حرية – (1/8/2024)
في مرحلة ما بعد الانسحاب الأميركي من العراق في عام 2010، برزت تنظيمات شيعية مسلحة على الساحة العراقية، صارت تفرض سطوتها على الحياة السياسية بدعم من الخارج، في ظل الوضع الأمني الهش. وأنعش احتلال تنظيم “داعش” بعض مناطق شمال العراق وغربه حظوظ تلك الفصائل التي تحولت إلى دويلات صغيرة تملك السلاح والمال والبشر، ولها ارتباطات وعلاقات خارجية ونشاطات تجارية.
وطبقاً لمصادر مطلعة، يزيد عدد الميليشيات في العراق على 73 فصيلاً مسلحاً، تعمل أغلبيتها تحت أجنحة سياسية بشكل مباشر أو غير مباشر، إذ تنتشر في مقرات رسمية وغير رسمية، وأخرى سرّية، تتركّز في محافظات بغداد وبابل وديالى وصلاح الدين والانبار ونينوى. كذلك، هناك مقرّات مختلفة لعدد من تلك الفصائل في ضواحي محافظة كربلاء.
إلى ذلك، تمثل الحدود العراقية – السورية ضمن محور التنف – القائم، مروراً بمدينة البوكمال، واحدة من أضخم نقاط تجمّع الفصائل المسلحة في البلدين.
جيش المهدي
تقول مصادر لـ”النهار العربي” إن تاريخ نشأة بعض الفصائل المسلحة في العراق يعود إلى ما بعد عام 2003، في إثر حلّ الأجهزة الأمنية العراقية وتفكيكها، وقد استمر صعودها حتى بلغ ذروته بعد انتهاء العمليات القتالية ضدّ “داعش” في نهاية عام 2017. وفرضت الميليشيات المسلحة سيطرتها على الملف الأمني في المناطق المستعادة من التنظيم في نينوى والأنبار وصلاح الدين وديالى، وما زالت حتى اليوم.
تعدّ تلك الفصائل أحد أبرز نقاط الجدل في ظل التوتر الذي تشهده الساحة السياسية العراقية، والذي يمكن أن يتصاعد إلى أعمال عنف، كما حدث في آخر أيام حكومة مصطفى الكاظمي.
وكان “جيش المهدي” الذي أسّسه زعيم “التيار الصدري” مقتدى الصدر في أواخر عام 2003، عقب الغزو الأميركي للعراق، أول ميليشيا عراقية، شكّلت نواة لعدد كبير من الميليشيات المسلحة في الساحة العراقية اليوم. لكن الصدر قرر حلّه في عام 2008.
خريطة السلاح
تنحصر خريطة السلاح اليوم في العراق بين ثلاث قوى: نظامية (تمثل وزارتي الدفاع والداخلية وجهاز مكافحة الإرهاب)، وشبه نظامية (تشمل قوات الحشد الشعبي)، وغير نظامية تنضوي تحت لوائها فصائل مسلحة موالية لدول الجوار.
وتحدث موقع “النهار العربي” إلى أكثر من 20 شخصية يمثلون رجال دين ومحلّلين وأمنيين وسياسيين ومسؤولين حكوميين في مستشارية الأمن الوطني وغيره، وقد رفضوا التعليق بعناوين صريحة وغير صريحة.
ويقول الخبير الأمني والاستراتيجي حاتم كريم الفلاحي إن الفصائل المسلحة في العراق ترتبط بمرجعيات عديدة. فهناك فصائل تأتمر بأمر الحكومة، وأخرى تحكمها دول الجوار، وثالثة ترتبط بمرجعيات سياسية ودينية عراقية.
ويضيف الفلاحي لـ”النهار العربي”: “تنص المادة التاسعة في الدستور العراقي على الآتي: يحظّر تشكيل فصائل مسلحة خارج نطاق وإطار القوات المسلحة العراقية”، ولذلك نقول إن تشكيل الفصائل والميليشيات المسلحة التي تعمل خارج إطار الدولة يتناقض مع الدستور الذي تمّت المصادقة عليه في عام 2005، وبالتالي فإننا نتكلم عن دستور ودولة، أو عن مراكز قوى متعددة، تعمل كيفما تريد، وكيفما يُملي عليها داعموها”.
مظلة الحشد الشعبي
ويعلّل الفلاحي وصول عدد الميليشيات إلى 73 ميليشيا بعوامل عديدة: “أولها، ضعف الدولة وعجزها عن مواجهة الجهات التي تعمل على تشكيل فصائل مسلحة تعمل خارج إطارها، وتنفّذ أجندة خارجية، تدعمها بالمال والسلاح والتدريب”، في ما يتعلق بالعامل الثاني بتبعية الطبقة السياسية في العراق وعدم قدرتها على صناعة قرار عراقي مستقل، “الأمر الذي أشاع فوضى السلاح، وفوضى تشكيل الميليشيات، ثم العجز عن لجمها وردع تمرّدها”، كما يقول.
ويذكّر الفلاحي بأن أغلبية الميليشيات العراقية تنضوي تحت مظلة الحشد الشعبي، وأغلبية عناصرها من الشيعة، “لكن فيها تشكيلات سنيّة وتركمانية وإيزيدية ومسيحية”، موضحاً أن هذه الميليشيات تدّعي اتباعها الأوامر الحكومية، “لكنها في واقع الأمر ليست كذلك، إنما لكل منها مرجعية سياسية أو دينية، وبعضها يعلن صراحةً تبعيتها لإيران، وللمرشد الأعلى في الجمهورية الإسلامية علي الخامنئي، ولديها مقرّ رئيسي في جرف الصخر، شمالي بابل”، في إشارة إلى كتائب “حزب الله” العراقي. كما هناك فصائل تابعة للمرجع الشيعي على السيستاني وغيره من المرجعيات، وهذه الفصائل تتقاطع في ما بينها في أغلب الأحيان.
فصائل “المقاومة الإسلامية”
يُشكل مصطلح “فصائل المقاومة” على الفلاحي، فيقول: “لا يمكن أن نضع فصيلاً تحت جناح المقاومة. عندما تكون هناك دولة، لا تكون هناك مقاومة خارج إطارها. ويبدو هذا المصطلح فضفاضاً، فعندما كان عدد الجنود الأميركيين في العراق 168 ألفاً، كانت جهات كثيرة تسمّيهم ’قوات صديقة‘، ولم تنفّذ ضدّهم عمليات عسكرية، وحين تقلّص عددهم إلى 2500 جندي، صار يُطلق عليهم ’قوة احتلال‘”، لافتاً إلى أن ما هو موجود في العراق “دولة، ودولة موازية”.
من جانبه، يذكر الباحث العراقي حمدي مالك، المتخصص في “الميليشيات المسلحة الشيعية”: “تشير أدلة كثيرة إلى أن الميليشيات التي تشكّل ’المقاومة الإسلامية‘ هي أذرع إيران المباشرة في العراق وسوريا. لذا، لا يمكنها أن تنفّذ أي عملية من تلقاء نفسها، إنما وفق ما ترسمه ’شورى‘ القرار في ’فيلق القدس‘ التابع للحرس الثوري الإيراني”.
ويقول مالك لـ”النهار العربي” إن فصائل “المقاومة الإسلامية” في العراق هي خليط من الميليشيات، يضمّ “كتائب حزب الله”، و”كتائب سيّد الشهداء”، وحركة “النجباء”، و”أنصار الله الأوفياء”. وتؤلف هذه الفصائل الرئيسية الأربعة الإطار الناظم الذي ربما انضمت إليه فصائل أخرى لاحقاً، وربما توسّع ليضمّ قوى راديكالية إضافية، شريطة التزامها أجندة “المقاومة الإسلامية” وسياساتها.
وبحسب مالك، يرمي تأسيس هذه الجبهة إلى تحقيق أهداف عدة، “أحدها التعمية الإعلامية والأمنية كي لا يتحمّل فصيل واحد مسؤولية الهجمات ضدّ القوات الأميركية”.
العصا من وسطها
في عام ونصف العام، حاول رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني إرساء توازن سياسي بين واشنطن والفصائل المسلحة، أو التوصل إلى حل وسط بين الطرفين، لكنه لم يفلح على الرغم من تأكيده المتكرّر للجانب الأميركي بأن الحكومة العراقية تحاور هذه الفصائل لإيقاف الهجمات على المصالح الأجنبية، وتعمل في الوقت نفسه على ملاحقة المتورطين في هذه الهجمات.
في الأشهر الثلاثة الماضية، زاد استهداف القواعد الأميركية رداً على الدعم الأميركي لإسرائيل التي أودت غاراتها المستمرة على غزة منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر) بحياة عشرات الآلاف من الفلسطينيين، معظمهم من الأطفال والنساء.
ويأتي التصعيد الأخير متزامناً مع إعلان حكومة العراق عن البحث في إنهاء وجود التحالف الدولي الذي شكّلته الولايات المتحدة لمواجهة “داعش” في العراق، وفي استلام الملف الأمني بشكل كامل، مع التأكيد أن القوات المسلحة العراقية قادرة على إدارة الملف الأمني في البلاد من دون الحاجة إلى أي مساعدة خارجية، مباشرة في الميدان أو غير مباشرة بتدريب الشركاء في التحالف عناصر هذه القوات وضباطها.
النفط يمنع الانهيار
تقول ماريا فانتابي، من مركز الحوار الإنساني، وهي منظمة لإدارة النزاعات مقرها سويسرا: “إذا نظرنا إلى العراق ما بعد عام 2003، علينا أن نقول إنه لم يكن في الواقع دولة فاعلة، فلم يحظ البلد برئيس حكومة يتمتع بسيطرة كاملة على قوات الأمن العراقية أو على حدود العراق”.
وتربط صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية عدم انهيار العراق بشكل كبير بـ”الثروة النفطية الهائلة التي تمتلكها البلاد”، مردفة أن “معظم المواطنين لا يرون فائدة في تلك الثروة، ويعانون انقطاعاً يومياً للتيار الكهربائي، ونقصاً في الرعاية الصحية، وشحاً في مياه الشرب، ويرسلون أولادهم إلى مدارس متهالكة”.
وتجد الصحيفة الأميركية، أن العراق يبدو اليوم بلداً يفقد أهميته في المنطقة والعالم بشكل متسارع، إذ يقع تحت سطوة الميليشيات الشيعية التي تنفّذ أجندة إيرانية في العراق، وفي المنطقة انطلاقاً من الأراضي العراقية.