حرية – (11/8/2024)
ربما كانت الرواية الدرامية لتسخير الطاقة الذرية على نحو قاتل، والتي رواها فيلم أوبنهايمر الناجح في عام 2023، مجرد خيال علمي لو لم تُكتب هذه الرسالة المكونة من صفحتين، والمؤرخة بتاريخ الثاني من أغسطس/آب 1939.
“لقد أدت الأعمال الحديثة في مجال الفيزياء النووية إلى احتمالية تحويل اليورانيوم إلى مصدر جديد ومهم للطاقة”، هذا ما جاء في رسالة مطبوعة إلى الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت، موقعة بخط يد الفيزيائي العبقري ألبرت أينشتاين، والتي أضاف فيها أن هذه الطاقة يمكن استخدامها “لبناء قنابل قوية للغاية”.
وكان الخطاب، الذي عبّر فيه أينشتاين عن شكوكه في قرار ألمانيا وقف مبيعات اليورانيوم في تشيكوسلوفاكيا المحتلة، بمثابة الدافع لبرنامج بحثي سري للغاية بقيمة 2 مليار دولار “مشروع مانهاتن” – والذي اعتبر سباقاً للتغلب على ألمانيا في تطوير الأسلحة الذرية، وكان المشروع الذي استغرق ثلاث سنوات، بقيادة الفيزيائي روبرت أوبنهايمر، من شأنه أن يدفع الولايات المتحدة إلى العصر النووي ويؤدي إلى أحد أهم الاختراعات في التاريخ – وأكثرها تدميراً – القنبلة الذرية.
وفي العاشر من سبتمبر/أيلول 2024 المقبل، ستباع رسالة أينشتاين المهمة والمكتوبة بعناية في مزاد كريستيز في نيويورك، ومن المتوقع أن يتجاوز سعرها 4 ملايين دولار، وقد صيغت نسختين من الرسالة: نسخة قصيرة، ستباع في المزاد من قبل دار كريستيز، ونسخة أخرى أكثر تفصيلاً، ستُسلم إلى البيت الأبيض باليد، وهي الآن في المجموعة الدائمة لمكتبة فرانكلين دي روزفلت في نيويورك.
ويقول الدكتور برين ويلكوك، مدير برنامج قسم السياسة والفلسفة والعلاقات الدولية في جامعة سوانسي والمحاضر والباحث في التاريخ الأمريكي والنووي، لبي بي سي: “تبدأ معظم الروايات التاريخية عن أصول القنبلة بمناقشة الرسالة، كان محتوى الرسالة مفتاحاً للحصول على عمل مباشر من الرئيس روزفلت”، مؤكداً أن مؤسسة التراث الذري تذهب إلى حد وصف الرسالة بأنها كانت “حيوية في دفع روزفلت إلى إجراء أبحاث ذرية”.
ومن المتوقع أن يُثير الفيلم الحائز على جائزة أوبنهايمر، والذي يستند إلى قصة مشروع مانهاتن ويشير إلى الرسالة في مشهد بين أوبنهايمر والفيزيائي إرنست لورانس، اهتماماً إضافياً بالمزاد.
ويقول كلارنت: “هذه الرسالة شيء كان جزءاً من الثقافة الشعبية منذ عام 1945 وما تلاه، لذا فقد احتلت مكانة راسخة بالفعل، لكنني أعتقد أن فيلم أوبنهايمر نقلها الآن إلى جيل جديد”.
ويصف كلارنت أينشتاين بأنه “شخصية أسطورية” في الثقافة الشعبية، إذ يتمتع بهذه الصفة في فيلم أوبنهايمر، حيث كان يختبئ في محيط الفيلم، مثل دور ثانوي ننتظره بفارغ الصبر، ولا يتم الكشف عن هويته إلا عندما تطير قبعته وتكشف عن الشعر الأبيض الشهير.
وعلى الرغم من أن معادلة أينشتاين (E=mc²) – حاصل ضرب الكتلة النسبية في مربع سرعة الضوء يساوي الطاقة الحركية للجسم – استطاعت حساب الطاقة المنبعثة في تفاعل نووي ومهدت الطريق لتطبيقها في أعمال “شريرة”، إلا أن دوره في تشكيل القنبلة الذرية ربما يكون مبالغاً فيه خلال الفيلم، إذ أن الحوار المؤثر بين أوبنهايمر وأينشتاين في المشهد الختامي (أوبنهايمر: “عندما أتيت إليك بهذه الحسابات، اعتقدنا أننا قد نبدأ تفاعلاً متسلسلاً من شأنه أن يدمر العالم بأسره…”) هو “هراء”، كما يقول كلارنت.
ويقول أينشتاين، الذي كانت آراؤه اليسارية وتراثه الألماني يحيطان به، إنه “لم يكن لديه التصريح الأمني للقيام بذلك”، وفي الواقع أن هذا الرجل المسالم الذي يُعرف بنأي نفسه عن المشروع وأصر دوماً على أن دوره في إطلاق الطاقة الذرية كان “غير مباشر تماماً”، وإذا كان هناك من شخض محرّض، فهو ليو سيلارد، وهو أحد طلاب أينشتاين السابقين.
ظلت الرسالة، التي تحمل ملاحظة سيلارد المكتوبة بقلم رصاص، في حوزة سيلارد حتى وفاته في عام 1964، وكان كل من أينشتاين المولود في ألمانيا وسيلارد المولود في المجر من اليهود الذين فروا إلى الولايات المتحدة بعد صعود النازية، وكانا يعرفان، أفضل من أي شخص آخر، التهديد الذي تشكله ألمانيا.
كانت الرسالة من فكرة سيلارد، لكنه كان مُستمراً ومُصراً على ملاحقة أينشتاين لكتابتها والتوقيع عليها، لقد مُنح أينشتاين سلطة كبيرة، وبعد فوزه بجائزة نوبل في عام 1921، أصبح “تجسيداً للعلم الحديث”، كما يقول كلارنت، ويُضيف: “إنه يتمتع بنفوذ لا يتمتع به أي شخص آخر، يبدو أن أشخاصاً آخرين حاولوا تحذير روزفلت بشأن ما كان يحدث في الأشهر التي سبقت ذلك، ولكن فجأة، تدخل من الباب رسالة من ألبرت أينشتاين تطالب بالقيام بذلك – وهذا يترك انطباعاً مختلفاً”.
وفي السادس عشر من يوليو/ تموز 1945، أُجري اختبار تجريبي ناجح لتفجير نموذج أولي للقنبلة المعروفة باسم “الأداة”، في صحراء نيو مكسيكو، وسُمح للبعض بحضور التجربة شريطة ارتداء نظارات واقية، وقد قوبلت النتيجة بالفرحة بالانتصار والخوف في نفس الوقت، وفي ذلك اليوم، كتب الرئيس الأمريكي هاري إس ترومان في مذكراته: “لقد اكتشفنا القنبلة الأكثر فظاعة في تاريخ العالم”.
وكانت ألمانيا حينها، قد استسلمت، لكن اليابان كانت متمسكة بموقفها حينها، وكان من المعتقد أن مهاجمة الموانئ اليابانية في هيروشيما وناجازاكي بقوة مرعبة وغير مسبوقة من شأنه أن يُعجل بنهاية الحرب.
ورغم أن سيلارد أطلق عريضة بعد يوم واحد من تجارب القنبلتين يوصي فيها بدعوة اليابان إلى الاستسلام قبل اتخاذ مثل هذا الإجراء الجذري، إلا أن العريضة لم تصل إلى السلطات في الوقت المناسب.
وفي السادس من أغسطس/آب، ألقيت قنبلة تحمل الاسم الرمزي “الولد الصغير” على هيروشيما، وفُجِّرت قنبلة “الرجل السمين” في ناجازاكي في التاسع من أغسطس/آب، وتشير التقديرات إلى مقتل أو إصابة نحو 200 ألف شخص، مع وفاة المزيد بعد سنوات بسبب الآثار الجانبية للإشعاع الناتج عن القنبلتين، وحتى الآن، هذه هي الحالة الوحيدة التي استخدمت فيها الأسلحة النووية بشكل مباشر في الصراع.
ومن الصعب أن نقول أن مشروع مانهاتن ما كان ليرى النور لولا رسالة أينشتاين، ويشير الدكتور برين ويلكوك، مدير برنامج قسم السياسة والفلسفة والعلاقات الدولية في جامعة سوانسي والمحاضر والباحث في التاريخ الأمريكي والنووي إلى أن بريطانيا كانت بالفعل “تحاول جاهدة دفع أميركا إلى دعم المزيد من البحوث”، ويصف “تقرير مود” الذي قادته بريطانيا عام 1941 – وهو دراسة حول جدوى الأسلحة النووية – بأنه “أمر حاسم لدفع تطوير البحوث الأميركية”.
ومع ذلك، فإن رسالة أينشتاين كانت عاملاً لتسريع العملية، وبدونها، ربما كان هناك تأخير، وهو ما يقول ويلكوك إنه “كان ليعني بالطبع أن القنبلة لن تكون جاهزة للاستخدام بحلول صيف عام 1945”.
وأعرب أينشتاين عن أسفه الشديد للعنف والفوضى التي أطلقها خطابه عام 1939، وفي عام 1946، شارك في تأسيس لجنة الطوارئ لعلماء الذرة للترويج لمخاطر الحرب النووية واقتراح مسار للسلام العالمي، وفي مقال لمجلة نيوزويك عام 1947، بعنوان “أينشتاين، الرجل الذي بدأ كل شيء”، قال: “لو كنت أعلم أن الألمان لن ينجحوا في تطوير قنبلة ذرية، لما فعلت شيئا بخصوص تطوير القنبلة”.
اليوم، وعلى الرغم من امتلاك ألمانيا للخبرة التكنولوجية، إلا أنها لا تزال لا تمتلك أسلحة نووية.
وكرّس أينشتاين بقية حياته لقيادة حملات من أجل نزع السلاح النووي، وفي حديثه إلى الكيميائي، لينوس بولينج، الحائز على جائزة نوبل عام 1954، وصف الرسالة إلى روزفلت بأنها “الخطأ الأكبر في حياتي”.
وغيرت القنبلة الذرية بشكل جذري مشهد الحرب وأشعلت سباق تسلح بين الشرق والغرب، مازال عاملاً في تحديد العلاقات الدولية، ومع امتلاك تسع دول حتى الآن للأسلحة النووية، فإن الكثير من الخطر الذي نشعر به يمكن إرجاعه إلى تلك الرسالة.
ويقول كلارنت: “لا تزال هذه القضية ذات صلة وثيقة اليوم، إنها ظل يخيم على الإنسانية، هذه الرسالة هي تذكير بأصل عالمنا الحديث، وتذكير صارخ بكيفية وصولنا إلى هنا”.
وفي يوليو/تموز 1955، ظهر الاسم الذي وقّع على الرسالة التي وُجهت إلى روزفلت في عام 1939 بعد وفاة أينشتاين.
وفي بيان رسمي حمل اسم رسالة أينشتاين، وهوعبارة عن بيان صيغ بعبارات عاطفية ضد الحرب النووية، وبدأه الفيلسوف برتراند راسل، وأقرّه أينشتاين قبل أسبوع واحد فقط من وفاته، يقول جزء من النص: “نحن نناشد، بصفتنا بشراً، تذكروا إنسانيتكم وانسوا الباقي، إذا فعلتم ذلك، فإن الطريق مفتوح أمام جنة جديدة، وإذا لم تتمكنوا من ذلك، فإن خطر الموت الشامل يكمن أمامكم”.