجرت قاذفات روسية وصينية دورية مشتركة في بحر بيرينغ عند ملتقى القارتين الآسيوية والأميركية. وقال الناطق باسم وزارة الدفاع الصينية تشانغ شياوغانغ إن “هذه العملية لا تستهدف طرفاً ثالثاً، وهي تتوافق مع القانون الدولي وليست مرتبطة بالوضع الدولي والإقليمي الحالي”، مضيفاً أن الدوريات أدت إلى “تعزيز الثقة والتنسيق الاستراتيجيين المتبادلين بين جيشي البلدين”.
بالتزامن أشارت وزارة الدفاع الروسية إلى أن “مجموعة مؤلفة من قاذفات استراتيجية من طراز Tu-95MS من القوات الجوية الروسية وقاذفات استراتيجية Xian H-6 تابعة لسلاح الجو الصيني أجرت دورية مشتركة فوق بحر تشوكشي وبحر بيرينغ وشمال المحيط الهادئ”. وأوضحت أن “مقاتلات تابعة لحكومات أجنبية رافقت المجموعة في مراحل معينة من المسار” وأن الدورية استمرت أكثر من خمس ساعات. مع الاشارة إلى أنه يمكن لهذه القاذفات الاستراتيجية تنفيذ ضربات نووية وتقليدية على مسافات بعيدة. وكثيراً ما يجري اعتراض طائرات روسية في هذه المنطقة، لكن هذه هي المرّة الأولى التي يعلن فيها عن اعتراض دورية مشتركة.
تحذيرات أميركية
وقبل الإعلان عن اعتراض هذه التحركات، حذّر البنتاغون من زيادة التعاون بين روسيا والصين في القطب الشمالي، وقالت نائبة وزير الدفاع الأميركي كاثلين هيكس للصحافيين “لاحظنا تعاوناً متزايداً بين الصين وروسيا في القطب الشمالي على الصعيد التجاري، حيث تعد الصين أحد الممولين الرئيسيين لاستخراج الطاقة الروسية في القطب الشمالي”. وأضافت أثناء عرض استراتيجية البنتاغون في القطب الشمالي للعام 2024 أن التعاون العسكري يتزايد أيضاً حيث “تجري روسيا والصين مناورات مشتركة قبالة سواحل ألاسكا”.
وفي السنوات الأخيرة، عززت روسيا وجودها العسكري في القطب الشمالي من خلال إعادة فتح وتحديث العديد من القواعد والمطارات التي تعود إلى الحقبة السوفياتية، في حين ضخت الصين أموالاً في الاستكشاف والأبحاث القطبية.
بالمقابل تعتبر الولايات المتحدة أن المنطقة القطبية الشمالية استراتيجية، لأسباب بينها وجود “بنى تحتية دفاعية أميركية مهمة”، وبناء على هذه الأهمية لا يمكننا أن نغفل مسألة توسيع حلف “الناتو” ليشمل السويد وفنلندا مع ايسلندا قبل ذلك، لتصبح مناطق نفوذه موازية لنظيره الروسي على المحيط المتجمد الشمالي.
“القرب الجغرافي”
ومما يزيد من حرارة الصراع في القطب الشمالي، على الرغم من كل التطمينات الصادرة عن موسكو وبكين، هو أن الأخيرة تدعي أن لها حقوقاً في القطب المتجمد الشمالي عازية السبب إلى “قربها الجغرافي” منه، وعملت على توسيع وجودها هناك من خلال تعاونها مع روسيا.
ومن هنا، وعطفاً على الأحداث التي سبقت في عام 2023، يبدو أن وجود الطائرات الصينية يشكل تطوراً جديداً، من شأنه أن يثير قلق واشنطن في المرحلة المقبلة من الصراع الذي بدأ يمتد على مساحة الكوكب من المحيطين الهندي والهادئ، مروراً بالقارة الأفريقية، ولا تنتهي في أميركا اللاتينية التي تشهد على تطور العلاقات الاستراتيجية بين الصين والبرازيل، وإعلان الأخيرة على لسان رئيسها لويس إيناسيو لولا دا سيلفا عن الاستعداد لمناقشة شراكة برازيلية أساسية في المبادرة الصينية “الحزام والطريق”.