حرية – (25/8/2024)
اثنان من عمالقة الفن الحديث في باريس، بيار بونار (1867-1947) وهنري ماتيس (1869-1954)، يجمعهما كتاب ضخم ومعرض عن الصداقة التي جمعتهما طوال 40 عاماً، تحت الأضواء تقيمه مؤسسة ماغ Maeght حتى السادس من أكتوبر (تشرين الأول) المقبل في مقرها في سان بول دو فانس، احتفاءً بمرور 60 عاماً على تأسيسها. يستكشف الكتاب والمعرض الجوانب الحياتية والفنية التي أسست لصداقة الرسامين اللذين تقاسما لحظات الحياة المهمة والعابرة والهامشية، بدءاً من لقائهما الأول عند التاجر أمبرواز فولارد في عام 1906، كما يتتبع فحوى المراسلات المتبادلة بينهما من عام 1925 إلى عام 1946، بحثاً عن أسئلتهما وما كان ينتاب كل منهما من شكوك وآمال، من بينها بطاقة بريدية أرسلها ماتيس من سان بول دو فانس إلى بونار في فرنونيه وقد حملت عبارة “يحيا الفن: تحياتي الطيبة”.
“هل بيار بونار رسام عظيم؟”، يتساءل الناقد الفني كريستيان زيرفوس مشككاً، في مقال نشر عام 1947 في مجلة “دفاتر الفن”. “نعم! أشهد أن بيار بونار رسام عظيم اليوم، وبالتأكيد للمستقبل”، كتب هنري ماتيس بخط اليد، على هامش نسخة من المجلة الموقرة، بعد عام على انتهاء حركة Les Nabis (1888- 1900) التي تكونت في مرحلة ما بعد الانطباعية على أساس الفكر الصوفي واستكشاف الأديان وثقافات الشرق مهبط الوحي، وكان بونار الملقب بـ”نابي جابونارد” أحد أبرز أقطابها. تأتي هذه الرسالة مباشرة من القلب، ولسبب وجيه، كان ماتيس سيد الوحشية (1905- 1908) معجباً جداً بالأخير.
الكتاب الذي يجمع بين الرسامين
الواضح أن صداقة ماتيس لبونار نابعة من تقديره العميق لقيمته الفنية، وهي صداقة فيها سلام وود، تختلف في جوهرها عن صداقته لبيكاسو المليئة بالسجالات والمشاحنات والتنافس. ومن باب هذه الصداقة يقدم المعرض اللوحات التي اقتناها كل منهما للآخر، على سبيل المثال لوحة “المساء في الصالون”، التي رسمها بونار عام 1907 وحصل عليها هنري ماتيس في عام 1911، وكذلك “النافذة المفتوحة في كوليور”، التي اشتراها بونار بعد عام من إنشائها على يد ماتيس في عام 1911.
إلهامات الشرق
كان الرجلان على رغم التناقض الكبير لشخصيتهما ومزاجهما يكن أحدهما الاحترام للآخر. ماتيس في نجوميته وانفتاحه على المجتمع وتوجهاته اللونية التي خلقت انقلاباً في الوسط الفني، إزاء الشخصية المغمورة والانطوائية الكتومة لبونار. القيمون على المعرض والكتاب يتحدثون عن الموضوعات المشتركة التي تجمع بين الصديقين ويتعقبون المواقع نفسها التي رسمها كل منهما والموضوعات الفنية التي تمثلت في أسلوبهما، وتحدثوا كذلك عن الفوارق التي تميز بين شخصيتين على طرفي نقيض. ولكن ما لم يقله هؤلاء إن ما يجمع ماتيس وبونار من الناحية الفنية ليس بسيطاً بل عميقاً وجوهرياً يكمن في التوجه نحو الشرق (العربي والإسلامي والأقصوي) المليء بالإيحاءات اللونية والقيم الزخرفية في طريقة تبسيط العالم. هذا المصدر الشرقي الذي كان سبباً لكل من بونار وماتيس في تحديث الفن بعيداً من الذائقة الأوروبية وتقاليدها.
الصيف بريشة بونار
تتمحور الأعمال الفنية حول موضوعات مختلفة تعكس خصوصيات أسلوب كل من الرسامين في طريقة تناول المواضيع نفسها: لا سيما الأمكنة والشوارع وضياء الألوان في نور الظهيرة وتأثيرات حضور المرأة الموديل والملهمة التي ينسج حولها المعرض كثيراً من السرديات. بإمكان الزائر أن يتمتع بتأمل منظر خليج سان تروبيه عند غروب الشمس حين كان بونار يستكشف تداخل الأشكال والألوان في لوحة موقعة عام 1937، وفي آن واحد أن ينتقل إلى المنظر نفسه بتوقيع ماتيس في لوحة من أعماله المبكرة بأسلوب البقعة اللونية والتنقيطية في عام 1904، قبل عام من إطلاق الوحشية. أسلوب المقارنة انسحب على عديد من الأعمال المعروضة، لا سيما في طريقة تجسيد الطبيعة والمرأة العارية.
طبع أعمال بونار منذ نهاية القرن الـ19 الولع بـ”الأسلوب الياباني” أسوة بغالبية الفنانين الذين سبقوه، مبشراً بحداثة القرن الـ20، من خلال تركيزه على لعبة المنظور والتسطيح وتبسيط الخط وتمجيد اللون. مع بداية القرن الـ20 وطد بونار توجهاته الفنية التي تجلت بخاصة في رسمه المشاهد الداخلية للغرف والمنازل وللمناظر الطبيعية التي استوحاها من تنقلاته في المناطق الفرنسية، ومن أسفاره في الدول الأوروبية والعربية ومنها إسبانيا وإيطاليا وتونس والجزائر. وحين انتقل إلى النورمادي المنطقة المعروفة بجمالها الطبيعي أنجز هناك أجمل أعماله خصوصاً التي تتمحور حول الحدائق. وكانت من أحب الموضوعات لديه هي تلك التي تحوم فيها ريشته حول زوجته وملهمته مارثا التي كان يتعقبها في لحظات عريها واستحمامها وتبرجها بأنس عاطفي، في مناظر تدمج بين الخارج ومحتويات المكان من الداخل. تميز بونار بالترصيع الضوئي للألوان المخففة، حتى يبدو الاهتمام بدرجات اللون غاية في حد ذاته، وطريقة للتأثير في الروح، كما يقول هو نفسه: “لا يتعلق الإبداع برسم الحياة، بل بإضفاء الحياة على اللوحات المرسومة”.
هنري ماتيس النافذة المفتوحة
يقاسم ماتيس صديقه بونار عشقه اللون والتزيين الأرابسكي، وإن من مقتربات مختلفة، متأتية من الشرق الإسلامي، الذي هامَ به مكملاً المسار الذي بدأه الجيل الرومنطيقي من قبله (خصوصاً دولاكروا)، مستلهماً جماليات هذا الفن الذي يدمج الواقع بالفانتازيا، قوله: “كثيراً ما أحببت الشرق ووجدتني منجذباً إليه”. من “التنقيطية” انتقل ماتيس يستكشف الطبيعة الفرنسية برفقة صديقه أندريه دوران، ليقودا لاحقاً جماعة “الوحشية” نحو أسلوب تلويني جديد يقوم على استخدام اللون النقي كما يخرج من الأنبوب، خلافاً لكل قواعد التلوين، مع استبعاد التعبير عن الأحجام وطرق التظليل، باتجاه التبسيط في الفن والاعتماد على البديهة في رسم الأشكال على أنها سطوح من زخارف ألوان.
كان انبهار ماتيس بالشرق بداية، خلال معرض الفن الإسلامي في جناح مارسان عام 1903، إذ استوقفته وحدة القيم الجمالية الإسلامية في مختلف الفنون: المنمنمات والسجاد والخزف والأواني والحلي والنسيج والنحاس والخشبيات، وقطع الأثاث، التي كانت تعبق بمناخ الأرابيسك والزخرفة بتنوعها اللانهائي ضمن وحدة قيم جمالية وفنية واحدة يتناغم فيها الخط واللون، لكن الأكثر تأثيراً كان معرض الفنون الإسلامية في ميونيخ عام 1910.
زار الجزائر لكنه وجد ضالته في المغرب التي زارها مرتين، إذ أقام في طنجة، واجداً تجليات الشرق وضياء الألوان وروعة الزخارف شبيهاً بحيوية الألوان وتدفقها في المنمنمات الفارسية، التي اعتبرها ماتيس خطوة إلى الأمام من عتبة “الكريبون الياباني” الذي كان يشتريه الفنانون من دكاكين منطقة السين، إذ ينوجد اللون لنفسه، ممتلكاً جماله الخاص. في حوار أجرته معه مجلة l’art vivant عام 1925، حين سئل عن سبب اهتمامه بالفن الإسلامي، أجاب ماتيس “شعرت أنه نما في داخلي شغف اللون”. نوافذ جديدة فتحها هذا الفن أمامه خصوصاً طريقة التلوين في المنمنمات، التي تعتمد على تطبيق الألوان النقية على سطوح متجاورة، بطريقة مخالفة لدور الإملاء اللوني في تقليد الغرب منذ عصر النهضة.