حرية – (11/8/2024)
محمد بدر الدين زايد
يرصد العالم بقدر من القلق بروز ظاهرة صعود اليمين وكثير من مظاهر العنصرية في العالم الغربي بصورة عامة، وفي هذا الصدد لا ينفصل مشهد الانتخابات الأميركية واحتدام المنافسة بين اليمين الأميركي بقيادة دونالد ترمب والقوى الديمقراطية عن مجمل مواجهة محتدمة وحرجة تشهدها مجتمعات غربية أخرى، من بينها المملكة المتحدة التي تشهد أعمال عنف غير مسبوقة تقوم بها عناصر يمينية وجدوا من يتصدى لهم من قوى شعبية مضادة.
ويتحدث بعضهم بمبالغة عن مخاوف من حرب أهلية في هذه الدولة، وهو ما يأتي بعد نكسة تعرض لها اليمين البريطاني بوصول حزب العمال بغالبية كبيرة إلى السلطة، فبدت الأمور وكأنها ظاهرة عكس تيار صعود “اليمين” في الغرب، وقبلها احتشد “اليسار” و”الوسط” الفرنسي لوقف صعود “اليمين الفرنسي”.
المشهد الأميركي وتعقيداته
يخوض الحزب الديمقراطي الانتخابات الرئاسية المقبلة شاحذاً كل قوته ومدركاً خطورة هذه المعركة، وليس من دليل أبلغ من توقع قيام الرئيس السابق باراك أوباما بدور كبير في الحملة الانتخابية لكاميلا هاريس، وأن يلقي بكل ثقله ومعه كل قيادات الحزب في هذه المعركة وكأنها معركة بقاء ومستقبل الحزب، بل وربما ينظر إليها كثيرون على أنها تحمل تهديدات حقيقية لمستقبل الولايات المتحدة ذاتها.
وعلى رغم أن الاستقطاب السياسي ظاهرة معتادة في كثير من دول العالم، وظاهرة تقليدية في المجتمع الأميركي، فإن الاستقطاب الذي تبلور خلال العقود الأخيرة كان أكثر تعقيداً ويمثل تحدياً غير مسبوق في هذا المجتمع، وكما أشرنا في مقالات سابقة فقد تجاوز الأبعاد التقليدية بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري.
بدايات هذا الاستقطاب تبلورت منذ منتصف القرن الماضي، إذ يمثل الحزب الجمهوري المكون المهيمن على المجتمع الأميركي منذ نشأته، أي المكون الأنجلو-سكسون الإنجيلي البروتستانتي، بينما تذهب معظم أصوات المكونات الإثنية الأخرى من كاثوليك أوروبيين وذوي الخلفيات اللاتينية ويهود وأفارقة أميركيين وأقليات أخرى للحزب الديمقراطي. وبطبيعة الحال ليست هناك حدود جامدة، فمن الطبيعي أن كثيراً من أبناء الأقليات المختلفة يميلون للتصويت لمصلحة الجمهوريين، كما يتبوأ عدد ليس قليلاً منهم مواقع قيادية في الحزب ومواقعه.
وعلى الجانب الآخر ثمة قادة عدة في الحزب الديمقراطي من ذوى الخلفية الأنجلو-سكسونية والمذاهب البروتستانتية، مع بقاء التركيبة الرئيسة لأنماط التصويت في الإطار العام السابق الذكر.
لكن الاستقطاب الراهن هو نتاج تحولات عميقة في الساحة الأميركية أوصلت الغالبية السابقة، أي المكون الأنجلو-سكسون المحافظ إلى وضع متراجع، وصحب هذا نمو في اتجاهات تحررية منفتحة تجاوزت تيارات الوسطية التي كانت تسود السياسة الأميركية خلال العقود الأخيرة من القرن الماضي، وسمح نمو هذه الظاهرة بوصول أول رئيس من أصول أفريقية إلى مقعد الرئاسة، أي أوباما، وكان مجرد وصوله الحدث الذي أثار ردود فعل متصاعدة داخل اليمين الأميركي وأوصل دونالد ترمب إلى الحكم، مع حال التعبئة والحشد لدى هذا اليمين لمنع استمرار حكم الديمقراطيين أو وصول مرشحة سيدة، هيلاري كلينتون، إلى السلطة، وكان هذا التعبير عن تحولات المجتمع الأميركي وحدّة هذا الاستقطاب.
ورداً على هذا احتشدت كل الأقليات لتمنع مواصلة ترمب البقاء في الحكم والحصول على فترة ثانية، وفي الحقيقة أن مشهد السادس من يناير (كانون الثاني) 2021 حين اقتحم أنصار ترمب مواقع رموز الدولة الفيدرالية إلى حد تهديد الديمقراطية الأميركية، ومواصلة ترمب حتى اليوم اتهام الديمقراطيين بتزوير الانتخابات، هو في ذاته قمة التعبير عن حال الاستقطاب الحادة في المجتمع الأميركي، فـ “اليمين” يخوض معركة صعبة وهو في حال استنفار وغضب لم يهدأ بعد.
التفاعلات الجدلية لصعود اليمين في الغرب
كانت السردية الغربية قبل احتشاد “اليسار” و”الوسط الفرنسي” تقضي بأن “اليمين الأوروبي” يتقدم بصورة حثيثة في أكثر من دولة غربية، ونجح بالفعل في بلدان عدة وأهمها إيطاليا، وعلى رغم أن رئيسة الوزراء الإيطالية أثبتت قدراً من الحصافة وعدم الاندفاع، فإنها عبرت في الوقت نفسه عن التحولات التي لا يمكن إنكارها في شأن صعود المد اليميني في الغرب، ثم جاءت المفاجأة الفرنسية والبريطانية، وفي الحالين تكتلت قوى اليسار والوسط لمنع وصول “اليمين” إلى حكم البلدين، وكان الأمر أكثر وضوحاً في فرنسا كما هو معروف.
والحقيقة أن التشابه الرئيس بينما يحدث في المشهدين الأميركي والأوروبي هو تلك العلاقة الجدلية في هذه المجتمعات، وتتمثل في أن صعود كل من التيارين وتبنيه توجهات حادة يؤدي إلى تعزيز واستثارة الطرف الآخر، ففي الحال الأميركية جاء وصول أوباما عاكساً للتطورات البنيوية والفكرية في هذا المجتمع، مما أدى إلى بروز رد فعل ممثل في حال أو ظاهرة ترمب التي ما كان يمكن تخيل وصولها إلى الحكم في البيت الأبيض قبل أعوام قليلة، بما يمثله فكرياً وسلوكياً، والشيء نفسه في المجتمعات الأوروبية، فتصاعد مفاهيم الليبرالية والتعددية وقبول الآخر واستقبال المهاجرين في الوظائف الدنيا والعليا على السواء أدى إلى بروز تيارات مضادة.
يذكر أن السردية الغربية اليمينية في شأن مزاحمة المهاجرين للوظائف مليئة بالمغالطات، ونظرة بسيطة على الفِرق الرياضية الأوروبية التي تزدحم بالأفارقة وغيرهم، والذين يعودون بعوائد مالية ضخمة للدول المستضيفة، تكشف حجم هذه المغالطات.
من ناحية أخرى توجد نظم قانونية في كثير من هذه الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا، تقدم مزايا لأصحاب التخصصات الرفيعة أو المميزين وتسهل هجرتهم بل واجتذابهم، فضلاً عن حاجة كثير من هذه المجتمعات إلى العمالة الرخيصة في الوظائف الدنيا، وقد صحب كل هذه الاعتبارات مزيد من التبلور لمنظومة الأفكار الليبرالية في اتجاهات متصاعدة خلقت مناخاً مواتياً للتعددية وقبول الآخر، كما خلقت مساحة أوسع من الحريات والترويج لأفكار تزيد من الفجوة مع التيارات اليمينية المحافظة، وبخاصة المثلية وحق الإجهاض.
كل هذه المنظومة المعقدة التي سمحت بتبلور اتجاهات قوية انعكست سياسياً وأنشأت أيضاً علاقة جدلية معقدة مع “اليمين المحافظ”، وكل تصاعد لأي من التيارين يؤدي إلى استنفار الآخر وتحفزه.
لكن الخطورة الراهنة تتمثل في تصاعد احتمالات العنف، وما يحدث في شمال بريطانيا ينذر بعواقب خطرة، وبخاصة مع ارتباطه بتنظيمات وليس مجرد اضطرابات منفلتة، كما أن تصدي المعارضين لهذه العناصر اليمينية يثير القلق في شأن انتشار العنف في هذا المجتمع، وتظل ذكرى ما حدث في السادس من يناير 2021 في الولايات المتحدة من جانب أنصار ترمب حية في الأذهان، وبخاصة أن ترمب ألمح إلى أنه لن يقبل نتيجة انتخابات لن يفوز بها، وربما يقدم على كثير من القرارات التي تربك السياسة والمجتمع الأميركي، وفي الحقيقة فإن حال الاستنفار والقلق، لو أضفنا إليها محاولة اغتيال ترمب الفاشلة، ربما تجعل العنف من جانب الرافضين لـ “اليمين الأميركي” أيضاً أمراً محتملاً، وبالنهاية يصب كل هذا في توقع مستقبل محفوف بالأخطار.