حرية – (29/7/2024)
تخيل عالما تحول فيه الإنسان إلى “سوبرمان” – إنسان خارق أو فائق، تحرر من كثير من القيود البيولوجية، وازداد ذكاؤه أضعافا مضاعفة، مقارنة بإنسان العصر الحالي.
تخيل عالما خاليا من الأمراض والآلام.
هل ذكرك هذا الكلام بقصة خيال علمي؟ ربما، لكن هذه النمط من الفكر الذي يؤمن باليوتوبيا التكنولوجية، أوالطوباوية التقنية، يدخل في لب حركة تسمى transhumanism أو ما بعد الإنسانية، والتي حظيت باهتمام كبير في السنوات الأخيرة مع تسارع وتيرة التقدم التكنولوجي.
فما هي هذه الحركة؟ ولماذا تثير رؤيتها لمستقبل البشر بعض المخاوف والإشكاليات؟
مصطلح “ما بعد الإنسانية” يشير بشكل عام إلى حركة تشكلت وتطورت تدريجيا منذ ثمانينيات القرن الماضي. تدعو الحركة إلى فهم وتقييم الفرص التي أتاحها التقدم التكنولوجي لتحسين أوضاع البشر وتعزيزها، وذلك من خلال تبني مقاربة تستند إلى العديد من فروع العلم والمعرفة.
وتركز الحركة على استخدام العديد من التقنيات لتحقيق ذلك الهدف، لا سيما تقنيات النانو الجزيئية والذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا المعلومات والهندسة الوراثية. ويرى بعضهم أن الحركة خليفة لحركة humanism (الأنسنة أو الإنسانوية)، إذ إنها تدعو إلى التطبيق المباشر للعلوم والتكنولوجيا للتغلب على القيود البيولوجية الرئيسية للبشر، فضلا عن الوسائل التقليدية لتحسين الطبيعة البشرية التي تركز عليها حركة الأنسنة أو الإنسانوية، كالتعليم والثقافة والفلسفة.
وتشمل “خيارات التعزيز التي تجري مناقشتها”، كما يقول الفيلسوف السويدي، نيك بوستروم، الذي يعد أحد رواد الحركة، “إطالة أعمار البشر وتحسين صحتهم بشكل جذري والقضاء على المعاناة غير الضرورية وتقوية القدرات الذهنية والجسدية والعاطفية للبشر”.
ويضيف بوستروم في مقال على موقعه على الإنترنت: “من بين موضوعات ما بعد الإنسانية الأخرى استيطان الفضاء وإمكانية تصميم آلات فائقة الذكاء..البشرية بوضعها الحالي لا ينبغي أن تكون نقطة النهاية للتطور. [نأمل] في أنه من خلال الاستخدام المسؤول للعلم والتكنولوجيا وغيرهما من الوسائل العقلانية أن نتمكن في نهاية المطاف من أن نصبح كائنات ما بعد إنسانية لدينا قدرات تفوق بمراحل قدرات البشر الحاليين”.
إرهاصات
رحلة البحث عن الخلود وتخطي القيود التي تفرضها قوانين الطبيعة أو يفرضها التكوين الجسدي للإنسان ليست بالجديدة على البشرية، وهناك العديد من الأمثلة التي سجلها التاريخ – من ملحمة الملك السومري القديم جلجامش الذي خرج في رحلة للبحث عن إكسير الحياة الذي يمنح الأبدية لمرتشفه، إلى أسطورة ينبوع الشباب الدائم التي ذُكرت في مؤلفات المؤرخ هيرودوت، إلى عباس بن فرناس الذي صمم جناحين على أمل أن يتمكن من التحليق في الجو كالطير.
كما أن العيش لسنوات طويلة بجسم وعقل سليمين ليس فقط رغبة بشرية قديمة الأزل، ولكنها فكرة لطالما سيطرت على فلاسفة الغرب مع بدء عصر التنوير، وهو ما دفع البعض منهم إلى تعلم دراسة الطب. من بين هؤلاء الفيلسوف الفرنسي الشهير رينيه ديكارت الذي كان يعتقد أنه من الممكن التوصل إلى طريقة لتأخير الشيخوخة. بل إن عالم الرياضيات والاقتصاد الفرنسي نيكولا كوندورسيه كتب في أواخر القرن الثامن عشر أن التطورات العلمية ستتواصل بما سيمكن الإنسان من العيش لفترة أطول، وأنه “سيأتي اليوم الذي سيكون فيه الموت ناتجا فقط عن حوادث استثنائية”. وكان يؤمن بأن الظروف المعيشية الجيدة ووراثة جينات جيدة وتقدم الطب هي مفتاح العيش إلى الأبد.
رواد ما بعد الإنسانية الأوائل
من أوائل من تبنوا فكر بعد الإنسانية عالم الجينات البريطاني جيه.بي.إس هالدن، الذي تنبأ في مقالة نشرت عام 1924 بعنوان Daedalus Or Science and the Future (دايدالوس أو العلم والمستقبل) بكثير من الفوائد المهولة التي ستتحقق مستقبلا مع تطور العلوم، ولا سيما علم الأحياء. تنبأ هالدن بإنتاج نسخة مصنعة من الهرمونات الأنثوية التي ستحسن صحة النساء في مرحلة انقطاع الطمث وما قبلها، وقال إن “القضاء على الأمراض سيجعل الموت حدثا فيسيولوجيا مثله مثل النوم”. واهتم هالدن بشكل خاص في مقاله بزراعة الأجنة خارج أجسام الحيوانات و “علم” تحسين النسل (eugenics)، وتطبيقات علم الأحياء والجينات لتعزيز صحة البشر وتنمية ذكائهم.
ويعتبر عالم الأحياء البريطاني جوليان هاكسلي على نطاق واسع مؤسس الحركة، إذ كان السبب في انتشار المصطلح بعد أن استخدمه عنوانا لمقاله المنشور عام 1957، والذي ذكر فيه أنه سيكون باستطاعة الجنس البشري تحطيم القيود التي تحدد قدراته: “نستطيع بالفعل، ولدينا مبرراتنا، أن نؤمن بوجود هذه الفرص والإمكانيات، وبأن بإمكاننا إلى حد كبير التغلب على القيود والإحباطات التعيسة لوجودنا. لدينا بالفعل ما يبرر اقتناعنا بأن حياة البشر كما نعرفها عبر التاريخ حياة مؤقتة بائسة متجذرة في الجهل، وأنه باستطاعتنا تخطي حدودها والتوصل إلى وجود يستند إلى ضوء المعرفة والعلم”.
تأسيس الحركة
وقد تبنى فكرة ارتقاء البشرية إلى ما هو أبعد من حدودها رواد حركة ما بعد الإنسانية التي نشأت في الثمانينات وركزت على التقدم العلمي الكبير، ولا سيما في مجال تكنولوجيا الحاسب الآلي ورحلات الفضاء وتجميد الأنسجة والبويضات والأجنة. واجتمع رواد الحركة رسميا في جامعة كاليفورنيا بلوس أنجليس والتي أصبحت مقرا لفكرهم.
وكان من أبرز رموز الحركة المهندس الأمريكي كيه. إريك دركسلر الذي كتب عن آفاق استخدام تقنية النانو والتجميع الجزيئي، والفيلسوف الأمريكي جيمز هيوز وعالم الروبوتات الكندي هانز مورافيتش.
وفي التسعينيات، برزت ضمن حركة ما بعد الإنسانية عقيدة تحررية تنادي بالتخلص من القيود البشرية من خلال التكنولوجيا. وأسس الفيلسوف البريطاني ماكس مور والمحامي والفيلسوف توم بِل معهد الإكستروبيا Extropy Institute. ويعني مصطلح إكستروبيا وفقا لمور “أن ننشد مزيدا من الذكاء والحكمة والتأثير، أن ننشد حياة غير محدودة الأجل وإزالة الحواجز السياسية والثقافية والبيولوجية والنفسية التي تقف في طريق التطور”.
ويشدد معتنقو الفكر الإكستروبي على أهمية التفكير العقلاني، ويشتركون في نظرة متفائلة للمستقبل الذي يتوقعون أن يشهد تقدما هائلا في مجال الحواسب الآلية، وتقنية النانو. ويتنبأ كثير منهم بأن البشر سيتوصلون في يوم من الأيام إلى العيش الأبدي، أو على الأقل العيش لفترات أطول بكثير مقارنة بمتوسط أعمارهم الحالي، وامتلاك التقنيات التي تجعل من الممكن إعادة هؤلاء الذين تم تجميد أجسامهم أو أدمغتهم إلى الحياة.
وفي عام 1998، أسس الفيلسوفان السويدي نيك بوستروم والبريطاني ديفيد بيرس رابطة ما بعد الإنسانية العالمية World Transhumanist Association التي روجت للحركة بوصفها فرعا جادا من فروع الأكاديميا. وغيرت الرابطة اسمها في عام 2008 إلى Humanity+ (+الإنسانية)، وشرعت في تقديم رؤية أكثر شمولية لفكرة ما بعد الإنسانية تضم تحت مظلتها بعضا من فروع الفكر الإكستروبي وتدعو إلى استخدام آمن وأخلاقي للتكنولوجيا بغية توسيع قدرات البشر والقضاء على الأمراض وكافة أشكال المعاناة التي يعانون منها، وتمكينهم من الاستمتاع بالحياة.
التفرد التكنولوجي وانفجار الذكاء
يرتبط بحركة ما بعد الإنسانية مفهوم آخر هو Technological Singularity (التفرد التكنولوجي)، والذي يشير إلى مرحلة افتراضية قد تحدث في المستقبل القريب عندما يصبح التقدم التكنولوجي خارجا عن سيطرة البشر ولا يمكن التراجع عنه، ما سيكون له تأثير عميق على حياتهم.
تشير مراجع عدة إلى أن عالم الرياضيات المجري-الأمريكي جون فون نويمان كان أول من استخدم مصطلح “التفرد” في سياق تكنولوجي في الخمسينيات، إذ نسب إليه قوله إن “التقدم التكنولوجي المتسارع باستمرار…يجعل الأمر يبدو وكأننا نقترب من تفرد محوري في تاريخ الجنس البشري لا تستطيع معه شؤون البشر أن تستمر كما اعتدناها”.
وفي عام 1965، قدم عالم الرياضيات البريطاني إيرفينغ جون غود أطروحة بحثية بعنوان “تكهنات بشأن أول آلة فائقة الذكاء”Speculations Concerning the First Ultraintelligent Machine، والتي عرّف بها الآلة فائقة الذكاء بأنها “آلة من الممكن أن تفوق قدراتها الأنشطة الذهنية لأي إنسان مهما بلغ ذكاؤه. وبما أن تصميم الآلات هو أحد تلك الأنشطة الذهنية، فإن الآلة فائقة الذكاء قد تصمم آلات أفضل منها، وسيحدث حينها بلا شك انفجار للذكاء، وسيتخلف ذكاء الإنسان عن الركب. ومن ثم فإن اختراع آلة فائقة الذكاء سيكون آخر ما يخترعه الإنسان”.
وكان لمؤلفات أستاذ الرياضيات والحاسب الآلي ومؤلف كتب الخيال العلمي فرنون فينج في الثمانينات والتسعينيات دور بارز في نشر مصطلح التفرد التكنولوجي، الذي وصفه بأنه سيكون بمثابة “التخلص من كافة القواعد السابقة، ربما في لمح البصر، بشكل مطرد وخارج عن السيطرة”.
ومن الأسماء البارزة في هذا المجال أيضا عالم الحاسب الآلي والمخترع والكاتب الأمريكي راي كيرزوايل الذي ألف كتبا وروايات تتناول الذكاء الاصطناعي وما بعد الإنسانية، من بينها “التفرد التكنولوجي صار قريبا” Singularity is Near، والذي تنبأ فيه بأن التفرد التكنولوجي “سيسمح لنا بتخطي الحدود البيولوجية لأجسامنا وعقولنا…سيكون بإمكاننا أن نعيش للفترة التي نريدها”.
وأصبحت فكرة التفرد التكنولوجي مصدر إلهام للعديد من العلماء والمهتمين بالعلم، وتوسعت لتشمل رؤى عديدة، بعضها أكثر راديكالية، وربما إثارة لقلق البعض، مثل رؤية عالم الاجتماع ويليام سيمز باينبريدج الذي تحدث عن “الخلود السبراني”، بمعنى أننا سوف نتمكن من العيش “الروحي” إلى الأبد بعد تحلل أجسادنا من خلال تحميل سجلات رقمية لأفكارنا ومشاعرنا على نظم تخزين دائمة.
هذا التيار ليس مقصورا على العلماء والفلاسفة، بل هناك أشخاص عاديون باتوا يقتنعون بفكر ما بعد الإنسانية، ولا سيما مع الطفرات التكنولوجية المذهلة التي تحققت في الأعوام الأخيرة – على سبيل المثال تزويد أشخاص بترت أطرافهم بأطراف اصطناعية ذكية تؤدي وظائف تشبه كثيرا الأطراف الطبيعية (بل وتفوقها في بعض القدرات)، وزراعة أول شريحة إلكترونية في دماغ بشري، وإعلان إيلون ماسك أن شركته “نيورالينك” التي نجحت في زراعة تلك الشريحة، تعكف على تطوير تقنية للربط بين الدماغ والآلة.
الذكاء البشري مقابل الذكاء الاصطناعي
غالبية الوسائل التي تحدث عنها معتنقو فكر ما بعد الإنسانية تشمل تعزيز الذكاء الإنساني من خلال حدوث طفرات كبيرة في مجالات الهندسة الحيوية والهندسة الوراثية والعقاقير المحفزة للدماغ، أو من خلال تفاعل بين الدماغ وأجهزة الكمبيوتر أو “تحميل العقل”.
يقول راي كيرزوايل إنه “في فترة ما بعد التفرد التكنولوجي، لن يكون هناك فرق بين الإنسان والآلة”، ويتوقع أن يكون تاريخ ذلك الحدث عام 2045، عندما يتخطى الذكاء الاصطناعي قدرة الدماغ البشري بمراحل.
وقد شهدت السنوات الأخيرة طفرة في قدرات الذكاء الاصطناعي – وكان روبوت الدردشة تشات جي بي تي بالنسبة لكثير منا بمثابة نافذة على سمات مستقبلية كانت حتى وقت قريب مجرد خيال علمي. وربما هذا ما دفع الملياردير الشهير إيلون ماسك الذي أسس شركات رائدة في مجال التكنولوجيا المتقدمة مثل سبيس إكس ونيرولينك أن يصرح في مايو/أيار الماضي بأن “حجم الذكاء البيولوجي يتضاءل مع كل شهر يمر. وفي نهاية المطاف، سيشكل مجرد واحد بالمئة”، في حين أن الذكاء الرقمي سيشكل النسبة المتبقية.
مخاوف وتحديات
بشكل عام يرى أنصار تيار ما بعد الإنسانية أن التغير الكبير الذي يتنبؤون أن يطرأ على البشر بفضل التقدم التكنولوجي المتسارع أمر مستحب سيؤدي إلى تحسين أوضاعهم من خلال تقليل الفقر والمرض والإعاقات وتعزيز قدراتهم العقلية والجسدية، حتى ولو كان ذلك عن طريق الدمج بين الإنسان والحاسب الآلي.
ولكن بعضهم يعي المخاطر المحتملة لذلك. على سبيل المثال، يحذر نيك بوستروم من ما يسميه “مخاطر وجودية”، قائلا إن إساءة استخدام تقنية النانو أو الهندسة الوراثية أو الذكاء الاصطناعي على سبيل المثال قد تؤدي إلى فناء البشرية.
ويرى أنه من بين النتائج السلبية الأخرى المحتملة للتقدم التكنولوجي في المستقبل “زيادة الظلم الاجتماعي أو التآكل التدريجي للأشياء التي تمثل لنا أهمية كبيرة…مثل العلاقات الإنسانية والتنوع البيئي. ينبغي أن تؤخذ مثل تلك المخاطر على محمل الجد”.
وكان عالم الفيزياء الشهير الراحل ستيفين هوكينغز قد أثار جدلا عام 2018 عندما حذر من احتمال أن تؤدي تقنية التحرير الجيني إلى سلالة جديدة من “البشر الخارقين” الذين سيتمتعون بذكاء أكبر ومقاومة أفضل للأمراض وسيعيشون لفترات أطول . وقال هوكينغز إن الأثرياء هم من سيكون بإمكانهم الاستفادة من تلك التقنيات، ما سيجعل “البشر غير المحسنين” غير قادرين على المنافسة، وبالتالي قد يؤدي إلى أن “ينقرضوا أو يصبحوا عديمي الأهمية”، كما نبه هو وآخرون إلى أن الذكاء الاصطناعي قد يؤدي إلى فناء الجنس البشري.
الغرض الأساسي الذي يتحدث عنه أقطاب التيار والمتحمسون له هو إسعاد البشر وإطالة أعمارهم وتخليصهم من كل ما يؤلمهم على المستوى الجسدي أو النفسي. لكنه بكل تأكيد يثير المخاوف من فقدان البشر لهويتهم وتحولهم إلى آلات، من حدوث تداعيات غير مقصودة تؤدي إلى فناء البشر أو من مخلوقات مشوهة على شاكلة فرانكنشتاين، أو على الأقل زيادة الهوة بين هؤلاء الذين ستكون لهم القدرة العلمية أو المالية على “تعزيز” أنفسهم، وهؤلاء الذين لن يستطيعوا لذلك سبيلا. ومن يجب أن يقرر ما يعتبر قيودا محددة للإنسان وما يعتبر تعزيزا أو تحسينا لقدراته؟
كما أنه يثير مجموعة من الإشكالات الأخلاقية ويرفضه البعض لأنهم يرون في أفكاره تعارضا مع معتقداتهم الدينية – ولا سيما فيما يتعلق بفكرة العيش الأبدي على الأرض، أو التدخل في التركيبة الوراثية للإنسان، أو استنساخ عقول البشر، أو ما يعتبرونه تركيزا على الأمور المادية وتحسين الجسد وتجاهل الروحانيات.
لا شك وأن فكر مؤلفات أصحاب تيار ما وراء الإنسانية تعتبر حقلا مشوقا للدراسة، كما أنه يثير العديد من التساؤلات والإشكاليات التي ينبغي الالتفات إليها. وهذا ما دفع كثيرين إلى المطالبة بوضع أطر تنظيمية للتقنيات الحديثة لضمان عدم سوء استغلالها وإتاحتها للجميع وتحقيق التوازن بين الابتكار والاعتبارات الأخلاقية، وهو ما سيتطلب تعاونا بين العلماء والمشرعين والمختصين في علم الأخلاق والمجتمع ككل.