حرية – (19/8/2024)
رفيق خوري
لا ثقة بأمريكا، يقول خصومها وبعض حلفائها، لكنها هى القوة العظمى الوحيدة التى لا مهرب لدى خصومها وحلفائها من الاضطرار للتسليم بالحاجة إلى انتظار ما يمكن أن تقدمه دبلوماسيتها فى صراع الشرق الأوسط، فما ينطبق عليها هو قول الشاعر «فيك الخصام وأنت الخصم والحَكَم». وما بقى محل متابعة منذ حرب غزة خلال أكتوبر 2023 هو الدعوات إلى ضغط أمريكى على نتنياهو لدفعه إلى التخلى عن العراقيل أمام هدنة فى غزة. وقف نار وتبادل مخطوفين وأسرى بين «حماس» وإسرائيل. صفقة تنقذ المنطقة من الانزلاق نحو حرب واسعة مدمرة.
وهى حرب، خلافًا لحرب 1973 وسواها من الحروب العربية- الإسرائيلية، ليست من أجل تسوية للصراع، بل من أجل حل راديكالى يحتاج إلى حرب دائمة خلال 100 عام أخرى من الصراع. والظاهر أن مصلحة إدارة الرئيس جو بايدن تلتقى مع مصالح الغالبية الساحقة من حكومات المنطقة وشعوبها فى تخفيض التصعيد وإنهاء حرب الإبادة فى غزة، بالتالى وقف حرب الإسناد عبر «وحدة الساحات».
وليس قليلًا ما بذلته واشنطن ومعها القاهرة والدوحة من جهود لترتيب مفاوضات من أجل الهدنة وُصفت بأنها «الفرصة الأخيرة»، لكن التجارب أكدت أنه لا شىء اسمه فرصة أخيرة فى صراع مفتوح، فالفرص تبقى مفتوحة، مهما تكن المصاعب والعثرات.
ذلك أن أمريكا تلعب بورقتين فى وقت واحد، ورقة الحشد العسكرى المؤثر فى البحر المتوسط والبحر الأحمر للحيلولة دون تطور القتال الحالى إلى حرب إقليمية، والتلويح بأنها إذا حدثت لن تبقى حربًا إقليمية لأن أمريكا ستنخرط فيها.
وهذا الانخراط هو ما يعمل له ويراهن عليه نتنياهو، الذى لا مخرج أمامه من مأزق الحرب فى غزة وحروب الإسناد على أيدى «حزب الله» و«الحشد الشعبى» فى العراق، والفصائل الموالية لإيران فى سوريا والحوثيين فى اليمن إلا بتوسيع الحرب ودخول أمريكا فيها، فضلًا عن الإعلان أن واشنطن مستعدة للدفاع عن إسرائيل ضد أى هجوم إيرانى كبير. وفضلًا أيضًا عن موافقة وزارة الخارجية الأمريكية على صفقة أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار.
عباس أمام البرلمان التركى: سأتوجه إلى غزة والقدس
والورقة الثانية هى وقف النار فى غزة بما يوقف القتال على جبهات الإسناد، ثم يقدم فرصة لفتح أفق سياسى أمام الفلسطينيين نحو دولة فلسطينية. ومن هنا قول رئيس السلطة الوطنية، محمود عباس، أمام البرلمان التركى، إنه «لا دولة فى غزة ولا دولة من دون غزة».
والواقع أن أمريكا لعبت دورين مختلفين فى حربين، حرب 2006 بين «حزب الله» وإسرائيل وحرب غزة. فى حرب 2006 كانت وزيرة الخارجية فى إدارة الرئيس جورج بوش الابن، كوندوليزا رايس، تراهن على «شرق أوسط جديد» تشكل الحرب «آلام ولادته». شرق أوسط تعيد واشنطن تشكيله، لكن رهانات واشنطن على «شرق أوسط أمريكى» انتهت إلى «شرق أوسط إسلامى» بقيادة إيران، كما قال المرشد الأعلى على خامنئى. إسرائيل فشلت عسكريًّا والسيد حسن نصرالله أعلن «النصر الإلهى». وحكومة الرئيس فؤاد السنيورة لعبت دور «المقاومة الدبلوماسية» بما أدى إلى صدور القرار 1701 عن مجلس الأمن، وهو القرار الذى لا بديل من الحرب سوى تطبيقه.
أما فى حرب غزة، فإن إدارة الرئيس بايدن دعمت إسرائيل فى شعار «القضاء على (حماس)» بداعى أن ذلك يفتح الطريق إلى «حل الدولتين»، الذى ترفضه «حماس» وحكومة نتنياهو ومعها الكنيست، وتراهن عليه السلطة الوطنية فى رام الله، لكن الجيش الإسرائيلى فشل فى تحقيق الهدف المعلن على مدى 10 أشهر، وبقيت «حماس» تقاتل فى غزة، وتقصف إسرائيل بالصواريخ من منطقة مملوءة بالدبابات الإسرائيلية، وتحتفظ بالأسرى، وتتولى قيادتها التفاوض على قدم المساواة مع إسرائيل والوسطاء.
ومن الصعب قطع الشك باليقين حول روايتين، واحدة خلاصتها أن إدارة بايدن أعطت نتنياهو الضوء الأخضر للقيام بالاغتيالات، التى نفذها مباشرة بعد عودته من أمريكا واستقبال الأبطال له فى الكونجرس، وثانية موجزها أن نتنياهو خدع بايدن وطمأنه إلى الرغبة فى هدنة فى غزة، ولهذا انتقد بايدن اغتيال إسرائيل للقائد العسكرى فى «حزب الله»، فؤاد شكر، ورئيس المكتب السياسى لحركة «حماس»، إسماعيل هنية، أقله لأن الاغتيال يعرقل الصفقة المفترضة فى غزة.
وما انتهت إليه الإدارة الأمريكية على مسافة أسابيع من الانتخابات الرئاسية، وبعد أن تخلى بايدن عن خوض المعركة لمصلحة نائبته كامالا هاريس وصار «بطة عرجاء»، هو توظيف الحرب الحالية من أجل الحفاظ على «الستاتيكو»، فما يهمها هو وقف النار فى غزة وإنهاء كابوس الحرب الإقليمية فى المنطقة. وما يهم إيران هو الحفاظ على «حماس» فى غزة وتجنب مواجهة مع أمريكا وحتى مع إسرائيل تهدد مشروعها النووى. أما الردود على الاغتيالات فإنها تبقى تحت سقف الحرص على تجنب أن تؤدى إلى حرب شاملة. وأما التفاوض على هدنة فإنه لن يصبح ورقة مطوية مهما تكن المصاعب.
وليس سرًّا أن كوندوليزا رايس اعترفت بأن أمريكا «سعت على مدى 60 عامًا لتحقيق الاستقرار فى الشرق الأوسط على حساب الديمقراطية، لكنها لم تحصل على أى منهما».