حرية – (24/8/2024)
علي حمادة
انتقلت إسرائيل إلى مرحلة جديدة من المواجهة مع “حزب الله” في لبنان. فالضربات العنيفة الأخيرة على مخازن ومستودعات وأسلحة صواريخ وذخيرة في منطقة البقاع، فضلاً عن اغتيال مسؤول كبير في “كتائب شهداء الأقصى” التابعة لحركة “فتح” في لبنان، مثّلت إشارة واضحة إلى أن التصريحات الأخيرة التي أدلى بها وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت بأن “مركز الثقل للجيش الإسرائيلي ينتقل تدريجياً من قطاع غزة إلى الجبهة الشمالية” معناه أن قراراً كبيراً اتُّخذ بالنسبة إلى “حزب الله” ليُنفّذ على مراحل، لا سيما أن تصميم الحزب المذكور على ربط جبهة لبنان بجبهة غزة حال ويحول دون نجاح الوساطات في إحلال تهدئة على الحدود بين لبنان وإسرائيل.
وكان لزيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الأخيرة لقاعدة “رامات ديفيد” الاستراتيجية التابعة لسلاح الجو الإسرائيلي، ملمح مختلف عن زيارات سابقة للمكان نفسه. فبعدما تعرّضت القاعدة لتحليق استطلاعي من مسيّرات “حزب الله” المسمّاة “الهدهد”، برز انكشاف أكبر قاعدة في الشمال الإسرائيلي، مهمّتها تغطية الجبهتين اللبنانية والسورية على حدّ سواء. ومن هنا خطورة الموقف بالنسبة إلى الطرفين في آن. فالضربات الإسرائيلية عنيفة ومعها الاغتيالات التي لا تتوقف يومياً، وتلاحق المقاتلين والقادة الميدانيين في “حزب الله”، حتى تجاوز عدد القتلى 400 على الأقل.
كل الأطراف الدولية المعنية بالشأن اللبناني تشدّد على وجوب مسارعة “حزب الله” إلى خفض التصعيد وصولاً إلى وقف لإطلاق النار، نظراً لتسارع وتيرة التدحرج نحو حرب أوسع وأكثر خطورة من أي وقت مضى. والحال، أن شعور الإسرائيليين، لا سيما المستوى العسكري، بأن استمرار حرب الاستنزاف على جبهة لبنان سيؤدي إلى كارثة على إسرائيل نفسها، على الرغم من أن “حزب الله” يعاني الأمرّين من الضربات المركّزة التي تلحق به أذى كبيراً، هذا الشعور من شأنه أن يعزز موقف فريق المؤسسة العسكرية الداعم لشن حرب أوسع على “حزب الله”. وفي هذا المجال، يجدر التوقف عند ما قاله اللواء الاحتياط يتسحاق بريك يوم أمس: “إذا استمرت حرب الاستنزاف مع ’حماس’ و’حزب الله’، فإن إسرائيل ستنهار في أقل من عام”. تفسيرنا لهذا القول هو بما أن حرب غزة وهي الأساس لن تتوقف حتى بلوغ الإسرائيليين أهدافهم المعلنة، وأهمها تصفية حركة “حماس” من الناحية العسكرية، وسيحتاج هذا الأمر إلى عام إضافي على الأقل، فإن حرب الاستنزاف الحالية مع “حزب الله” تحتاج إلى أن تتوقف في أسرع وقت، في وقت يتعرّض نتنياهو لهجوم سياسي حاد من المعارضة التي تتهمه بالفشل في رفع تهديد “حزب الله” عن الشمال الإسرائيلي، كقول رئيس الوزراء الأسبق يائير لابيد “إن إسرائيل خسرت الشمال بسبب نتنياهو”. ومن أجل ذلك، ينتقل الثقل العسكري إلى الشمال، وفي الوقت عينه ينتقل الجيش إلى مرحلة جديدة أكثر عنفاً وكثافة وعمقاً، مستهدفاً المستودعات والمخازن في البقاع والجنوب. ويرى البعض أن التدرّج في التصعيد الكبير يأتي في وقت اكتمل انتشار الأصول العسكرية الأميركية والغربية في شرق المتوسط، من سوريا إلى العراق، وصولاً إلى مضيق هرمز، وبحر العرب وخليجَي عُمان وعدن ومضيق باب المندب والبحر الأحمر. وهنا أيضاً يأتي إعلان القيادة المركزية الأميركية عن وصول حاملة الطائرات “إبراهام لينكولن” مع مجموعتها الضاربة المؤلفة من مدمّرات وسفن إمداد لوجستية إلى منطقة عملياتها، لتنضمّ إلى أسطول أميركي منتشر في كل المنطقة. وفي الوقت عينه، تترنح المفاوضات بشأن الصفقة في غزة، ويغادر وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن المنطقة بعدما فشل حتى الآن في إنجاز اتفاق “الفرصة الأخيرة الممكنة”، كما وصفها في بداية جولته الشرق أوسطية.
بناءً على ما تقدّم، حرب غزة التي تعتبرها إسرائيل وجودية، غير مرشحة للتوقف في وقت قريب. استمرار حرب الاستنزاف التي يخوضها “حزب الله” ضدّ إسرائيل على هذه الوتيرة التي تلائم الحزب المذكور وحساباته يكاد يكون مستحيلاً من دون تعديل جذري في الوتيرة، ستسعى إليه إسرائيل في محاولة منها لتدفيع الحزب ثمناً أكبر، وبالتالي دفعه إلى مراجعة حساباته على المستوى الاستراتيجي، لا سيما أن الولايات المتحدة من خلال انتشارها العسكري الدفاعي – الهجومي ترسل رسالة إلى كل من إيران و”حزب الله” مفادها أن الهجوم الموعود على إسرائيل للانتقام منها بسبب اغتيال كل من رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” إسماعيل هنية في قلب طهران، والقائد العسكري الأهم في “حزب الله” فؤاد شُكر في معقل الحزب في قلب الضاحية الجنوبية لمدينة بيروت، ستترتب عنه نتائج دراماتيكية، لأن الولايات المتحدة سنتخرط في عملية الدفاع عن إسرائيل.
ولعلّ التهديدات الأميركية التي وجهت شطر إيران وذراعها في لبنان، مصحوبة بحركة دبلوماسية ناشطة في بيروت والدوحة والقاهرة، حالت حتى الآن دون قيام طهران و”حزب الله” بردّ بمستوى عمليتي الاغتيال. فالمضاعفات قد تكون كبيرة جداً. ويدرك الطرفان أن توجيه ضربة استعراضية شبيهة بضربة 13 و14 نيسان (أبريل) الفائت، رداً على مجزرة القنصلية الإيرانية في دمشق في 1 نيسان (أبريل)، لن تفي بغرض استعادة هيبتهما المعنوية بعد ما حصل في 30 تموز (يوليو) الفائت. فكلاهما يحتاج إلى توجيه هجوم كبير وفعّال ومؤلم ودعائي يخدم صورتهما. وهنا، يبدو أن الأمر صعب المنال في الظروف الراهنة، حيث إصبع الإسرائيلي على الزناد لاستغلال أي هجوم كبير في العمق، أولاً من خلال استهداف بنى تحتية استراتيجية في العمق الإيراني، ومعلوم أن المنشآت النووية الإيرانية هي ضمن بنك الأهداف الإسرائيلي، فضلاً عن منشآت عسكرية أخرى، بينها موانئ مثل بندر عباس وغيره؛ وثانياً من خلال إطلاق عملية عسكرية واسعة، في محاولة لتغيير الواقع في الجنوب اللبناني من دون العودة إلى يوم 6 تشرين الأول (أكتوبر) 2023. فالتفكير في تل أبيب يفيد بأنه لن يحصل استقرار طويل الأمد من دون أن تنشب حرب ما، تستدعي تدخلّاً دولياً واسعاً لفرض تطبيعٍ للوضع العسكري على الحدود اللبنانية – الإسرائيلية؛ وثالثاً، ستستغل إسرائيل نشوب نزاع واسع النطاق مع إيران و”حزب الله” من أجل التملّص من التفاوض الجدّي لوقف الحرب، وتالياً إعادة تفعيل النشاط العسكري المكثف في قطاع غزة، بهدف تقويض ما يمكن تقويضه من القوة العسكرية لحركة “حماس”، ومضاعفة الجهد لقتل الحياة وسبلها والأمل باستعادة الانفاس في غزة، عبر إطالة أمد المعاناة غير الإنسانية قتلاً وتدميراً وتهجيراً، ذهاباً وإياباً من مكان إلى مكان. وأخيراً وليس آخراً، تأجيل رئيس الوزراء نتنياهو الاستحقاقات السياسية التي يمكن أن تطيح به وبحكومته، فتنقله من مرحلة السلطة إلى مرحلة المحاسبة على مستويات مختلفة.
توسيع الحرب صار مصلحة إسرائيلية، واستمرار إيران قائدة محور “وحدة الساحات” في تسعير الموقف، أقله في لبنان، سيقدّم خدمة جليلة لنتنياهو، فيمكنه الهروب إلى حرب أوسع ضدّ “حزب الله”. وهذا الأخير لا يستطيع أن يعتمد على قدراته القتالية الكبيرة نسبياً فحسب، ولا على مخزون أسلحته الصاروخية الكبير، ولا على دعم الفصائل في الساحات الأخرى. هذه كلها لها “حلول” في جعبتي الأميركي والإسرائيلي. وعليه أن يقرأ جيداً التحول في الذهنية الأمنية الإسرائيلية التي سبّبها تورطه في حرب استنزاف طويلة. والنتيجة أنه وضع نفسه برضاه في دائرة الخطر الكبير، وجرّ خلفه لبنان قسراً وعنوة إليها، خصوصاً مع تراجع فاعلية عامل الردع الذي احتمى خلفه حتى الآن.