حرية – (25/8/2024)
مصطفى فحص
أغلق بنيامين نتنياهو أبواب التفاوض، ففتح اللبنانيون والفلسطينيون المقيمون فوق الأرض أبواب القلق على الحاضر والمستقبل. الأغلبية الساحقة منهم فى غزة حيث لم يعد هناك مكان للحياة، ولبنانيون جنوبيون نزحوا من قراهم ومدنهم؛ إذ لم يعد هناك مكان آمن فى جنوب لبنان. والأصعب أنهم قلقون بسبب قلَّة الأماكن التى ستؤويهم لأسباب كثيرة غنية عن التعريف؛ كونها واضحة فى طبيعة القبائل اللبنانية المتناحرة، فحاضرهم بات محصورًا بين قذيفة تطلقها دبابة أو صاروخ من مسيّرة. أما مستقبلهم، فيبدو لهم كالمجهول المعلوم، فهم لا يعرفون متى تنتهى الحرب، ولكنهم أصبحوا أكثر تصورًا كيف ستنتهى، فهذه الحرب التى فرضها عليهم عدوُّهم بعد خطأ فى حسابات ذويهم، ستترك ندوبها على وجوههم وأجسادهم، وعلى بيوتهم وأرزاقهم وبلادهم.
ندوب تشبه إلى حد بعيد تلك التى تركت أثرها العميق على دول ومجتمعات وجيوش كانت أكثر تماسكًا وحصانة منهم.. شعوب كانت تنتظر النصر، فقدمت الغالى والنفيس من أجل تحقيقه، وأعطت أنظمتها أكثر مما أخذت، وأجَّلت الكلام إلى ما بعد الانتصار الموعود، فأصيبت بخيبة الأمل، بعدما اكتشفت أن أنظمتها خدعتها وخدعت نفسها. قبل ١٩٦٧، كانت قلوب أغلب العرب وعقولهم مع القاهرة، وحتى خصومها أداروا وجوههم نحوها فى لحظة التحدى، وارتضوا جميعًا، ولو البعض منهم على مضض، بمقولة «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة».
الصدمة كانت أن العدو حسم المعركة بعدة أيام، فمنذ ٥ يونيو سنة ١٩٦٧ ونحن نعيد تدوير الهزيمة؛ نكابر ونسميها نكسة، كما سمينا هزيمتنا الأولى نكبة، وهى فاجعة، فيما اليوم نواجه خطر نكبة ونكسة جديدتين، ورؤوسًا حامية تعيد المقولة ذاتها: «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة».
ولأن المواجهة شبه حتمية، ولأن الحشود واضحة، وفارق التوازن واضح أيضًا، ليس الآن، بل منذ حرب ١٩٧٣، فأولئك الذين أطربهم الصوت الافتراضى للمعركة، انتبهوا وحذروا أنظمتهم من مناطحة الثور الأمريكى، وفى هذا يقول الأستاذ حازم صاغية فى وصف حالتنا اليوم: «تواجهنا الحقيقة التى لم تكن صحيحة كما هى صحيحة راهنًا. فالفارق التقنى يجعل التفكير بالعنف كحلّ للمعضلة الكبرى أقرب إلى انتحار مُعمّم، فحين نضيف الدعم الأمريكى والغربى الهائل لإسرائيل يغدو الانتحار وصفًا لطيفًا لا يفى بالغرض».
مرة جديدة، وقد لا تكون الأخيرة، تستدرج إسرائيل مَن يريد مواجهتها إلى الأخطاء ذاتها التى ارتكبها مَن سبقهم؛ فوحدة الساحات أصابها ما أصاب وحدة الجبهات، فالحرب لم تعد على «حماس»، بل لتصفية القضية الفلسطينية، وحرب الإسناد لم تجبر العدو على التراجع، ولا عرض طهران بمقايضة ردها مقابل الهدنة كان له مكان على طاولة المفاوضات. هذه الحسابات السياسية والاستراتيجية تختلف بين مَن يقيم فوق الأرض ومَن يقيم تحتها، بالنسبة للذين تحتها فإن البقاء على قيد الحياة انتصار. أما نحن الذين فوقها فإننا على مشارف نكسة جديدة، كما ١٩٦٧، ستترك ندوبها طويلاً، ليس فقط على أجسادنا، بل على أحلامنا وحريتنا وتحرير أوطاننا واستعادة الحق الفلسطينى، وعلى ذاكرتنا ولغتنا وثقافتنا، فمن «الطنطورية» لرضوى عاشور إلى «ثرثرة فوق النيل» لنجيب محفوظ، لعل روائيًا لبنانيًا سيكتب ذات يوم «ثرثرة فوق الليطانى». نعم، الصوت يعلو فوق صوت المعركة، لأننا لا نريد أن نخسر ما تبقى من أوطاننا، وأن نخسر فلسطين إلى الأبد؛ فالأفضل لفلسطين تجنُّب مناطحة الثور الأمريكى الهائج، فهو قد غضّ بصره عن المشاهد المنقولة مباشرة لفاجعة الإبادة الجماعية فى غزة، والقتل والقمع اليومى فى الضفة، والدمار والنزوح فى جنوب لبنان، وأعطى حليفه الوحيد كل ما يريد حتى يأخذ ما يريد، فقد أغلق بنيامين نتنياهو أبواب التفاوض وفتح أبواب.
للأسف الشديد هناك «لخبطة» عقول لدى البعض، مما يجعله يخلط بين التقدم والجهل والتخلف فى آن واحد، ففى الوقت الذى وصلت فيه نسب التعليم فى الدول المتقدمة إلى ١٠٠٪، لا يزال لدينا نسب أمية عالية تصل إلى ما يقرب من ١٧.٥٪ وفقا لبيانات مسح القوى العاملة فى مصر لعام ٢٠٢٢.
كان طبيعيا أن تغازل هاريس «إسرائيل»، معلنة أنها «ستقف دائما مع حقّها فى الدفاع عن نفسها»، وهذا هو حال أسلافها بطبيعة الحال، وقالت أيضا إنها تعمل مع الرئيس بايدن لإنهاء الحرب فى غزة، وإطلاق سراح الأسرى، ولأجل بعض التوازن (كعادة أسلافها أيضا) قالت إن ما حدث فى غزة مدمّر، ومستوى المعاناة الإنسانية مُحزن للغاية.