حرية – (17/8/2024)
تعد العاصمة الإندونيسية جاكرتا أسرع مدينة تغرق في العالم، لذلك قررت الحكومة البدء في مشروع جريء لبناء عاصمة جديدة من الصفر وسط الغابات.
الهدف من الخطة الطموحة هو أن تكون العاصمة الجديدة أكبر إرث للرئيس المنتهية ولايته جوكو ويدودو. أُعلن عن مشروع المدينة الجديدة لأول مرة عام 2019، وبدأ العمل على بناء المدينة الجديدة في منتصف عام 2022.
ومن المقرر أن تكون جاهزة في وقت قريب لاستقبال أول دفعة من سكانها، الذين سينتقلون إليها خلال الأسابيع القليلة المقبلة.
قال الرئيس ويدودو الأسبوع الماضي، خلال أول اجتماع لمجلس الوزراء في المدينة الجديدة، “إن العاصمة الجديدة “نوسانتارا” عبارة عن لوحة قماشية حيث يُبنى المستقبل. لا تتمتع جميع البلدان بالفرصة والقدرة على بناء عاصمتها من الصفر”.
جاكرتا، التي كانت عاصمة البلاد منذ العصر الاستعماري الهولندي في القرن السابع عشر، مزدحمة بشدة، وهي أسرع مدينة غرقا في العالم فضلا عن كونها واحدة من أكثر مدن العالم تلوثا. أربعون في المائة من المدينة، التي يبلغ عدد سكانها 10.5 مليون نسمة، يقع حاليا تحت مستوى سطح البحر.
ومن المقرر أن تكون نوسانتارا مدينة خضراء عالية التقنية تمزج بين الطبيعة والبنية الأساسية للمدينة الحديثة. كما خطط أن يكون أكثر من 60 في المئة من مساحتها الإجمالية مساحات خضراء، مجهزة بمسارات للمشي ومسارات للدراجات.
ولكن حتى الآن، لا يزال جزء كبير من العاصمة الجديدة قيد الإنشاء. وعندما زارت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) الموقع مؤخرا، كان مئات، إن لم يكن آلاف، العمال يعملون بلا توقف للإسراع في تشييد المباني غير المكتملة، بينما كانت الشاحنات والحفارات تثير سحبا من الغبار على طول الطريق الوعر.
خُطط المشروع على خمس مراحل، وكان من المقرر في الأصل أن تنتهي المرحلة الأولى في أغسطس/آب الحالي، لتتزامن مع احتفالات البلاد بعيد الاستقلال. ومع ذلك، تم تأجيل ذلك الآن إلى نهاية العام.
قال مدير البنية التحتية في نوسانتارا، دانيس سوماديلاجا، لبي بي سي خلال زيارة للموقع: “نحن على المسار الصحيح، على المسار الصحيح تماما”، مضيفا أن ما يقرب من 90 في المئة من المرحلة الأولى قد اكتمل الآن.
وأضاف: “نحن لا نبني ليكتمل البناء فقط في أغسطس/ آب. هذا جزء من التطوير، نحن نبني شيئا لمستقبل البلاد”.
وعلى الرغم من التقدم، لا تزال الشكوك قائمة حول استدامة المشروع الضخم الطموح.
تبلغ تكلفة بناء المدينة بأكملها 33 مليار دولار، وقد تعهدت الحكومة بخمس “20 في المئة” هذا المبلغ فقط، وتسعى حاليا لتأمين الباقي من خلال الاستثمار الخاص.
ولجذب المستثمرين، عرض الرئيس ويدودو مؤخرا حوافز، بما في ذلك حقوق ملكية الأراضي لمدة تصل إلى 190 عاما.
وعلى مدار العام الماضي، عرض ويدودو نوسانتارا الاستثمار في المشروع على العديد من زعماء العالم، بما في ذلك في قمة مجموعة العشرين في الهند في نوفمبر/ تشرين الثاني، ولكن لم تُوقع أي صفقات كبيرة حتى الآن.
وقالت إيكا بيرماناساري، الأستاذة المشاركة في التصميم الحضري بجامعة موناش الأندونيسية “إنه أمر مخيف عندما تعتمد على 80 في المئة من الاستثمار الخاص. يحتاج المستثمرون إلى رؤية الجدوى الاقتصادية والتنمية المستمرة. لا يمكنك التوقف في منتصف الطريق”.
وادعى أغونغ ويكاكسونو، نائب رئيس التخطيط والاستثمار في هيئة نوسانتارا، أن العديد من المستثمرين الأجانب في مراحل مختلفة من تأكيد مشاركتهم – على سبيل المثال، يقال إن بعضهم يجري حاليا دراسات الجدوى.
وقال ويكاكسونو: “إنهم يريدون أن يكونوا على ثقة من أن البنية التحتية جاهزة، وبالتالي فالسكان سيكونون السوق الاستهلاكية لهم. لكنهم لا يجلسون منتظرين، إنهم يقومون بالعمل الذي يقع على عاتقهم”.
ويقدم فريق نائب رئيس التخطيط والاستثمار في هيئة نوسانتارا حاليا مخططا تتعاون فيه الحكومة مع المستثمرين المستقبليين، وتقاسم المخاطر والالتزام بالمشروع معهم.
تكنولوجيا متقدمة في الغابة
تقع العاصمة الجديدة على بعد حوالي 12 ألف كيلومتر من العاصمة جاكرتا الواقعة في جزيرة جاوة. وقد نُحتت العاصمة الجديدة في الغابات الواقعة شرق كاليمانتان في بورنيو، وقد اختيرت تحديدا لانخفاض مخاطر الكوارث الطبيعية فيها مثل الفيضانات والزلازل.
وعلى الخريطة، تقع نوسانتارا استراتيجيا في المركز الجغرافي لإندونيسيا. وقد اختير موقعها بعناية بهدف المساعدة في إعادة توزيع الثروة والموارد في الأرخبيل الشاسع (المكون من 17500 جزيرة)، وبعيدا عن جاكرتا وجاوة.
تعد جاوة، الجزيرة الأكثر كثافة من حيث عدد السكان في أندونيسيا، وتشكل حوالي 60 في المئة من الاقتصاد الوطني.
قالت خبيرة المدن، إيكا بيرماناساري، “طوال هذا الوقت، كان التطوير يركز على جاوة لذا هناك شيء إيجابي في نقل العاصمة إلى موقع مركزي بعيدا عن جاوة”.
يمتد المشروع الضخم على مساحة تبلغ حوالي 1000 ميل مربع – أي أربعة أضعاف حجم جاكرتا ومرتين حجم مدينة نيويورك.
وقد أعرب خبراء البيئة عن مخاوفهم منذ وضع الخطوط العريضة للمشروع. فهم يخشون أن يؤدي بناء المدينة إلى تدهور البيئة، مما يؤدي إلى تقليص موطن الحيوانات المهددة بالانقراض مثل إنسان الغاب والقرود ذات الأنف الطويل.
لكن الحكومة رفضت مرارا وتكرارا هذه المخاوف، بحجة أن نوسانتارا تُبنى على أرض كانت ذات يوم مزرعة صناعية أحادية الزراعة لشجر الكينا، والتي يزعمون أنها كانت ستتسبب في أضرار بيئية على الأمد البعيد.
ويقول المسؤولون إنها ستعمل بالكامل بالطاقة المتجددة ومجهزة بإدارة ذكية للنفايات.
المدينة، التي ستسمح حصريا للسيارات الكهربائية بالعمل فيها، تهدف إلى تحقيق صفر انبعاثات بحلول الوقت الذي ستكتمل فيه في عام 2045. وإذا تحقق ذلك، فهذا يعني الوصول إلى الهدف البيئي قبل 15 عاما من الهدف الوطني لإندونيسيا.
السكان المستقبليون
هناك شكوك أيضا تدور بين الأندونيسيين أنفسهم، بما في ذلك سكان نوسانتارا المستقبليين. إذ من المقرر أن تستوعب المدينة الإدارية 1.9 مليون شخص بحلول عام 2045، معظمهم من الموظفين الحكوميين وعائلاتهم. ومن المتوقع أن تنتقل المجموعة الأولى، التي تضم حوالي 10 آلاف موظف حكومي، إلى نوسانتارا في سبتمبر/ أيلول المقبل.
وقد أعرب بعض الموظفين الحكوميين، الذين وافقوا على التحدث إلى بي بي سي بشرط عدم الكشف عن هويتهم، عن ترددهم.
قال أحد الأباء لبي بي سي: “البنية التحتية ليست جاهزة بعد، أين سأرسل طفلي إلى المدرسة؟ هل هناك أنشطة متاحة له، وماذا عن المنشآت الترفيه”.
موظف حكومي آخر، أعزب وله أولوية الانتقال، قلق بشأن إجباره على العيش في شقة مع أشخاص عزاب آخرين. لا تحتوي الأبراج السكنية التي تُبنى في نوسانتارا حاليا إلا على وحدات مكونة من ثلاث غرف نوم، لذا سيتعين على أولئك الذين ليس لديهم أسر أن يتقاسموا الوحدات مع غيرهم ممن ليس لديهم أسر.
ويقول السكان المحليون الأصليون الذين يعيشون حول منطقة نوسانتارا إنهم يشعرون بأن الحكومة أهملتهم. لقد أدى تطوير المدينة بالفعل إلى نزوح ما يقرب من 100 شخص كانوا بالقرب من المنطقة الحكومية، كما أثار المزيد من بناء الطرق السريعة والمطار الجديد مخاوف من المزيد من عمليات النزوح والنقل.
يشعر باندي، الذي يعيش في قرية قريبة، بالقلق إزاء التحضر الذي يهدد هويته الثقافية. منذ الإعلان عن نقل العاصمة في عام 2019، شهدت منطقة بيناجام باسير، حيث تقع نوسانتارا، زيادة مطردة في عدد السكان.
وقال: “لقد وعدوا بإعادة بناء قريتنا وتحويلها إلى منطقة للسياحة. لكنني أخشى أن تكون هذه وعودا فارغة، وليس لدينا أي ضمان بأننا سنحتفظ بمنازلنا”.
ووفقا لإيكا بيرماناساري، كانت هذه نقطة انتقاد أخرى. إن تصميم مدينة نوسانتارا ذات التكنولوجيا العالية قد يخلق مدينة حصرية للنخبة مع إهمال السكان المحليين.
وقالت “لقد أصبحوا مجرد متفرجين. إنهم يرون هذه المباني والأشخاص المستوردين. وعندما تبني مدينة متميزة إلى هذا الحد، فإن هذا من شأنه أن يخلق تفاوتا اجتماعيا واقتصاديا، تماما كما هو الحال في جاكرتا”.