حرية – (17/8/2024)
فاروق يوسف
منذ عقود ونحن نفكر في الحرب بطريقة لا يفعلها أحد سوانا. نطبخ في ما الحرب تسلق وتشوي وتقلي أفكارنا. نتأمل الطبيعة فنشعر أن الحرب تحرق الحقول التي نراها. ننام فنرى الحرب في أحلامنا وهي تستولي بدباباتها وطائراتها على بيوتنا وحدائقنا وملاعب صبانا. نركض لنمارس الرياضة فنرى الرصاص يسبقنا إلى المكان الذي نريد الوصول إليه. نُحب فيقف المسلحون في طريقنا فتُلغى مواعيدنا الغرامية. نغني فتلهج ألستنا بـ”احنه مشينا للحرب”. نضرب واحدا في واحد في قاعة الدرس فيقع الاثنان قتلى. نفرش الخريطة على المائدة فتتطاير الصحون والكؤوس والملاعق. أينما ذهبنا نجد الحرب من حولنا حتى بتنا نشعر أننا منذورون للحرب. أليس من حقنا أن نقول “إننا مللنا الحرب”.
هناك من يرغب في إعادة تثقيفنا انطلاقا من فكرة ضرورة الحرب. وهو محق لأنه لم يعش ما عشناه. “لا صوت يعلو على صوت المعركة” كان شعارا هو عنوان لتكميم الأفواه ومصادرة الحريات لحساب أنظمة سياسية مهزومة أثبتت أنها كانت ماهرة في إخفاء رذائلها “بلادي وإن جارت عليّ عزيزة” كان عنوانا للقبول بالذل والهوان والخضوع للنظام السياسي الذي سحق المواطنة وأباد الكرامة. أما “نحن الشباب لنا الغد” فلم يكن سوى تغريدة عصفور ضائع بين حريق الغابات. لم يكن هناك غد لكي يتغنى به الشباب. لقد فقد الشباب شبابهم حين قامت الحرب. لقد عادوا كهولا منها. وهو ما سيلحق حكاية كل واحد منهم بالأساطير القديمة. نادرا ما عاش رجل ليروي ما رآه في الحرب. في الحالة العربية تذهب الشعوب إلى الحرب وليس الحكومات.
ما هذه المعادلة الغريبة؟
يموت العراقيون فينتصر صدام حسين. يموت أهل غزة فتنتصر حركة حماس. يموت اللبنانيون فينتصر حزب الله. يموت السوريون فينتصر بشار الأسد.
دائما هم المنتصرون ونحن المهزومون. حين نرغب في أن نقول “إنهم لم ينتصروا على أحد”. نتذكر أنهم انتصروا علينا. كلما خسروا حربا ألحقوا الهزيمة بنا. كان العقيد القذافي متأكدا من أن كتابه الأخضر أكثر تعقيدا وعمقا من أن يفهمه الليبيون. من المؤكد أنه كان عبر الأربعين سنة التي كان فيها حاكما مطلقا يفكر في استبدال الشعب. في المرة الوحيدة التي حاول الشعب فيها استبداله تدخلت الدول الكبرى لتُحل الفوضى بدلا من العقيد. كانت الحرب هي الحل. وهو ما حدث في سوريا وفي اليمن. رحل علي عبدالله صالح ورحلت معه الجمهورية. بقي بشار الأسد لكن من غير شعب.
دائما الحرب هي الحل. ليتها كانت حربا حقيقية. كل الحروب في كل جهات الأرض حين تنتهي يتوارى مشعلوها. حرب الفوكلاند أسقطت نظام العسكر في الأرجنتين. نابليون ذهب إلى منفاه بعد أن خسر حربا. العالم العربي هو الاستثناء. لقد كرست هزيمة يونيو – حزيران 1967 جمال عبدالناصر بطلا في مؤتمر اللاءات الثلاث في الخرطوم. حرب 2006 التي دمرت لبنان جعلت من حسن نصرالله سيد المقاومة الذي قرر أن يكون سيد لبنان يوم احتل مقاتلوه بيروت عام 2008. وكان له ما أراد.
من السذاجة التساؤل “أين تكمن المشكلة؟” لا أحد بإمكانه أن يدين الشعوب لأنها استسلمت كالخراف التي سهُل قيادها. الشعوب مقدسة مثل أشياء كثيرة صارت مقدسة في حياتنا من غير أن تملك أسبابا مقنعة لتلك القداسة. ولا أحد يفكر في ضرورة أن تبدأ الشعوب في الانتصار على بداهاتها. هناك خيال يعمل بطريقة خاطئة. لقد أوهم رجال الدين في ظل غياب الدولة القوية الشعوب بأن النصر يأتي عن طريق الدعاء، متناسين القول القرآني “وقل اعملوا فسيرى الله عملكم”. لقد أهدرت الشعوب كرامتها في الخديعة.
ألا يحق لنا أن نقول إن كل الحروب التي قتلتنا ودمّرت أسباب حياتنا وحرمتنا من التقدم والعيش بحرية وعزة نفس لم تكن حروبنا بل هي حروب طغاتنا الذين وجدوا فيها وسيلة للتخلص من عبئنا. سؤالنا عن الحياة دفعهم إلى التفكير في موتنا. وليست هناك وسيلة للموت أكثر يسرا من الحرب. سأكون واقعيا أكثر. ما الذي سيربحه أهل غزة من وقف إطلاق النار بعد أن فقدوا أكثر من مئة ألف روح وتحولت منازلهم إلى أطلال وعادوا إلى درجة الصفر التي تستدعي تدخل منظمات الإغاثة؟ وليس صحيحا أن الحرب لن تقع مرة ثانية. فما لم تتم إعادة النظر بعلاقتنا بالحرب فإنها ستظل مستمرة وسيكون علينا دائما أن نفكر في الحرب المقبلة.