حرية – (3/8/2024)
عند متاهة الأودية الضيقة بمنخفض عفار شرق إثيوبيا عثر العلماء دونالد جوهانسون وموريس تابيب وتوم جاري على أحفورية لوسي في الـ24 من نوفمبر (تشرين الثاني) 1974 بمنطقة هدار بإقليم عفار بإثيوبيا وأعطيت الرقم (A.L.288-I) ولوسي هي الشبيه الأقرب للجنس البشري.
وإقليم عفار مسرح الاكتشاف هو الآخر يمثل شطراً مساوياً من الاهتمام كونه مرقد التاريخ. ويقع الإقليم في شرق إثيوبيا وتسكنه قومية عفر الموزعة بين إثيوبيا وجيبوتي وإريتريا وهي قومية ذات تاريخ عريق على صحراء إثيوبيا، وتخوم البحر الأحمر.
عفار مرقد التاريخ
إقليم عفار ضمن أهم الأقاليم ويقع في الشمال الشرقي، ويمتد على مساحة 27 ألف كيلومتر مربع، متاخماً لدولتي إريتريا وجيبوتي. ويعرف بمنخفض عفار وهو جزء من وادي الصدع العظيم، وأدنى نقطة في إثيوبيا، وواحدة من أدنى معدلات الانخفاض في أفريقيا، يتكون الجزء الجنوبي من وادي نهر أواش، الذي يصب في سلسلة من البحيرات على طول الحدود بين إثيوبيا وجيبوتي. ويشتهر عفار بالغرائب والجماليات السياحية والجيولوجية النادرة، فعلى بعد بضعة كيلومترات من العاصمة سمرا يوجد بركان “عرت علي” أو (مملكة الجن)، كما تعرف المنطقة محلياً، وهناك بركان دالول المخروطي الذي لا ينطفئ لهيبه، وجبل الدخان، وتضم المنطقة بحيرة أفريرا، وصحراء الملح، والينابيع الكبريتية.
حلقة انتقال
أطلق المكتشفون اسم لوسي على المستحثة (بقايا الآثار) الأحفورية، وهو الاسم الذي استخدمته فرقة البيتلز البريطانية في أغنيتها “لوسي في السماء”، وكان فريق المستكشفين ينشدونها أثناء عملهم في الحفريات ليجري اسمها على استكشافهم.
ويشير العلماء إلى أن “لوسي” بهيكلها المتكامل ربما هي إحدى الحلقات الانتقالية المهمة بين القردة العليا والإنسان، إذ تمثل صفاتها التشريحية مرحلة وسيطة بين صفاتهما، إذ لوحظ أن عظام الحوض والساقين والساعدين تؤهلها للمشي منتصبة القامة على قدمين مثل الإنسان.. إلى جانب التشابه بين الصفات التشريحية معه، على رغم عدم قدرة لوسي على المشي منتظمة مثل الإنسان، لكن صفات أخرى تتميز بها مثل تسلق الأشجار مثل القردة، متفوقة على الإنسان في ذلك. بعد استمرار الكشف عثر على بضع مئات من عظامها وهو ما شكل أخيراً 40 في المئة من هيكلها العظمي وقرر العلماء حينها أنها الشبيه الأول للإنسان.
مذهلة
الإثيوبيون من جهتهم أضافوا للفتاة المستكشفة اسماً محلياً وهو (دينقينش)، وتعني باللغة الأمهرية “أنت مذهلة” وهو الاسم الشائع لمستحثة الهيكل العظمى (لوسي) الذي يحمل الرمز (A.L.288-I)، ويعود إلى أنثى من نوع أسترالوپثيكس عفرنسيس ويمثل رصيداً قيماً في المتحف الإثيوبي.
يصف العلماء “لوسي” في تكوينها التشريحي بكونها شبيهة إلى حد كبير بالشمبانزي، وعظام الحوض والأطراف السفلية تتطابق وظيفياً مع نظيرتها في الإنسان الحالي، كما توضح أن شبيه الإنسان هذا استطاع المشي منتصباً على قدمين. إلا أن هناك فرقاً في صغر حجم المخ مقارنة بالإنسان العاقل.
عام 1983 نشر العالم جونكارز أبحاثه في النسب القياسية لأطراف لوسي. وأوضح قصر عظام الفخذ والعضد مقارنة بالإنسان الحديث، واستنتج أن قدرتها على تسلق الأشجار أقل من القردة، وقدرتها على الركض أقل من سرعة الإنسان الحديث.
وفي عام 2019، اكتشف البروفيسور الإثيوبي يوهانيس هيلي سيلاسي جمجمة للأسلاف الأوائل للقردة الشبيهة بالإنسان عمرها 3 ملايين و800 ألف سنة، ويتحدى اكتشاف المستحثة الأفكار المتداولة عن كيفية تطور الإنسان الأول من أسلاف القردة الشبيهة به، ونشرت مجلة “نيتشر” العلمية دراسة عن الاكتشاف الجديد وعثر على الجمجمة في ميرو دورا، بمنطقة عفار أيضاً.
ويقول البروفيسور يوهانس الذي يعمل في متحف كليفلاند للتاريخ الطبيعي في ولاية أوهايو الأميركية إن الجمجمة أفضل مثال لأسلاف الإنسان الأشباه بالقردة، الذين يسمون أوسترالوبيثيكوس أنامنسيس، والذين يمشون على قدمين، وهم أقدم نوع معروف من أوسترالوبيثيكوس الذي ربما يرجع تاريخ وجوده إلى 4.2 مليون عام.
المستحثة أردي
إضافة إلى استكشاف هيكل الفتاة “لوسي” كانت الآثار الأحفورية لأردي التي مثل اكتشافها السلف الأقدم لجنس (همواركتز) الإنسان الحجري، وهو أول من استخدم أدوات الصيد والحجارة واستخدم النار، كما يشير العلماء، وهو سلف الإنسان العاقل (هومو سابينس) وإنسان النياندرتال المنقرض، ويؤكد العلماء أن الفرضية القائلة إن أصل الإنسان هو شرق أفريقيا، وتحديداً منخفض الدناكل في أرض العفر أدق الفرضيات لأنه لا توجد منطقة في العالم ظهر فيها كم هائل من المستحثات الأحفورية القديمة لأسلاف الإنسان المعاصر مثل المنطقة العفرية بشرق أفريقيا. والكشف لشبيهة الإنسان “لوسي” أعطى دلالة أكيدة للعنصر البشري، واستكشاف ما يحيط به من أسرار، أما الأمر الآخر فهو دلالة المكان حيث الاكتشاف، كونه هو الآخر مغزى لما يحمله من أسرار وحقائق، ومن ثم يعتبر إقليم عفر وفق حيثية الاكتشاف هو مهبط الإنسان.
المغزى
جاءت احتفالية الحكومة الإثيوبية باليوبيل الذهبي لمستكشف شبيه الإنسان (لوسي)، التي شهدها متحف عدوة بأديس أبابا الإثنين الـ29 من يوليو (تموز) الماضي تذكيراً لا يغيب فيه المغزى حول البحث المتصل عن أصل الإنسان وتدرج نشأته.
وقال رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد بالمناسبة إن “اكتشاف لوسي كان حدثاً رائداً أسر المجتمع العلمي، والعالم بأسره، حيث قدم رؤى لا تقدر بثمن حول تطور الحياة على الأرض”. وأضاف “لقد أجاب عن عدد من الأسئلة بينما دفع أيضاً إلى استفسارات جديدة لا تزال تدفع البحث والاستكشاف”، معتبراً بلاده حاضنة لأصل الجنس البشري ومنبع النيل”.
وجهة نقيضة
احتفالية إثيوبيا باليوبيل الذهبي لـ”لوسي” سبقتها في وجهة نقيضة كارثة الانزلاق الأرضي التي راح ضحيتها عشرات الأهالي في الـ22 من يوليو الماضي بمنطقة غوفا بجنوب إثيوبيا بسبب الأمطار الغزيرة، وما تبعها من ظروف وأحداث، مما دفع مراقبين وفاعلين سياسيين إلى التساؤل بتندر عن جدوى الاحتفالية في ظل التقصير الحكومي وعدم اتخاذ الإجراءات اللازمة لتجنب مثل تلك الكوارث، معتبرين أن “الأحياء أولى بالرعاية وليس لوسي”.
كارثة الانزلاق الأرضي في غوفا
لكن في المقابل يقلل المؤرخ الإثيوبي آدم كامل من تأثير الكارثة في احتفالات “لوسي” مؤكداً أن بلاده قادرة على تجاوزها بتكاتف الجهات الأهلية والاهتمام والدعم الحكومي، منوهاً بأن مثل تلك الكوارث ظروف طبيعية تعانيها كل المجتمعات البشرية، معتبراً أن التزامن الذي جمع كارثة غوفا الأرضية باحتفالية لوسي دلالة على سلطان طبوغرافية الأرض في جميع صور الفعل الطبيعي، كارثياً كان أو غيره من تسخير علمي.
وزيرة السياحة الإثيوبية ناسيس شالي قالت من جهتها إنه على رغم أن إثيوبيا مليئة بالحضارات فإنها لم تستفد من ذلك والسبب الأساس للاحتفال بالذكرى الـ50 للوسي هو الإثبات أن إثيوبيا هي مهد الجنس البشري.