حرية – (13/8/2024)
أسماء حسنين
في قلب الصحراء المصرية الشاسعة وجبالها حيث تتلاقى حرارة الشمس الذهبية مع رمالها الناعمة وصخورها السوداء الصلبة، تكمن أسرار مدفونة منذ آلاف السنين كونتها الطبيعة ومتغيرات الجيولوجيا، أسرار يسعى البعض للوصول إليها، رغم أنها مليئة بالأخطار. في أعماق هذه الصحراء والجبال، حيث لا تصل أعين الحراس ولا سطوة القانون، تعمل بعض الجماعات السرية التي تتسلل ليلاً بحثاً عن عروق الذهب الخالص في صحراء أسوان، مستخدمة أدوات بدائية. والمرة الأولى التي قرروا فيها أن يتحدثوا إلى الإعلام بشجاعة، كان ذلك لـ”النهار العربي”.
رحلة التنقيب
في قرية نائية في محافظة أسوان جنوب صعيد مصر، حيث يسود الفقر والجوع، بدأت رحلتنا بعد قضاء 13 ساعة في القطار، ثم ساعتين ونصف ساعة في سيارة ربع نقل متهالكة سارت بنا بين الجبال والمدقات حتى وصلنا إلى وجهتنا لنقابل عدداً من المنقبين غير الشرعيين عن الذهب، إذ يرى هؤلاء الشباب في التنقيب عن الذهب فرصة ذهبية لتحسين أوضاعهم الاقتصادية بدافع من اليأس والحاجة إلى المال.
في البداية تجهزوا وجهزونا بارتداء بعض الملابس الخفيفة، لكي نستطيع تحمل مشقة الجبل وحرارته، وأهم ما يميز ملابسهم كان الشال الملفوف فوق رؤوسهم ليحميهم من برد الليل ومن حرارة النهار، كما أخذوا بعض المعدات البسيطة وأدوات الحفر والتنقيب وأطعمة وماء، ثم استقللنا سيارة مشابهة للأولى، واتجهنا إلى الجبال، أكثر من 12 ساعة حتى وصلنا إلى وجهتنا وهي مكان ممتلئ بالصخور التي يتوقع أن تحمل في طياتها الكثير من غرامات الذهب.
قام عزت (صاحب الاسم المستعار) أحد المنقبين عن الذهب، بتفقد الحجارة والجبل لكي يعطي الإشارة لباقي الرجال لتكسير بعض هذه الحجارة استعداداً لحملها في أكياس مخصصة لذلك “شوال” أو “شكارة” ثم وضعها في السيارة، وكان يتحدث معنا أثناء تفقده الحجارة ويروي كل الخطوات بدقة، وأوضح أن “البداية هي تفقد الجبل ومعرفة من أين نبدأ، ثم نبدأ الحفر والتنقيب وتكسير الحجارة المحتمل أن فيها “عروق ذهب”، ثم نأخذ عينة لتحليلها في الطاحون، وإذا ثبت وجود عروق ذهبية نعود من جديد، مثلما يحدث الآن، لاستخراج أكبر كمية من الذهب المدفون، ثم نذهب بها إلى الطاحون”. وعن الأخطار التي تواجههم قال: “نواجه أخطاراً عدة، أولها الملاحقة الأمنية، وثانيها انهيار الجبل أثناء التنقيب وثالثها مهاجمة الحيوانات المفترسة كالذئاب والثعابين والعقارب السامة”.
الطاحونة واستخراج الذهب
لم تنته جولتنا عند هذا الحد، بل رافقنا عزت ورفاقه بعد تحميل الحجارة التي تم تكسيرها في الجبل بالسيارة، وتوجهنا مرة أخرى إلى القرية النائية، حيث مكان الطاحون، وهنا تبدأ مرحلة جديدة لاستخراج الذهب من قطع الصخور التي أُحضرت من الجبال في شكائر. كان منزلاً مبنياً من الطوب اللبن، قريباً من الجبل، فيه ماكينة كبيرة لونها أخضر، تشبه الطاحونة، وربما أطلقوا عليها الاسم لهذا السبب، يوضع فيها ماء، وتضاف إليها الحجارة التي أتينا بها من الجبال، وتستغرق حوالى 8 ساعات إلى 12 ساعة، من أجل طحن أكبر عدد من الحجارة، على حد قول رفعت أحد المنقبين، الذي وصف هذه المرحلة بدقة، قائلاً: “بعد استخراج طحن الحجارة، نضعها في هذا الحوض”، وأشار إلى حوض مجاور للطاحونة، وحوله أوان من الألومينيوم، مهمتها هي تنقية الحجارة الذهبية فيها ووضع مادة الزئبق عليها في هذه الأواني، لتجميع الذهب المنثور وفصله عن المياه والحجارة المطحونة، ثم تنقيتها ووضعها في زجاجات لنقلها إلى المرحلة الجديدة للتجهيز وهي مرحلة الفرن.
الفرن هو المرحلة النهائية لتجهيز الذهب قبل بيعه، وقد ذهبنا إليه مع حسين الذي كان يؤكد أن أهم ما يميز تلك المهنة، هو التكاتف والعمل الجماعي، فما دام “قلبك على قلب أخيك” ستنجح ونرزق رزقاً كبيراً على حد قوله. وعند وصولنا إلى الفرن، في مكان آخر يتم اختياره أيضاً بعناية شديدة أكثر من مكان المطحنة، لأنه المرحلة الأهم، وهي مرحلة استخراج الذهب من مادة الزئبق وحرقها وتجميعها، استعداداً لبيعها للصاغة. وأوضح حسين أن ما يستخرجونه غير محسوب، فمن الممكن أن يكون غراماً أو عشرة، أو حتى كيلوغراماً، كل ذلك يكتشفونه في مرحلة ما بعد الفرن وميزان الكمية التي تم تجميعها، ويتم بيع هذا النوع من الذهب في ما يعرف بـ”الذهب الكسر” أو غير المدموغ.
مصر عائمة على جبال ذهب
أستاذ العلوم الإكتوارية في كلية التجارة في جامعة الأزهر الدكتور علاء العسكري أوضح لـ”النهار العربي” أن عملية التنقيب عن الذهب في الجبال وصحراء مصر واستخراجه تتم بطريقة غير قانونية، مؤكداً أن العاملين في هذه المهنة يستخرجون كميات من الذهب، وهناك بعض الأشخاص احترفوا هذه المهنة وعرفوا باسم “الدهابة”، ويحاولون بيع تلك الكميات وإدخالها إلى السوق المحلي المصري في شكل سبائك ذهبية، رغم أن الحكومة المصرية سنت قانوناً خاصاً بالدمغة والعيار، والدهابة لا يلتزمون بذلك القانون، ما يساعد على الغش في سوق الذهب ويجعلها تجارة غير قانونية، مشيراً إلى أن الصائغ الذي يشتري هذا النوع من الذهب يحقق مكاسب هائلة، لأنه يدمجها مع أنواع أخرى من الذهب ويقوم بإعادة بيعها من جديد على شكل مشغولات ذهبية أو جنيهات ذهب أو سبائك، وبعض الصاغة يستخدمون دمغتهم الخاصة معتمدين على ثقة الحكومة والمشترين بهم.
وأشار العسكري إلى أن “مصر عائمة على جبال من الذهب، خصوصاً سيناء وجبال البحر الأحمر بالكامل ومنطقة أسوان وحلايب وشلاتين، والدلالة إلى ذلك أن القدماء المصريين استخدموا في مقابرهم الذهب، ووجدنا مقابر مكتظة بالذهب مثل مقبرة توت عنخ أمون”.
الحبس والغرامة عقاب التنقيب
أما عن الشق القانوني والملاحقات الأمنية، فأكد عضو مجلس نقابة المحامين الدكتور محمد هيبة أن التنقيب عن الذهب يعد من الجرائم المنصوص عليها في نصوص خاصة في القانون المصري، وأهمها القانون الخاص بذلك رقم 145 لسنة 2019 وينص على أنه يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنة وغرامة لا تقل عن 50 ألف جنيه وتصل حتى 5 ملايين جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين (الحبس أو الغرامة) المنقب.
ولفت هيبة إلى أن تقنين تلك التجارة واضح في القانون، وهو يتم عبر استخراج ترخيص لإحدى الشركات المعنية بالتنقيب عن الذهب رسمياً، ومن يخالف ذلك يعتبر عمله جريمة.