حرية – (13/8/2024)
أتذكر صديقي حسن جالساً في زاوية صغيرة من غرفته، يمسك العود بيديه بينما يظهر النقش المحفور وسط العود ويحمل علامة “أعواد علي خليفة وأولاده” مقلوباً بينما تتنقل أصابع حسن على أوتاره بنعومة وإتقان. كل وتر يلامسه بأصابعه اليسرى، يطلق نغمة تتردد في الهواء كأنما يحكي قصصاً لا تروى بالكلمات، لكن قصة حسن ليست مجرد عزف على آلة موسيقية بتقنية معكوسة، إنها تجسيد للتحديات التي يواجهها كل شخص أعسر في عالم مصمم لمستخدمي اليد اليمنى. في اليوم العالمي للعسر، تبدو رحلة حسن والمئات غيره من العسران مسيرة وسط الصعاب ليثبتوا أن اليد اليسرى يمكنها أن تخلق سحراً فريداً وتعبر عن إبداع لا حدود له.
ما العسر؟
العسر، أو الاعتماد على اليد اليسرى، هو تفضيل طبيعي لاستخدام اليد اليسرى بدلاً من اليمنى في المهام اليومية مثل الكتابة والرسم وتقطيع الخضراوات واستخدام المقص وفتح المعلبات وغيرها كثير من الأفعال اليدوية. يعد هذا التفضيل نتيجة لنشاط نصفي الدماغ، إذ يكون النصف الأيمن الأكثر سيطرة لدى العسران، مما يؤدي إلى استخدام اليد اليسرى في الأنشطة اليومية. تذكر الباحثة كلير بوراك في كتابها “الجانب الجانبي: استكشاف لغز استخدام اليد اليسرى” أن هذا التفضيل ليس عاهة أو مرضاً، بل اختلاف طبيعي في بنية الدماغ.
تشير الإحصاءات إلى أن نحو 10-12 في المئة من سكان العالم يعتمدون على اليد اليسرى، وهذه النسبة ثابتة عبر عديد من الثقافات والمجتمعات. وعلى رغم أن العسر يتوزع بصورة عامة بالتساوي بين الجنسين، فإن بعض الدراسات تشير إلى أن نسبة الرجال قد تكون أعلى بقليل من النساء. تذكر المتخصصة في علم النفس ديانا بول في كتابها “دليل المستخدم لليد اليسرى” أن الدراسات لم تظهر فرقاً كبيراً في انتشار العسر بين مختلف الأعراق أو المجتمعات، مما يشير إلى أن هذا الاختلاف البيولوجي منتشر بالتساوي بين البشر جميعاً.
حسن شاب عربي يعزف على العود باليد اليسرى
بين الماضي والحاضر
يحتفى باليوم العالمي للعسر في الـ13 من أغسطس (آب) من كل عام. تأسس هذا اليوم عام 1976 بواسطة “منظمة العسر الدولية” بهدف تسليط الضوء على التحديات التي يواجهها الأشخاص العسران، مثل استخدام الأدوات المصممة لليد اليمنى، وزيادة الوعي بحقوقهم. وتذكر المنظمة أن الهدف الرئيس لهذا اليوم هو مواجهة التمييز الثقافي والاجتماعي ضد العسران، وتعزيز فهم المجتمع لهم.
الدافع الأساسي لتخصيص مثل هذا اليوم ناجم عن الصعوبات التي واجهها العسران على مر التاريخ، ففي عديد من الحضارات القديمة ارتبط العسر بمعتقدات سلبية. على سبيل المثال، في الثقافة الرومانية القديمة كانت اليد اليسرى تعد “يد الشؤم”، وغالباً ما كان ينظر إلى العسران بعين الشك وسوء ظن. تذكر الباحثة بوراك أنه في أوروبا في العصور الوسطى، كان يعتقد أن العسر علامة على وجود صلة مع الشيطان، وكانت هناك محاولات إجبارية لتعليم الأطفال العسران استخدام اليد اليمنى.
مع تطور المجتمعات وتقدم العلوم بدأت المواقف تجاه العسر تتغير تدريجاً. في القرن الـ20، ومع ظهور علم النفس الحديث، أخذ الباحثون يفهمون أنه ليس للعسر أي ارتباط بالصفات السلبية التي كانت تنسب إليها سابقاً. بفضل الأبحاث العلمية، أدرك المجتمع أن العسر هو مجرد جانب آخر من جوانب التنوع البشري، ولم يعد ينظر إليه كعيب أو شذوذ.
يحتفى باليوم العالمي للعسر في الـ13 من أغسطس من كل عام
ومع ذلك، لا يزال هناك عديد من المعتقدات الخاطئة التي تحيط بالعسر، مثل الافتراض بأنه يرتبط بمشكلات في التعلم أو ضعف في الذكاء. إلا أن الأبحاث تشير بوضوح إلى أن العسر ليس له تأثير سلبي على القدرات العقلية أو التعليمية. بل وعلى العكس من ذلك، تظهر بعض الدراسات أن العسران قد يتمتعون بقدرات إبداعية ومهارات لحل المشكلات أكثر تطوراً، وأن هذه القدرات قد تكون ناتجة من الطريقة التي يعالج بها دماغ الأعسر المعلومات.
العوامل المؤثرة في العسر
يذكر تقرير صادر عام 2020 عن وكالة “المعاهد الوطنية للصحة” الأميركية أن العوامل الوراثية تلعب دوراً كبيراً في تحديد اليد المهيمنة. إذا كان أحد الوالدين أعسر، فاحتمال أن يكون الطفل أعسر يزيد بمقدار الضعف مقارنة بالأطفال الذين لا يوجد لديهم تاريخ عائلي للعسر. يعتقد أن جينات معينة تؤثر في تحديد ما إذا كان الشخص سيكون أعسر أم لا، على رغم أن الوراثة لا تفسر بصورة كاملة هذه الظاهرة. يرد في كتاب “دليل المستخدم لليد اليسرى” أن الجين LRRTM1 قد يكون مسؤولاً عن العسر.
إضافة إلى الوراثة يمكن للعوامل البيئية أن تلعب دوراً في تحديد اليد المهيمنة. على سبيل المثال، إذا تعرض الطفل لإصابة في اليد اليمنى في سن مبكرة، قد يؤدي ذلك إلى اعتماده على اليد اليسرى بصورة كبرى. وفي بعض الثقافات التي تفضل اليد اليمنى قد يتم فرض استخدام اليد اليمنى على الأطفال العسر، مما قد يؤثر في تطور سيادة اليد.
تحديات العسر
على رغم التقدم الكبير في فهم العسر فلا يزال العسران يواجهون تحديات يومية بسبب الأدوات والمعدات المصممة أساساً لليد اليمنى. من الأمثلة الشائعة المقصات والآلات الموسيقية وأجهزة الكمبيوتر، وحتى المقاعد الدراسية التي تكون غير ملائمة للعسران.
صديقي حسن الذي بدأ تعلم العزف على العود منذ صغره، واجه صعوبات بسبب تصميم آلة العود الذي يتطلب غالباً استخدام اليد اليمنى للضغط على الأوتار، بينما يستخدم العسران اليد اليسرى بصورة طبيعية، هذا الأمر جعله يضطر إلى تطوير تقنيات خاصة لتعديل طريقة العزف وتكييف الآلة بحملها بالمقلوب والقيام بعكس ترتيب أوتارها. كان على حسن أيضاً التعامل مع التحديات النفسية التي يواجهها العسران بصورة عامة، مثل التعليقات السلبية وعدم فهم البعض تحدياتهم الفريدة، لكن وعلى رغم هذه العقبات تمكن حسن من تحويل تحدياته إلى مصدر إلهام وإبداع، مثبتاً أن العسر يمكن أن يكونوا مصدر قوة وابتكار في الممارسات الفنية.
ومع أن الصعوبات العملية والتطبيقية كثيرة، إلا أن التحديات النفسية قد تكون أكثر تأثيراً في العسران. في بعض الثقافات قد يتعرض الأطفال للسخرية أو حتى للعقاب لمحاولتهم استخدام اليد اليسرى. يمكن أن تؤدي هذه الضغوط إلى انخفاض الثقة بالنفس والشعور بالعزلة، إضافة إلى ذلك قد تؤدي صعوبة أداء المهام البسيطة مثل الكتابة أو القص إلى شعور العسران بالإحباط وعدم الكفاءة.
تفرد وقدرات إبداعية
تشير المتخصصة في علم النفس ديانا بول في كتابها إلى أن الأشخاص العسران يتميزون بقدرات إبداعية أعلى من الأشخاص الذين يستخدمون اليد اليمنى. قد يكون هذا ناجماً عن هيمنة النصف الأيمن من الدماغ، الذي يرتبط غالباً بالتفكير الإبداعي والفني. على سبيل المثال، أظهرت الأبحاث أن العسران يبرزون في الفنون البصرية والموسيقى والهندسة المعمارية، إذ تتطلب هذه المجالات التفكير الإبداعي والقدرة على رؤية الأشياء من زوايا مختلفة، وغالباً ما يظهرون مهارات تفكير نقدي وتحليلي متقدمة أيضاً، وقد يتفوقون في مهارات التفكير المكاني، والتحليل والتفكير النقدي.
ينصح المتخصصون بضرورة أن يتقبل الأهل أطفالهم العسران ودعمهم
العديد من الشخصيات التاريخية والمعاصرة هم من العسران، وبرزوا في مجالات مختلفة مثل العلوم والفن والقيادة. من بين هؤلاء الرسام والعالم الإيطالي الشهير ليوناردو دا فينشي، ومؤسس شركة “مايكروسوفت” بيل غيتس، والإعلامية الأميركية المعروفة أوبرا وينفري. حقق هؤلاء الأشخاص نجاحات كبيرة وأثبتوا أن العسر يمكن أن يكون ميزة وليس عائقاً.
كيفية التعامل مع العسر
تذكر المتخصصة في علم النفس أنه من المهم أن يتقبل الأهل أطفالهم العسران ويقدموا لهم الدعم المناسب، مضيفة “يجب على الأهل تجنب الضغط على الطفل لاستخدام يده اليمنى. بدلاً من ذلك، ينبغي لهم توفير الأدوات التي تناسب حاجاته، مثل الأقلام المصممة للعسران، والتأكد من أن الطفل يشعر بالراحة والتقبل باستخدام يده اليسرى. يمكن أن يساعد هذا الدعم الطفل في بناء ثقته بنفسه وتطوير مهاراته بصورة طبيعية”.
وعندما ينتقل الأطفال إلى سن المدرسة ينبغي على المعلمين تعديل بيئة الفصل الدراسي لدعمهم ويمكنهم توفير أدوات مخصصة لهم، مثل المقاعد المصممة للعسران، والتأكد من أن الطفل يجلس في مكان مناسب لتفادي الاحتكاك مع زملائه مستخدمي اليد اليمنى، كما يمكن للمعلمين استخدام استراتيجيات تعليمية تتناسب ونمط التعلم الفريد للعسران، مما يساعدهم على التفوق في الدراسة.
ومن أجل التغلب على التحديات اليومية، يمكن للعسران البحث عن أدوات مخصصة لهم، مثل المقصات وأجهزة الكمبيوتر الخاصة، ومن المفيد أيضاً تعلم استخدام اليد اليمنى في بعض المهام الضرورية، مثل التعامل مع الأدوات أو الآلات.
عندما ينتقل الأطفال العسران إلى سن المدرسة ينبغي على المعلمين تعديل بيئة الفصل لدعمهم
مع تقدم التكنولوجيا بدأت الشركات في تصميم أجهزة تتناسب وحاجات العسران. على سبيل المثال، يتم صنع فأرات كمبيوتر ولوحات مفاتيح وسكاكين وآلات موسيقية مصممة خصيصاً للعسران. كما بدأت التطبيقات الرقمية تأخذ في الاعتبار حاجات المستخدمين العسران، وعلى سبيل المثال، توفر تطبيقات لوحات المفاتيح الرقمية مثلSwiftKey وGboard خيارات لتخصيص تخطيط الأزرار بما يتناسب واليد اليسرى، مما يجعل الكتابة أكثر سهولة وراحة. وفي مجال التصميم والرسوميات، تتيح تطبيقات مثل “فوتوشوب” تعديل واجهة المستخدم لتتماشى مع تفضيلات العسران، من خلال تخصيص أدوات الرسم وتعديل أماكن الأوامر. حتى في ألعاب الفيديو، تقدم ألعاب عديدة خيارات لتخصيص أزرار التحكم لملاءمة اليد اليسرى، مما يحسن تجربة اللعب.
من خلال التكيف مع الأدوات والبيئة المحيطة، يستطيع العسران أن يحولوا التحديات إلى فرص للإبداع والتميز ويوثقوا، بيدهم اليسرى، أن العسر ليس مجرد اختلاف، بل مصدر قوة وإلهام.