حرية – (26/8/2024)
ريتشارد هاس
في أعقاب هجوم “حماس” في السابع من أكتوبر (تشرين الثاني) 2023، اتفق الرئيس الأميركي جو بايدن مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على أن إسرائيل لها الحق في الدفاع عن نفسها. ولكن في الأشهر التي تلت ذلك، تعاظمت الخلافات حول طريقة ممارسة هذا الحق. أعربت إدارة بايدن عن رفضها الحملة العسكرية العشوائية أحياناً التي شنتها إسرائيل في غزة، والقيود التي فرضتها على تدفق المساعدات الإنسانية، وفشلها في وقف بناء المستوطنات اليهودية الجديدة وهجمات المستوطنين على الفلسطينيين في الضفة الغربية، وإعطاء الأولوية للحرب ضد “حماس” على حساب المفاوضات الرامية إلى إطلاق سراح الرهائن. والأهم من ذلك أن الإدارة شعرت بالإحباط من فشل إسرائيل التام في طرح استراتيجية فعالة لحكم غزة بعد أفول “حماس”، وهو تقصير تفاقم بسبب رفضها تقديم أية خطة لمعالجة رغبة الفلسطينيين في الحكم الذاتي.
في الواقع، تتلقى إسرائيل 3.8 مليار دولار سنوياً على شكل مساعدات عسكرية أميركية، وطوال عقود من الزمان كانت الولايات المتحدة الداعم الأكثر موثوقية لإسرائيل. ومع ذلك أظهرت واشنطن تردداً ملحوظاً في مواجهة إسرائيل علناً في شأن غزة، ولم تنأ إدارة بايدن بنفسها عن إسرائيل إلا بعد مرور أكثر من أربعة أشهر رفضت خلالها تل أبيب معظم النصائح التي وجهتها واشنطن إليها سراً، وعلى رغم ذلك لم تتخذ إلا إجراءات ثانوية آنذاك، إذ فرضت عقوبات على عدد قليل من المستوطنين المتطرفين، وألقت مساعدات غذائية جواً فوق غزة، وبنت رصيفاً عائماً على ساحل القطاع لتسهيل تفريغ شحنات المساعدات، وأيدت قرارين رمزيين جداً صادرين عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة يخالفان تفضيلات إسرائيل. وفي مايو (أيار)، بعد سبعة أشهر من الحرب، أوقفت الإدارة تسليم بعض القنابل الكبيرة المصنوعة في الولايات المتحدة لتجنب وقوع مزيد من الضحايا المدنيين. وفي الشهر نفسه هددت بوقف شحن أنظمة عسكرية أخرى إذا شنت إسرائيل هجوماً شاملاً على مدينة رفح، معقل “حماس” الأخير، لكنها لم تنفذ ذلك لأنها اعتبرت أن هجمات إسرائيل على المدينة لم تكن شاملة. وإذا كان النجاح يقاس بمدى إقناع إسرائيل بتبني المسار الذي تريده واشنطن، فإن السياسة الأميركية تجاه إسرائيل منذ السابع من أكتوبر يجوز اعتبارها فاشلة.
والتوترات مع إسرائيل على مدى العام الماضي ليست سوى مثال واحد على مأزق مستمر، ولكن غالباً ما يتجاهل في السياسة الخارجية الأميركية، وهو يتمثل في كيفية إدارة الخلافات مع الأصدقاء والحلفاء. في اثنتين من أكبر الأزمات التي تواجه الولايات المتحدة في العالم اليوم، وهما الحرب في أوكرانيا والصراع في غزة، فإن السؤال يتمحور حول أفضل طريقة للتعامل مع شريك يعتمد على واشنطن ولكنه يقاوم نصائحها في بعض الأحيان. في كلتا الحالتين، استجابت إدارة بايدن بطريقة صامتة وعفوية، وغالباً ما كان ذلك من دون إحراز أي نجاح يذكر. ومن عجيب المفارقات أن الإدارة التي جعلت التحالفات الأميركية محور سياستها الخارجية وجدت صعوبة بالغة في إدارة الخلافات التي تنشأ في تلك العلاقات.
ولكي نكون منصفين، إن المشكلة تعود لما قبل إدارة بايدن بفترة طويلة. فهي جزء جوهري من التحالفات، سواء كانت تحالفات بحكم القانون [معترف بها رسمياً بموجب معاهدات أو قوانين] أو بحكم الأمر الواقع [تحالفات غير رسمية]، لأن أقرب الأصدقاء حتى ليست لديهم مصالح متطابقة. على مدى عقود عديدة، طورت الولايات المتحدة استراتيجيات واسعة للتعامل مع النزاعات مع الخصوم، باستخدام تكتيكات تتراوح بين اتفاقات الحد من التسلح والقمم الدبلوماسية والعقوبات الاقتصادية وتغيير النظام والحرب. ولكن عندما يتعلق الأمر بمعالجة الخلافات مع الأصدقاء، فإن تفكير واشنطن ونهجها أقل تطوراً وأضعف بكثير. في الحقيقة تمنح شبكة التحالفات الواسعة للولايات المتحدة ميزة تفوق كبيرة على الصين وروسيا، اللتين تملكان عدداً ضئيلاً من الحلفاء، ولكن في الممارسة العملية، غالباً ما تكون فوائد هذا التفوق أقل بكثير مما ينبغي.
ولكن النبأ السار هنا هو أن عقوداً من التاريخ تشير إلى أن بعض تكتيكات إدارة النزاعات مع الأصدقاء والحلفاء تعمل بشكل أفضل من غيرها. حري بواشنطن أن تستند إلى خبرتها الكبيرة، سواء كانت جيدة أم سيئة، لتقييم منهجياً هذا النوع من الخلافات حتى تتمكن من الحؤول دونها أو، بشكل أكثر واقعية، التعامل معها بشكل أفضل عندما تحدث. وعلى وجه الخصوص، يتعين على الولايات المتحدة أن تكون مستعدة للعمل بطريقة مستقلة أكثر، فتنتقد سياسات أصدقائها بشكل علني إذا اعتبرتها غير حكيمة، وتطرح سياسات بديلة خاصة بها. إذا فعلت واشنطن ذلك، فستسنح أمامها فرص أفضل لتحقيق ما قد يبدو مستحيلاً: تجنب التصدعات في علاقاتها القيمة فيما تحافظ في الوقت نفسه على مصالحها.
خلافات تاريخية
قد يتوقع المرء أن قوة الولايات المتحدة الهائلة تضمن امتثال الحلفاء، وهي غالباً ما تفعل ذلك. ولكن في كثير من الأحيان، لا تترجم القوة إلى نفوذ. في بعض الأحيان، يقاوم الحلفاء ببساطة التفضيلات الأميركية أو يتجاهلونها ويجهزون أنفسهم لتحمل العواقب. في أوقات أخرى، يحاولون التحايل على الإدارة، فيحشدون الجهات الفاعلة المحلية المتعاطفة، مثل الكونغرس ووسائل الإعلام والمانحين السياسيين، من أجل الضغط على البيت الأبيض لتغيير المسار. كانت هذه استراتيجية استخدمتها الصين القومية، إذ حظي “لوبي الصين” المؤثر بنفوذ هائل في واشنطن في وقت مبكر من الحرب الباردة، واستخدمت إسرائيل هذا النهج أيضاً. وهناك خيار آخر لشركاء الولايات المتحدة وهو تنويع محافظهم وملفاتهم الدبلوماسية، مما يقلل من اعتمادهم على واشنطن من خلال إيجاد رعاة جدد. على سبيل المثال، مع تدهور علاقاتهما مع الولايات المتحدة، اتجهت كل من السعودية وتركيا إلى روسيا والصين.
لماذا يجرؤ الحلفاء على تحدي واشنطن؟ لأن الأخطار عادة ما تكون أكبر بالنسبة إليهم مما هي عليه بالنسبة إلى الولايات المتحدة، وهذا التباين يمنحهم نفوذاً على رغم اعتمادهم على الدعم الأميركي. في كثير من الحالات، تكون مسائل الخلاف الرئيسة متمحورة حول مصالح الحليف الأمنية أو الاقتصادية، في حين أنها بالنسبة إلى الولايات المتحدة، مجرد واحدة من أولويات متعددة، مما يجعل واشنطن أقل تصميماً من الحليف على حل النزاع. علاوة على ذلك، إذا ابتعدت واشنطن عن حليف ما، مهما كانت أفعالها مبررة، فسيزعم بعض النقاد أنها لم تعد شريكاً موثوقاً به، مما قد يدفع الحلفاء إلى التصرف من دون مراعاة المصالح الأميركية ويشجع الخصوم على تحديها. ومثل هذه الاعتبارات تقيد الولايات المتحدة.
وبالتالي، فالنتيجة الجزئية المترتبة على ذلك هي تحول النزاع إلى قاعدة عامة وليس استثناء عندما يتعلق الأمر بعلاقات واشنطن مع أصدقائها وحلفائها. خلال الحرب العالمية الثانية، حدثت مناوشات بين الولايات المتحدة من جهة والمملكة المتحدة والاتحاد السوفياتي من جهة أخرى حول أفضل السبل لمتابعة الحرب. ودخلت واشنطن في مشاحنات مع حكومة الصين القومية في شأن استراتيجيتها الرامية إلى هزيمة الشيوعيين خلال الحرب الأهلية الصينية في أواخر الأربعينيات من القرن الـ20، ومع فرنسا وإسرائيل والمملكة المتحدة في شأن غزو تلك الدول لمصر خلال أزمة السويس عام 1956، ومع فرنسا في شأن بنية قيادة الناتو في الخمسينيات والستينيات، ومع جنوب فيتنام في الستينيات ومطلع السبعينيات في شأن الحكم والاستراتيجية العسكرية، ومع اليابان في الثمانينيات في شأن التجارة. ولأكثر من 50 عاماً، كانت واشنطن على خلاف مع حلفائها الأوروبيين في الناتو في مسألة الإنفاق الدفاعي. وخلال الفترة التي سبقت غزو الولايات المتحدة للعراق في عام 2003، لم تتمكن من إقناع معظم حلفائها بدعم هذه الخطوة.
لماذا يجرؤ الحلفاء على تحدي واشنطن؟ لأن الأخطار عادً ما تكون أكبر بالنسبة إليهم.
وربما تعد باكستان المثال الأبرز للصديق الصعب. فمنذ سبعة عقود على إنشائها في عام 1947، كانت البلاد واحدة من أكبر المتلقين للمساعدات الاقتصادية والعسكرية الأميركية. خلال الحرب الباردة، ساعدت باكستان الولايات المتحدة في احتواء الاتحاد السوفياتي وأسهمت في فتح القنوات الدبلوماسية بين واشنطن والصين. وبعد الغزو السوفياتي لأفغانستان عام 1979، برزت بصفتها الشريك الرئيس لواشنطن في تمرير الأسلحة إلى القوات المناهضة للسوفيات هناك. ولكن العلاقة غالباً ما كانت تتسم بخلافات مريرة حول برنامج باكستان النووي، وسجلها السيئ في حقوق الإنسان والديمقراطية، ودعمها طالبان والإرهاب، بما في ذلك إيواء أسامة بن لادن. ونتيجة لذلك، اعتبرت باكستان الولايات المتحدة صديقاً غير جدير بالثقة، في حين أن الولايات المتحدة رأت في باكستان مشكلة أكثر من كونها شريكاً.
وتعتبر تركيا مثالاً آخر على العلاقة بين الحلفاء في الظاهر التي أثارت إحباطاً شديداً لدى كلا الجانبين. كانت تركيا ركيزة لحلف الناتو خلال الحرب الباردة، وعضواً حاسماً في التحالف الذي انتصر على العراق خلال حرب الخليج، ودولة كانت تعتبر في وقت ما بمثابة دليل على أن الدول ذات الغالبية المسلمة يمكن أن تكون مؤيدة للغرب وديمقراطية ومتقبلة لإسرائيل. لكن واشنطن وأنقرة اختلفتا أيضاً حول الوجود العسكري التركي في قبرص، والتزام تركيا غير الكافي بالديمقراطية وحقوق الإنسان، وفي السنوات الأخيرة، سياستها الخارجية الموالية لروسيا، وإجحافها في حق الأكراد، وخلافاتها مع إسرائيل.
عند النظر إلى هذا التاريخ الطويل من النزاعات بين الولايات المتحدة وأصدقائها وحلفائها، تبرز ست استراتيجيات متباينة نسبياً لإدارة مثل هذه النزاعات. بعضها يعتمد على الترغيب، وبعضها الآخر على الترهيب. وتقر استراتيجيات أخرى بفكرة أن السلوك غير المرغوب فيه من الحليف لن يتغير، أو لا يمكن تغييره إلا إذا تبدل النظام. وفي الواقع، لا توجد طريقة واحدة تناسب جميع الحالات، ولكن بعضها أكثر فاعلية من غيرها.
قوة الإقناع
إن الإقناع هو الأداة الأساسية لإدارة التحالفات. ومن الأمثلة الجيدة على هذا التكتيك، الجهود التي بذلتها الولايات المتحدة على مدار عقود من الزمان لثني تايوان عن إعلان استقلالها بشكل رسمي. فمن المؤكد أن مثل هذا الإعلان من شأنه أن يثير رد فعل عسكري من الصين، ربما يتمثل في حصار أو غزو للجزيرة، مما قد يضطر الولايات المتحدة إلى اتخاذ قرار في شأن ما إذا كانت ستهب للدفاع عن تايوان أم لا. وأي رد فعل من جانب واشنطن، سواء قررت الإقدام أو التقاعس، سيكون مكلفاً. إذ أوضحت الإدارات الأميركية المتعاقبة لتايوان حجم المكاسب التي حققتها على رغم افتقارها إلى الاعتراف الدولي (فالجزيرة أصبحت الآن عبارة عن ديمقراطية نابضة بالحياة ذات اقتصاد مزدهر، وتمتعت بأكثر من 50 عاماً من السلام) وحجم الخسائر التي قد تتكبدها إذا سعت إلى الاستقلال. وربما الأمر الأكثر أهمية هو أن تايوان أصبحت تدرك أن الولايات المتحدة ستكون أقل ميلاً إلى التدخل نيابة عنها إذا ما اعتبرت تايوان هي التي بدأت الأزمة.
وفي هذا النوع من التكتيك ثمة مثال ناجح آخر يتعلق بإسرائيل. ففي يناير (كانون الثاني) 1991، وفي الساعات الأولى من عملية عاصفة الصحراء، أي الحملة العسكرية الأميركية الرامية إلى تحرير الكويت، أطلق الزعيم العراقي صدام حسين صواريخ سكود على إسرائيل لإجبارها على المشاركة مباشرة في الحرب، وبالتالي دفع الدول العربية إلى الانسحاب من التحالف الدولي الذي تشكل ضده. وكان القادة الإسرائيليون يسعون لأسباب واضحة إلى التوسل بحقهم إلى الدفاع عن النفس، بيد أن الرئيس الأميركي جورج بوش الأب أقنعهم بعدم الرد، بحجة أن دخول إسرائيل في الحرب قد يقوض هدفاً أكثر أهمية بالنسبة إليهم، ألا وهو هزيمة العراق. علاوة على ذلك، تعهد بأن الولايات المتحدة ستدمر مواقع إطلاق الصواريخ العراقية. وعلى رغم أن العلاقات بين بوش ونظيره الإسرائيلي رئيس الوزراء إسحاق شامير كانت متوترة، اتخذت الحكومة الإسرائيلية القرار الصعب بالامتناع عن الرد.
لكن بعض الجهود الأميركية الأخيرة الرامية إلى كبح جماح إسرائيل، وعلى رأسها محاولة تقييد حملتها العسكرية في غزة، أسفرت بلا شك عن نتائج أسوأ بكثير. في الواقع، أدت محاولات إدارة بايدن لثني إسرائيل عن تصعيد صراعها مع إيران إلى نتائج متباينة. ففي الأول من أبريل (نيسان) 2024، شنت تل أبيب غارة جوية على مجمع دبلوماسي إيراني في سوريا، مما أسفر عن مقتل عديد من كبار أعضاء فيلق القدس الإيراني. ولم تتلق إدارة بايدن سوى تحذير ضئيل في شأن الهجوم، وكانت قلقة من أن ذلك قد يؤدي إلى تصعيد الصراع غير المباشر في غزة إلى صراع مباشر وأكثر خطورة. وبعد أسبوعين، ردت إيران بوابل من المسيرات والصواريخ ضد إسرائيل. ومع أن الهجوم الإيراني لم يتسبب إلا في أضرار طفيفة، إلا أن إدارة بايدن، خشية حدوث دورة تصعيدية، نصحت إسرائيل بشكل سري بعدم الرد عسكرياً. وقال بايدن لنتنياهو “استفد من النجاح” [اغتنم الفرصة]، مضيفاً أنه إذا صعّدت إسرائيل، فستكون بمفردها. ولم تمتنع إسرائيل تماماً عن الرد، لكنها ردت بشكل محدود، فأطلقت عدداً من الصواريخ من طائرات خارج المجال الجوي الإيراني، ودمرت بطارية دفاع جوي بالقرب من منشأة نطنز النووية الإيرانية، ثم التزمت الصمت إلى حد كبير في شأن الهجوم. باختصار، امتثلت إسرائيل إلى حد كبير للنصيحة الولايات المتحدة، مما ساعد في تجنب وقوع أزمة أكبر.
تحقيق نتائج إيجابية
عندما يفشل تكتيك الإقناع وحده، تستطيع الولايات المتحدة أن تلجأ إلى تقديم الحوافز، وهي أداة أخرى من مجموعة أدوات إدارة التحالف. من الأمثلة البارزة على الاستخدام الناجح للحوافز والتقديمات، هو ما حدث في ثمانينيات القرن الـ20، عندما عارضت إسرائيل بيع الولايات المتحدة طائرات مراقبة “منظومة السيطرة والإنذار المبكر المحمولة جواً” (أواكس) للسعودية. أرادت الولايات المتحدة النزول على رغبة الرياض، لكن إسرائيل كانت قلقة في شأن الحفاظ على تفوقها العسكري على الدول العربية، فضغطت بقوة لمنع إتمام الصفقة. وفي المقابل، ضغطت إدارة ريغان بالقوة نفسها للتغلب على معارضة الكونغرس لها. وفي النهاية، توصل إلى حل وسط مفاده المضي قدماً في عملية البيع، ولكن بشروط، بما في ذلك ضمان عدم نقل أية معلومات تجمعها طائرات “أواكس” إلى أطراف ثالثة من دون موافقة الولايات المتحدة.
وإضافة إلى تهدئة الحلفاء، يمكن استخدام الحوافز لتشجيع سلوك قد لا يظهر بطريقة أخرى. لقد قدمت الولايات المتحدة مساعدات اقتصادية وعسكرية لمصر من أجل تعزيز قبضة الحكومة حتى تتمكن من الحفاظ على السلام مع إسرائيل، فضلاً عن أنها قدمت المساعدة لباكستان في سبيل تعزيز التعاون في مكافحة الإرهاب، والحفاظ على التعاون في أفغانستان، والاحتفاظ ببعض التأثير في الأقل في السياسة الداخلية والخارجية لإسلام أباد. واستطراداً قدمت المساعدة لتركيا من أجل تعزيز ضبط النفس في الشرق الأوسط وشرق البحر الأبيض المتوسط، ودعم حلف شمال الأطلسي، والحد من الاختراقات الروسية.
أما العقوبات فهي نقيض الحوافز. وعادة ما ينظر إلى هذه التدابير على أنها أسلحة تستخدم ضد الخصوم، ولكنها استعملت أيضاً ضد الأصدقاء. ففي عام 1956، مارست واشنطن مثل هذه الضغوط على فرنسا وإسرائيل والمملكة المتحدة بعد غزوها لمصر ومحاولتها السيطرة على قناة السويس. وفرضت عقوبات على تركيا في أعقاب تدخلها في قبرص واحتلالها لها في عام 1974، وعلى باكستان في عام 1990 بسبب برنامجها للأسلحة النووية، وعلى إسرائيل في عام 1981 بسبب قصفها مفاعل أوزيراك (تموز) النووي العراقي، وفي عام 1991 بسبب توطينها لليهود السوفيات في الأراضي المحتلة.
توزيع مساعدات إنسانية في ساحل غزة
لكن إذا كان الغرض هو تغيير سلوك [سياسات] الدولة المستهدفة، فإن نتائج هذه العقوبات لم تكن مشجعة عموماً. كان الاستثناء الوحيد هو أزمة السويس، عندما تراجعت فرنسا وإسرائيل والمملكة المتحدة في مواجهة الضغوط الاقتصادية الأميركية. ولكن هذه الحادثة وقعت في وقت كانت فيه بريطانيا ضعيفة بشكل خاص أمام الضغوط الاقتصادية الأميركية (لم يكن الجنيه الاسترليني قادراً على الحفاظ على قيمته من دون دعم واشنطن)، وكانت فرنسا تعتمد بشكل كبير على النفط من الشرق الأوسط، ولم تكن إسرائيل حشدت بعد درجة كبيرة من الدعم السياسي في الولايات المتحدة. في المقابل، لم ينجح التهديد بالعقوبات أو فرضها في وقف البرنامج النووي الباكستاني. ويمكننا أن نقول الأمر نفسه عن العقوبات التي كانت تهدف إلى إنهاء احتلال تركيا لقبرص.
ومع ذلك يمكن للعقوبات أن تكون قيمة باعتبارها أداة معيارية: فحتى لو فشلت في وقف النشاط غير المرغوب فيه، فهي تبقى قادرة على زيادة التكاليف بالنسبة إلى البلد الصديق والتعبير عن استياء الولايات المتحدة، وتوجيه رسالة أوسع نطاقاً إلى الأصدقاء الآخرين حول التفضيلات الأميركية. ومن الأمثلة البارزة على ذلك السياسة التي اتبعتها إدارة جورج بوش الأب تجاه إسرائيل في عام 1991، إذ بذلت الإدارة جهوداً كبيرة من أجل الضغط على الاتحاد السوفياتي للسماح لليهود بالهجرة وكانت تسعى إلى عقد مؤتمر سلام إقليمي بعد حرب الخليج. لذا شعرت الإدارة بالإحباط عندما قدمت الحكومة الإسرائيلية إعانات ووضعت سياسات أخرى لتحفيز هؤلاء اللاجئين على العيش في مستوطنات في الأراضي المحتلة، بخاصة وأن الحكومة الإسرائيلية طلبت من الولايات المتحدة ضمانات بقيمة 10 مليارات دولار في شكل قروض تهدف إلى تسهيل انتقالهم من الاتحاد السوفياتي. وحاولت إدارة بوش حمل الحكومة الإسرائيلية على إنهاء السياسات الرامية إلى توجيه اليهود السوفيات إلى المستوطنات، وعندما فشلت في ذلك، خفضت حجم القروض التي كانت ستضمنها، مما يدل على أن تجاهل مناشدات الولايات المتحدة له ثمن.
ولعل النهج الأكثر قسوة في التعامل مع الخلاف مع دولة صديقة هو السعي إلى الإطاحة بالحكومة المسيئة. كان هذا هو النهج الذي اتبعته إدارة كينيدي مع حليفها الفيتنامي الجنوبي المثير للمتاعب الرئيس نغو دينه ديم. في الواقع، بذلت الإدارة جهوداً كبيرة من أجل تعزيز آفاق ديم السياسية، ولكنها سرعان ما أصيبت بخيبة الأمل إزاء قيادته الفاسدة وغير الفعالة، واعتبرته عبئاً في الصراع ضد فيتنام الشمالية والفيتكونغ. وبلغت الأمور ذروتها في صيف عام 1963، عندما أوضح المسؤولون الأميركيون في سايغون أنهم ورؤساءهم في واشنطن سيرحبون بانقلاب يقوده كبار الضباط العسكريين. وبحلول الثاني من نوفمبر (تشرين الثاني)، لم يكن ديم خرج من السلطة فحسب، بل قتل أيضاً على يد الجنود الذين أطاحوا به. لكن قرار إدارة كينيدي لم يحقق التأثير المطلوب: وثبت أن خلفاء ديم كانوا غير قادرين أيضاً على كسب تأييد الشعب الفيتنامي وهزيمة الشمال. ولكن ما تمكن الانقلاب من فعله هو ربط الولايات المتحدة بشكل أوثق بحكومة فيتنام الجنوبية ومصيرها.
في عام 2024، جرت محاولة أحدث، وإن كانت أكثر تواضعاً بكثير، لتغيير النظام. كان زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ تشاك شومر، وهو ديمقراطي من نيويورك، وربما أبرز سياسي يهودي في الولايات المتحدة، محبطاً بشكل متزايد إزاء عدم اكتراث إسرائيل الواضح لحياة المدنيين في غزة. في الـ14 من مارس (آذار)، ألقى خطاباً في مجلس الشيوخ ينتقد فيه نتنياهو بشدة بسبب العدد الكبير للقتلى، ودعا إلى إجراء انتخابات جديدة في إسرائيل على افتراض أن تغيير القيادة سيؤدي إلى تغيير في السياسة. كانت دعوته بمثابة تعبير عن الاستياء صادر عن مؤيد قوي لإسرائيل، لكنها فشلت في إحداث أي تغيير في قيادة البلاد أو سياستها. والأسوأ من ذلك، أنها أتت بنتائج عكسية تمثلت في السماح لنتنياهو بتصوير نفسه على أنه زعيم وطني يقف في وجه التدخل الخارجي.
سياسة التغاضي
هناك خيار آخر أكثر سلبية للتعامل مع حليف مزعج، وهو غض النظر. فعوضاً عن إثارة مشكلة بسبب الخلاف مع صديق، تستطيع واشنطن أن تتجاهل الانتهاك، مدركة أن محاولات تغيير سلوك الشريك ستكون مكلفة للغاية أو ستبوء حتماً بالفشل، ويمكن أن ننظر إلى هذا الأسلوب باعتباره تجنباً دبلوماسياً.
مجدداً، تقدم إسرائيل مثالاً جيداً على فعالية هذا النهج. ففي الخمسينيات والستينيات من القرن الـ20، قررت إسرائيل أنها بحاجة إلى ترسانة نووية خاصة بها لمواجهة القدرات العسكرية التقليدية الهائلة التي يتمتع بها أعداؤها العرب، الذين رفضوا القبول بوجودها. وعارضت الولايات المتحدة بشدة البرنامج النووي الإسرائيلي، الذي انتهك الالتزام الأميركي بمنع انتشار الأسلحة النووية. ولكن مع مرور الوقت، قررت واشنطن عدم تضخيم الخلاف، إذ خلصت إلى أن إقناع إسرائيل بالتخلي عن سعيها إلى حيازة سلاح نووي ربما يكون مستحيلاً. في الواقع، كان لدى الولايات المتحدة أولويات أخرى أكثر أهمية في الحرب الباردة في الشرق الأوسط تتطلب التعاون مع إسرائيل، وكانت تمتلك أدوات مختلفة (بما في ذلك المساعدات العسكرية والضمانات النووية) قادرة على منع دول صديقة أخرى في المنطقة من تطوير برامج نووية. وربما تصور المسؤولون أيضاً أن إسرائيل النووية قد تقنع الحكومات العربية بأن الدولة اليهودية وجدت في المنطقة لتبقى فيها، مما يمهد الطريق لقبول وجودها وحتى إجراء محادثات سلام معها. وأصبح تجاهل الأمر أسهل بسبب قرار إسرائيل بعدم الاعتراف رسمياً بترسانتها والامتناع عن إجراء تجارب علنية لأسلحتها النووية. وبعد مرور أكثر من نصف قرن من الزمان، يبدو أن هذه السياسة كانت في محلها، إذ حل السلام بين إسرائيل وعدد من جيرانها، وحتى الآن لم تسع أية دولة أخرى في المنطقة إلى اتباع خطى إسرائيل والتسلح نووياً.
ولكن عندما يتعلق الأمر بالأنشطة الإسرائيلية الأخرى، ثبت أن أسلوب التجنب الدبلوماسي كان أكثر كلفة بكثير. فبعد انتصارها في حرب الأيام الستة عام 1967، بنت إسرائيل المستوطنات في جميع الأراضي التي استحوذت عليها في الصراع، أي في مرتفعات الجولان والضفة الغربية وغزة وسيناء. واعتبرت معظم الإدارات الأميركية هذه المستوطنات بمثابة عوائق أمام أي صفقات مستقبلية محتملة للأراضي مقابل السلام. ومع ذلك، لم يطالب أي رئيس أميركي (باستثناء جورج بوش الأب إلى حد ما) بأن تتوقف إسرائيل عن بناء المستوطنات أو توسيعها، ولم يهدد أي منهم بفرض عقوبات إذا لم تفعل ذلك. ولم يكن المسؤولون الأميركيون مهتمين بالدخول في صراع سياسي مع إسرائيل ومؤيديها في الولايات المتحدة في غياب اتفاق واعد بين إسرائيل والفلسطينيين. إذاً ليس من المستغرب أن عدد المستوطنات والمستوطنين ارتفع بشكل كبير على مدى السنوات الـ50 الماضية. ومثلما كان متوقعاً، حتى قبل السابع من أكتوبر، أصبح الترويج لإنشاء دولة فلسطينية أكثر صعوبة بين الإسرائيليين، لأن المستوطنين يمثلون شريحة كبيرة وقوية من الناخبين، وبين الفلسطينيين، إذ أصبحوا يشككون أكثر في أن السلام من شأنه أن يمنحهم السيطرة على أراض كبيرة ومتصلة الأطراف.
لا يمكن تجاهل الخلافات مع الحلفاء وتمني انقضائها بسرعة وبتبددها
لقد غضت الولايات المتحدة الطرف أيضاً عن أوكرانيا، إذ شكك عديد من المسؤولين الأميركيين في حكمة قرار أوكرانيا بشن هجوم مضاد كبير في عام 2023، خوفاً من أن هذا الهجوم لن يفشل فحسب، بل سيحول أيضاً الموارد الوازنة بعيداً من مهمة الدفاع عن الأراضي الخاضعة لسيطرة أوكرانيا بالفعل. وخشي آخرون من أن نجاح الهجوم المضاد قد يدفع روسيا إلى استخدام الأسلحة النووية، أو في الأقل التهديد باستخدامها. وكانت الإدارة مترددة أيضاً في الضغط من أجل أية مبادرة دبلوماسية تتطلب من أوكرانيا التنازل عن هدفها في استعادة جميع أراضيها التي خسرتها منذ عام 2014. لكن حكومة الولايات المتحدة كانت غير راغبة في مواجهة أوكرانيا، خشية أن يبدو الأمر وكأنها لا تبذل ما يكفي من الجهد نيابة عن صديق محاصر يقاوم العدوان.
في هذه الحالة، أسفر التجاهل عن نتائج عكسية. فمثلما كان متوقعاً، فشل الهجوم المضاد الذي شنته أوكرانيا في عام 2023 في تحقيق تقدم حاسم، مما أدى إلى استهلاك الذخائر والمعدات الثمينة، وأودى بحياة كثير من الناس. إضافة إلى ذلك، أعطى هذا الفشل حجة لأعضاء الكونغرس الذين عارضوا تقديم المساعدات لأوكرانيا، مما جعل من السهل عليهم الادعاء بأن تلك المساعدة لم تكن مرتبطة بسياسة قابلة للنجاح. في الواقع، كان من الأفضل لإدارة بايدن أن تضغط على أوكرانيا من أجل تبني استراتيجية دفاعية بمجرد استقرار الوضع في ساحة المعركة في منتصف عام 2022 وتوضيح الترتيبات الإقليمية التي قد تكون مستعدة لقبولها في مقابل وقف إطلاق النار الموقت. وكان من شأن هذا النهج أن يحافظ على القوى البشرية والموارد في البلاد، ويقنع روسيا بأنه لا يمكن لأي جهد هجومي من جانبها أن ينجح.
واتبعت الولايات المتحدة نهجاً متساهلاً [متغاضياً] تجاه الهند أيضاً. ففي السنوات الأخيرة، أعطت الإدارات الديمقراطية والجمهورية على حد سواء الأولوية للعلاقة الأميركية مع الدولة ذات العدد الأكبر من السكان في العالم من أجل التصدي للصين، وتوسيع التجارة والاستثمار الثنائيين، وبناء علاقة طيبة مع الجالية الهندية الأميركية الناشطة سياسياً. لكن هذه الاستراتيجية اقتضت التغاضي عن تفاقم النزعة الاستبدادية المتزايدة في داخل الهند، وعمليات القتل من دون محاكمة في الخارج، واستمرار علاقاتها الاقتصادية والعسكرية مع روسيا، مما جعل الولايات المتحدة تبدو أكثر انتهازية وأقل التزاماً بالمبادئ. وبمرور الوقت، فإن استراتيجية التغاضي قد تنطوي على أخطار، إذ إن ابتعاد الهند عن إرثها العلماني قد يجعل منها أمة أقل تماسكاً واستقراراً. علاوة على ذلك، فإن نهج واشنطن الذي يتجنب المواجهة يزيد من احتمال استمرار الهند في التحوط في سياستها الخارجية وبقائها شريكاً أقل موثوقية للولايات المتحدة.
حل بديل
إذا فشلت كل الأساليب الأخرى أو اعتبرت مكلفة للغاية، فهناك خيار قوي واحد متبق للتعامل مع الخلاف مع حليف، وهو التحرك بشكل مستقل. فعوضاً عن محاولة حمل دولة أخرى على تغيير سلوكها، تستطيع الولايات المتحدة أن تستخدم حلولاً بديلة وغير مباشرة مع تلك الدولة، فتعزز المصالح الأميركية على النحو الذي تراه مناسباً.
نتيجة لاستيائها من الحملة العسكرية في غزة، استخدمت إدارة بايدن هذا التكتيك ضد إسرائيل. ففي فبراير (شباط) 2024، وبعد استخدام حق النقض ضد ثلاثة قرارات لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة اعتبرتها غير عادلة تجاه إسرائيل، قدمت الولايات المتحدة اقتراحاً خاصاً بها يدعو إلى وقف إطلاق النار الموقت، على رغم الاعتراضات الإسرائيلية. وسرعان ما استخدمت الصين وروسيا حق النقض ضد الاقتراح بسبب تحيزه المفرط لمصالح إسرائيل، ولكن في الشهر التالي امتنعت الولايات المتحدة عن التصويت على قرار آخر كانت إسرائيل طلبت منها استخدام حق النقض ضده. وفي غضون ذلك، اتخذت إدارة بايدن أيضاً خطوات أحادية الجانب في غزة، فألقت المساعدات الغذائية جواً فوق القطاع وبنت رصيفاً عائماً على ساحل البحر الأبيض المتوسط لتجاوز القيود الإسرائيلية المفروضة على تدفق المساعدات الإنسانية. وفي مايو وضعت حظراً على تسليم القنابل التي تزن 500 و2000 رطل القادرة على التسبب في إصابات واسعة بين المدنيين، وكان تأثير كل هذه الإجراءات المستقلة محدوداً، إذ إنها لم تحقق نجاحاً يذكر في الحد من شدة الأزمة الإنسانية، لكنها أشارت إلى أن إسرائيل لا تملك القدرة على إملاء قرارات السياسة الأميركية.
وهناك مثال حديث آخر يتعلق بأوكرانيا، ففي عامي 2022 و2023 رفضت إدارة بايدن تزويد كييف بالطائرات والصواريخ البعيدة المدى والذخائر العنقودية. ولم تكن هذه السياسة بمثابة عقوبة، فهي لم تكن إجراء عقابياً اتخذ رداً على تصرفات خاطئة صادرة عن أوكرانيا، بل كانت بالأحرى قراراً أحادياً بالتوقف عن تقديم أسلحة اعتقدت واشنطن أنها ستكون غير فعالة بما فيه الكفاية وقد تؤدي إلى التصعيد.
ويمكن القول إن أبرز مثال على العمل بشكل مستقل كان الغارة العسكرية الأميركية في مايو 2011 التي أردت بن لادن، حينما كان يختبئ في مجمع قريب من الأكاديمية العسكرية الباكستانية. افترضت إدارة أوباما أن بعض المسؤولين الباكستانيين الكبار كانوا على علم بوجود بن لادن هناك وكانوا متعاطفين معه، فقررت عدم إبلاغ باكستان بتنفيذها للغارة. وعوضاً عن ذلك، دخلت القوات الأميركية محمولة جواً من دون إذن، منتهكة سيادة أراضي دولة صديقة في ما تبين لاحقاً أنه مهمة ناجحة. وخلص المسؤولون الأميركيون عن حق إلى أن التحديات كانت مرتفعة للغاية بحيث لا يمكن إبلاغ الحكومة الباكستانية وتعريض العملية للخطر، وأن العلاقة بين الولايات المتحدة وباكستان كانت متوترة على أية حال لدرجة أن تأثير هذا التعدي سيكون ضئيلاً على الأرجح.
إلا أن العمل المستقل يمكن أن يتجاوز الحدود. لنأخذ مثلاً السياسة الأميركية الأخيرة في أفغانستان. في فبراير 2020، رأت إدارة ترمب أن لا طريق إلى النصر العسكري أو التفاوض على السلام بعد عقدين من الحرب، فقررت التفاوض سراً مع طالبان وتوقيع اتفاق لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في البلاد من دون إبلاغ الحكومة الأفغانية. وأدى الاتفاق إلى تقليص الوجود الأميركي، ولكنه جاء بكلفة باهظة، إذ قوض معنويات الحكومة الأفغانية، ومهد الطريق أمام طالبان لاستعادة السيطرة على البلاد بعد 18 شهراً، فاستولت على كابول وانهارت الحكومة الأفغانية. كان من الممكن أن تتراجع إدارة بايدن عن الاتفاق مع طالبان، وكان هناك احتمال كبير بأن تتمكن الحكومة الأفغانية من الصمود لو حافظت واشنطن على وجود عسكري صغير نسبياً من خلال إبقاء آلاف عدة من الأفراد في أدوار غير قتالية. لم تكن هذه السياسة تعد بتحقيق السلام أو النصر، ولكن بالمقارنة مع ما حدث، كانت على الأرجح لتكون أفضل بكثير للشعب الأفغاني، ولسمعة الولايات المتحدة.
عندما تتشاجر الدول الصديقة
عدد كبير من سياسات الولايات المتحدة تجاه حلفائها مبني على افتراض أن التوافق هو القاعدة، وأن الاختلاف هو الاستثناء. ويعتقد صانعو السياسات ضمناً أن إمكان إيجاد أرضية مشتركة ينبغي أن يكون ممكناً في غالب الأحيان، نظراً إلى مدى اعتماد حلفاء الولايات المتحدة عليها وسهولة استغلال واشنطن لمواردها الضخمة لمعاقبتهم أو دعمهم. لكن هذه الثقة في غير محلها. فالخلافات مع الدول الصديقة تعد حالة شائعة في السياسة الخارجية الأميركية، لا يمكن تجاهلها.
إن الخطوة الأولى لمعالجة المشكلة بشكل مباشر هي فهم أي أساليب تنجح وأيها تفشل، ومتى. قد يكون أسلوب الإقناع صعباً أو مستحيلاً عندما يرى الصديق أن مصالحه الأساسية في خطر. ومع ذلك فالحوار الاستراتيجي الصادق حول القضايا الأكثر حساسية، يمكن أن يؤدي إلى تجنب الأزمات والمفاجآت في العلاقة إذا أجري سراً وقبل اتخاذ قرار سياسي. وحتى إذا فشل هذا الجهد، يمكن الاستشهاد به لتبرير قرار اللجوء إلى أساليب أخرى.
ما الذي قد يعنيه ذلك عملياً؟ مع إسرائيل، يجب على واشنطن أن توضح رؤيتها في شأن الردود الدبلوماسية والعسكرية على برنامج إيران النووي و”حزب الله”، وما تريده من إسرائيل شأن الفلسطينيين والسلطة الفلسطينية في غزة والضفة الغربية. عليها أيضاً إجراء مناقشات صادقة، وإن كانت صعبة، مع أوكرانيا، لتقديم حجة تدعم تبني نهج عسكري دفاعي بشكل رئيس، ومبادرة دبلوماسية تجسد الحقائق على الأرض.
وفي الواقع، إن الحوافز بطبيعتها تجعل الإقناع أكثر فعالية، ويبدو أن هذا الأسلوب يعمل مع السعودية: إذ تبحث الرياض في تطبيع علاقاتها مع إسرائيل والحد من علاقتها مع الصين في مقابل ميثاق أمني مع الولايات المتحدة ومساعدة نووية مدنية. مع أوكرانيا، يمكن للولايات المتحدة أن تتعهد بتقليص القيود المفروضة على استخدام الأسلحة الأميركية وتقديم مساعدات عسكرية طويلة الأجل وضمانات أمنية، كل ذلك لإقناع كييف بتبني استراتيجية عسكرية أكثر دفاعية وإعلان استعدادها من حيث المبدأ لقبول وقف إطلاق نار موقت. ومع تايوان، يمكنها أن تعد بشكل أكثر وضوحاً بالتدخل في حال حدوث غزو صيني (سياسة تعرف أحياناً باسم “الوضوح الاستراتيجي”)، مع تأكيد أن تايبيه بحاجة إلى ممارسة ضبط النفس في قضايا المضيق والاستثمار أكثر في دفاعها. مع إسرائيل، يمكنها أن توافق على دعم خطة لإرساء الاستقرار في غزة أو تغطية تكاليف أي اتفاق سلام مع الفلسطينيين، من خلال تقديم مساعدات عسكرية إضافية لمواجهة أي تهديدات متزايدة ناتجة من خسارة الأراضي، ومساعدات اقتصادية لدفع تعويضات لأولئك الذين سيطلب منهم إخلاء المستوطنات.
أما التاريخ المتعلق بالعقوبات، فلا يوحي بالثقة. عندما تستخدم العقوبات ضد الأصدقاء، تكون أكثر فعالية في إظهار استياء الولايات المتحدة لا في تغيير السلوك. وإذا استمر السلوك المسيء بعد فرضها، مع مرور الوقت، ستعطى الأسبقية لاعتبارات أخرى وستخفف التدابير أو تزال بالكامل، مما يجعل الولايات المتحدة تبدو ضعيفة ومنافقة. كقاعدة عامة، قبل فرض عقوبات على صديق، ينبغي على واشنطن أن تأخذ في الاعتبار ما إذا كانت ستستمر في تنفيذ هذه العقوبات، نظراً إلى أن مصالح أخرى ستتدخل بشكل حتمي. وإذا قررت السير في هذا الاتجاه، فيجب أن تكون العقوبات محددة الهدف.
وتجدر الإشارة إلى أنه ينبغي تجنب استخدام أداة التغيير الأكثر قسوة، وهي تغيير النظام. فمن غير المرجح أن تؤدي إلى قيادة جديدة، وحتى إذا حدث ذلك، فلا شيء يضمن أن النظام الجديد سيكون مفضلاً ودائماً. في السياسة الخارجية، نادراً ما نجد أموراً أصعب من هندسة الشؤون الداخلية لدولة أخرى، ومحاولة القيام بذلك مع حليف ستؤدي بشكل شبه مؤكد إلى نتائج عكسية، إذ إنها تحول التركيز بعيداً من الخلافات الجوهرية، وتعطي الجهة المستهدفة فرصة لاستخدام ورقة القومية الرابحة لصالحها [أي استحضار القومية لحشد الدعم المحلي]، وإثارة تساؤلات غير مريحة في عواصم الحلفاء الأخرى.
وحينما يكون من شبه المستحيل التأثير في سلوك دولة صديقة أو عندما تكون هناك مصالح كبيرة أخرى على المحك تحول دون المواجهة، يمكن أن يكون التغاضي خياراً منطقياً، ومع ذلك فإن هذا التكتيك لا يكون منطقياً عندما تمتلك الولايات المتحدة نفوذاً كافياً أو عندما تكون كلفة التغاضي عن المشكلة مرتفعة.
ومن الجدير بالذكر أن هناك قاسماً مشتركاً بين أساليب الإقناع والحوافز والعقوبات والتغاضي: إنها تترك المبادرة في يد الدولة الصديقة أو الحليفة، مما يفسر نتائجها غير المرضية. إذاً فالخيار الوحيد الذي يمنح السيطرة للولايات المتحدة هو العمل بشكل مستقل، يمكن أن يكون اللجوء إلى أساليب بديلة وغير مباشرة مع الحليف [التحايل على الحليف] جذاباً عندما تفشل أو تستبعد الخيارات الأخرى وتكون المصالح الأميركية ما زالت تتطلب اتخاذ تدابير.
مع إسرائيل، يمكن للإدارة الأميركية توسيع نطاق استراتيجياتها الحالية للوصول إلى نتائج أكثر تقدماً. على سبيل المثال، يمكن أن تطلب تصنيف السلع المصنوعة في المستوطنات الإسرائيلية على أنها قادمة من الأراضي المحتلة عوضاً عن تصنيفها على أنها “مصنوعة في إسرائيل”، مما يعيد العمل في سياسة كانت إدارة ترمب ألغتها. واستكمالاً، يمكن للولايات المتحدة أن تتوقف عن تلطيف اعتراضها على المستوطنات وتصفها بأنها “غير قانونية” عوضاً عن اعتبارها مجرد “عقبات أمام السلام” أو “غير متوافقة مع القانون الدولي”، وأن تدعم قراراً في مجلس الأمن الدولي يعبر عن ذلك. ويمكنها أن تبذل مزيداً من الجهود من أجل إصلاح السلطة الفلسطينية وتقويتها. علاوة على ذلك، تستطيع أن تعلن بوضوح عن رؤيتها بشأن الحكم في غزة وتضغط من أجل تحقيق حل أوسع للصراع الإسرائيلي – الفلسطيني.
اللجوء إلى أساليب بديلة وغير مباشرة مع الحليف قد يكون جذاباً عندما تفشل الخيارات الأخرى.
في أوكرانيا، على سبيل المثال، تستطيع الولايات المتحدة أن تشترط أن الأسلحة التي تقدمها لا يمكن استخدامها في هجوم مضاد جديد، وأن المساعدات العسكرية لن تستمر إلا إذا التزمت أوكرانيا بقبول وقف إطلاق النار الموقت بناء على التقسيم الإقليمي الحالي. (للتوضيح، لن تضطر أوكرانيا إلى التخلي عن مطالبها الإقليمية أو قدرتها على إعادة التسليح أو خيار الانضمام إلى التحالفات كشرط للمساعدات). وما سينتج من ذلك لن يكون سلاماً، بل هدنة قادرة في الأقل أن توقف الحرب، بحسب ما أظهرته تجربة شبه الجزيرة الكورية.
يجب أن تشمل الإجراءات المستقلة أيضاً استعداداً لانتقاد السياسات علناً أو حتى الانضمام إلى النقاشات السياسية الداخلية في دول أخرى. لقد عمل قادة إسرائيل وأوكرانيا وتايوان جميعهم مع المشرعين ووسائل الإعلام، وينبغي على رؤساء الولايات المتحدة أن يتبعوا أساليبهم ويحذوا حذوهم. في عام 2015 تحدث نتنياهو إلى الكونغرس لتقديم حجة ضد الاتفاق النووي الإيراني الذي طرحته إدارة أوباما، وفي يونيو (حزيران) 2024، سجل فيديو زعم فيه زوراً أن إدارة بايدن تهدد أمن إسرائيل من خلال احتجاز الأسلحة والذخائر. كان من المفترض أن يطلب أوباما الحصول على وقت مماثل في الكنيست لعرض موقفه في شأن الصفقة النووية على الشعب الإسرائيلي، وكان يتعين على بايدن أن يدخل غرفة المؤتمرات الصحافية في البيت الأبيض ويطالب نتنياهو بتقديم اعتذار له بسبب تحريف الحقائق. في مثل هذه الحالات، ما هو مطلوب هو حب صارم [أي النهج الحازم وعدم التهاون لمعالجة الوضع بشكل فعال]، أو في الأقل حباً أكثر صرامة.
تجدر الإشارة إلى أن الإجراءات المستقلة ليست علاجاً سحرياً، إذ إنها لا توقف السلوك المزعج، على رغم أنها قد تدفع الشريك للتراجع، لكنها تتيح للولايات المتحدة حماية نفسها والتعويض عن بعض العواقب السلبية، وتساعد في الحفاظ على العلاقة في حين تذكر الحليف في الوقت نفسه بأن الولايات المتحدة لديها خياراتها الخاصة. وعلى المدى الطويل، يمكن أن يظهر هذا التكتيك التكاليف المترتبة على عدم أخذ التفضيلات والمصالح الأميركية في الاعتبار. وفي نهاية المطاف، يجب أن يكون محور أي استراتيجية أميركية تجاه حليف لا تتفق معه على مواقف معينة هو تحقيق مصالحها من دون إحداث ضرر لا يمكن إصلاحه في علاقة ثمينة بالنسبة إليها.
*ريتشارد هاس هو الرئيس الفخري لمجلس العلاقات الخارجية ومستشار أول في شركة “سنتر فيو بارتنرز” المصرفية Centerview Partners ومؤلف كتاب “الالتزامات: العادات العشر للمواطنين الصالحين”.
مترجم من “فورين أفيرز”